في مثل هذا اليوم من سنة 1961 قمعت الشرطة الفرنسية بباريس مظاهرة لجزائريين بإطلاق النار عليهم فقتلت المئات منهم وألقت بالعشرات في نهر السين بعد أن كبلت أيديهم بالأصفاد لتتركهم يموتون غرقا، ومثلت هذه الحادثة منعرجا حاسما في ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، لكن التاريخ أهمل بين دفاتره حادثة سابقة من نفس النوع وقعت في التاسع من مارس بعد سنتين من اندلاع الثورة بالجزائر، حيث فتحت النار على جزائريين متظاهرين في باريس قبل أن تغرق عددا منهم في نفس النهر.
ويوجد بموقع المعهد الوطني الفرنسي للسمعي البصري شريط فيديو صامت يبلغ طوله حوالي دقيقتين ويسجل لقطات من مظاهرات المهاجرين الجزائريين بباريس يوم التاسع من مارس 1956 ضد قانون السلطات الخاصة، وقد جاءت تلبية لنداء الحركة الوطنية الجزائرية، حيث يظهر في شريط الفيديو المئات من أفراد الشرطة الاستعمارية الفرنسية متجمعين بالإضافة إلى عشرات الشاحنات التابعة لهم مركونة بالشارع فضلا عن حركة عادية للمواطنين الفرنسيين، في حين تصور إحدى اللقطات مجموعة كبيرة من الجزائريين محاطين بأفراد من الشرطة الفرنسية.
الحادثة ما تزال غير معروفة
وعاد المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا خلال محاضرة ألقاها شهر ديسمبر من السنة الماضية بالمعهد الفرنسي بقسنطينة إلى الحادثة، أثناء حديثه عن دور المهاجرين الجزائريين في الحركة الوطنية، حيث قال إنها ظلت مجهولة لأكثر من نصف قرن ولم تشر إليها أي من الجرائد آنذاك، ويبدو بأن إخفاء المعلومات عنها تم من طرف السلطات الاستعمارية وبشكل عمدي، في حين أفاد في هامش مقال منشور على موقع “ميديابارت” منذ ست سنوات بأن الحادثة أدت إلى مقتل 11 مهاجرا جزائريا من المتظاهرين، منهم من سقط برصاص الشرطة، فيما توفي الآخرون بعد أن أغرقوا في نهر السين.
وأضاف بنيامين ستورا في نفس المقال بأن تعامل الشرطة الفرنسية مع المتظاهرين الجزائريين بفتح النار يعود إلى ما قبل اندلاع الثورة، وقد أشار في مقالة سابقة منشورة بجريدة لوموند بأنه خلال احتفالات 14 جويلية من سنة 1953 بباريس نظم المهاجرون الجزائريون المنضوون تحت لواء حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وعندما أنهوا المسيرة التي جرت بشكل سلمي ومنظم قابلت الشرطة الصف الأول من حاملي الأعلام واللافتات وانهالت عليهم بالضرب بالهراوات فدافعوا عن أنفسهم، لكن عناصر الشرطة تراجعوا وفتحوا النار عليهم ما أدى إلى قتل ستة متظاهرين وجرح 44 آخرين. ورد الجزائريون المهاجرون بأن حضر 20 ألفا منهم لجنازة القتلى بعد أسبوع من الحادثة.
قانون السلطات الخاصة رفع مستوى القمع الممارس على الجزائريين
وجاءت مظاهرات التاسع من مارس 1956 بقيادة مصالي الحاج، احتجاجا على مقترح القانون الذي قدمه الوزير الفرنسي الاشتراكي المقيم في الجزائر “روبير لاكوست” آنذاك، حيث سمي بقانون “السلطات الخاصة” والذي ينص على منح السلطات الاستعمارية في الجزائر صلاحيات واسعة من أجل ما أسموه بـ”إعادة النظام إلى إقليم الجزائر وحمايته وحماية الأشخاص والممتلكات” وقد تم التصويت عليه بالفعل بعد  ثلاثة أيام من المظاهرات من طرف مختلف الأطياف المشكلة للبرلمان الفرنسي، بما في ذلك الحزب الشيوعي الفرنسي الذي منح 146 صوتا للقانون، واعتبره ناشطو أقصى اليسار من الفرنسيين بـ”الفعل المشين”، لأن هذا القانون أدى إلى رفع مستوى القمع الاستعماري الممارس على الشعب الجزائري بشكل كبير. وقد تضاعف عدد الجنود الفرنسيين في الجزائر من مائتي ألف إلى 450 ألفا كما أمضي بعد 5 أيام من التصويت مرسوم ينص على فرض القانون العسكري في الجزائر المحتلة آنذاك.
وتتحدث بعض المصادر الجزائرية عن أن عدد المشاركين من الحركة الوطنية في مظاهرات التاسع من مارس المناهضة للقانون المذكور والمطالبة بالاستقلال قد تجاوز الثلاثين ألف مهاجر، مشيرة إلى أن عدد  القتلى قد قدر بالعشرات فيم تم اعتقال أكثر من 2700 جزائري، لتجدد الحركة بعد  أربعة أيام نداء بالإضراب احتجاجا على المصادقة على قانون السلطات الخاصة، حيث شن أكثر من 5 آلاف جزائري يوم 29 مارس من نفس السنة إضرابا طالبوا فيه بالإفراج عن المعتقلين الجزائريين، لكنها لم تشر إلى حادثة إغراق الجزائريين في نهر السين، كما يحتمل بأن المهاجرين الجزائريين تعرضوا إلى حوادث قمع مشابهة من قبل لكنها ما تزال غير معروفة.
جذور حادثة أكتوبر 1961 تعود إلى مارس 1956
ويربط المؤرخ بنيامين ستورا حجم العنف الذي مورس على المتظاهرين الجزائريين في 17 أكتوبر من سنة 1961 من طرف الشرطة الفرنسية بحادثتي مارس 1956 وجويلية 1953 حيث يقول في مقالته المنشورة بموقع “ميديابارت”، “في أكتوبر من سنة 1961 كانت الشرطة الفرنسية كانت مسبوقة بإطلاق النار على المتظاهرين الجزائريين ... وقد انتقلت الحرب من الجزائر إلى فرنسا باغتيال مناضلين جزائريين وأفراد من الشرطة، فالممارسات القمعية مرتبطة بالمخيال الاستعماري، لأن الجزائريين المهاجرين الذين كانوا غير معرفين -لا هم جزائريون ولا هم مواطنون فرنسيون ولا أجانب ولا هم فرنسيون مسلمون- اعتبروا تهديدا للمجتمع الفرنسي ونوعا من “الطابور الخامس” ما أدى إلى إعادة إحياء أسطورة المؤامرة. كما أن غرابة وضعهم القانون جعلتهم محل شكوك من الشرطة.”
وتكررت الحادثة بعد خمس سنوات، لكنها كانت عبارة عن مجزرة حقيقية فقد قمعت الشرطة الفرنسية بقيادة موريس بابون مظاهرة خرج فيها 65 ألف جزائري بالرصاص ما أدى إلى سقوط ضحايا بالمئات بالإضافة إلى المئات من الذين ألقوا في نهر السين وماتوا غرقا، في حين أدت أيضا إلى تسجيل آلاف الجرحى وعشرات الآلاف من الموقوفين، وذنبهم الوحيد أنهم احتجوا على قانون حظر التجوال الذي كان مفروضا عليهم بباريس.
سامي حباطي

الرجوع إلى الأعلى