ربورتاج ياسمين بوالجدري

 

تصنع لندن بتنوعها الثقافي و العرقي نموذجا نادرا من التعايش داخل المملكة المتحدة و القارة العجوز، لتكون عاصمة عالمية تُحترم فيها حرية المعتقد و الفكر، رغم الكراهية التي تتنامى ضد المهاجرين ببلدان مجاورة، لكن العديد من البريطانيين و الأوروبيين المقيمين بإنجلترا، يتخوفون اليوم من تداعيات استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي على مستقبلهم ببلد قد يصبح معزولا، فيما يخشى العديد من الجزائريين الذين يعيشون هناك، من احتمال تأثر تنقلاتهم نحو باقي الدول الأوروبية.. متناقضات رصدتها النصر في رحلتها لبلاد اجتمعت فيها الحضارة بالحداثة، فكانت بريطانيا العظمى.

في رحلة علمية ممتعة و بصحبة مجموعة من التلاميذ و الطلبة المتميزين، سافرت «النصر» مع أعضاء جمعية الشعرى لعلم الفلك التي يرأسها البروفيسور جمال ميموني، لاستكشاف أهم المعالم التاريخية و السياحية بإنجلترا، و قد كان مقر إقامتنا بمنطقة أوربينغتون التي تبعد عن مدينة لندن بحوالي نصف ساعة.. الحي هادئ و يتميز بمنازله البيضاء و البنية المصنوعة من الخشب و القرميد، و التي تجمع بين البساطة و الأناقة الانجليزية، كما أن معظمها بطابقين فقط و لا تفصلها عن الشارع أي أسوار، بل حدائق منزلية جميلة و باقات ورود تُزين مداخلها، وسط شوارع اكتست جميعها لونا أخضر يبعث الراحة في النفس.
حتى المدارس كانت مفتوحة على الطريق و لا تبعد كثيرا عن فضاءات لعب الأطفال، الذين يستحيل أن تجدهم يلهون في الشوارع بمفردهم، فهم دائما بصحبة أوليائهم، أما البالغون فيفضلون في حال عدم التوجه للدراسة أو العمل، ممارسة رياضة الجري أو التجول بالدراجات الهوائية، فيما يختار كبار السن على وجه الخصوص، التنزه مع حيواناتهم الأليفة.


نظام «جي.بي.آس» للتنقل و قوانين المرور مُقدّسة


للتنقل بين شوارع و مدن إنجلترا كان علينا استعمال نظام «جي.بي.آس» الذي يلجأ إليه حتى السكان، نظرا لكثرة التفرعات و مفترقات الطرق و تعقيد الحركة ببعضها، خصوصا بالنسبة لمن لم يتعوّدوا على قيادة السيارات في الجهة اليسرى، لكن اللافتات التوجيهية كانت موجودة بكثافة و بشكل منظم، حتى أن بعضها إلكترونية و تتغير حسب سيولة حركة المرور، و في جميع الأماكن التي زرناها و حتى بأرقى الأحياء، وجدنا سهولة في الركن بالنقاط المسموحة، و لم يعترض طريقنا أي حارس حظيرة مثلما نراه عندنا في الطرقات! لم نكن نسمع أصوات منبهات السيارات رغم الازدحام المروري الذي يحدث أحيانا، فكل سائق يسير في الرواق المخصص له و يحترم إشارات المرور و مسافة الأمان، كما أن تواجد رجال الشرطة كان شبه منعدم، لكن كاميرات المراقبة كانت مثبتة في كل مكان.. بإنجلترا إذا أردت اجتياز الطريق يكفي أن تقف قرب ممر الراجلين لتتوقف فورا السيارات القادمة في الاتجاهين، أما إن كان الممر مزودا بالإشارات الضوئية، فلا مجال للعبور قبل رؤية الإشارة الخضراء الخاصة بالراجلين. ولا يمكنك أن تشعر بالملل أو الضجر عند التنقل بين المدن الانجليزية، فالمزارع و الأشجار و الحدائق العامة منتشرة على مد البصر، و قد لفتت انتباهنا إحداها بعبارة «الطريق إلى جنة الخلد» التي كانت مدونة بمدخلها، كما تصنع مشاهد تلك القصور الصغيرة و الجسور الخشبية المنجزة فوق الوديان و كذا التوربينات الهوائية و الأبقار و الأحصنة، ديكورا يأسر كل من يراه و يُشعره بالاسترخاء.

مواصلات حديثة لا تعرف التأخير

للذهاب إلى مركز مدينة لندن  كان علينا استعمال القطار و  الميترو بدل السيارات التي قمنا باستئجارها، لأن دخول لندن مكلف جدا، و بمساعدة أعضاء الشبكة الجزائرية للأكاديميين و العلماء و الباحثين و على رأسهم الدكتور أسامة مطاطلة، استطاع الوفد أن يتنقل بسهولة بمرافقة دكاترة و طلبة جزائريين، حيث كان علينا في البداية شراء بطاقات «أويستر» المستعملة في التنقلات بالباص و القطار و الميترو، إذ يكفي تسديد 9.3 جنيه إسترليني للتنقل في اليوم الواحد، بين المنطقة الأولى  و الرابعة لبلدية لندن، أو 11.8 جنيه إن كنت تريد التنقل إلى غاية المنطقة السادسة و لعدد مرات غير محدود، مع إمكانية حصول الطلبة على تخفيض بالثلث. توجهنا إلى محطة قطار «سانت ماري كراي» جنوب غرب لندن، و هناك قال لنا موظف الاستقبال أن التنقل إلى محطة المترو يستغرق 20 دقيقة، ثم قدّم لنا خرائط صغيرة تساعدنا في تحركاتنا، و فعلا، في ظرف 20 دقيقة بالضبط وصلنا على متن عربة عصرية و نظيفة، إلى وجهتنا بمحطة «فيكتوريا» بحي «ويستمينستر»، و التي تعد واحدة من أكبر محطات الميترو بالمملكة المتحدة المعروفة بقطار أنفاق يُعتبر الأقدم و الأطول في العالم. عند دخول محطة الميترو اعتقدنا للحظة أننا داخل مطار «هيثرو» بلندن، فقد وجدنا أنفسنا وسط ساحة ضخمة تعجّ بحشود بشرية لا تتوقف عن الحركة.. المحطة تضم عددا كبيرا من محلات الخدمات و الإطعام السريع و قاعات الكافيتيريا، و قد عُلقت بأعلاها العشرات من اللوحات الالكترونية التي تحدد تواريخ الرحلات في الخطوط الداخلية و حتى باتجاه خارج انجلترا، و بمرافقة طالبين جزائريّيْن قدما لتوجيهنا بمساعدة الشبكة الجزائرية للأكاديميين و العلماء و الباحثين، ركبنا الميترو دون أن نفوتّ فرصة اقتناء جريدة «ميترو»، اليومية المجانية الأكثر شعبية في العالم، و قد لفتنا أثناء الرحلة، أن الكثير من الركاب كانوا يطالعون الجرائد .

هنا يمكن أن تجد قطعة من القمر!

بعد رحلة قصيرة و مريحة وصلنا إلى محطة «هاي ستريت كينسيغتون» غير البعيدة عن السفارة الجزائرية و الواقعة بحي «كينسيغتون» المعروف بسكانه البرجوازيين و بالأسعار الخيالية لسكناته.. كل شيء في المكان أشعرنا و كأننا بدأنا رحلة أسطورية في عمق التاريخ، عشنا تفاصيلها بتلك البنايات الراقية و العريقة ذات التصاميم المعمارية الفريدة، و التي لا يخلو معظمها من رسوم و زخرفات تؤرخ للحضارة الأوروبية و عصور النهضة الفكرية و الفنية.. بعد دقائق من المشي وصلنا إلى متحف التاريخ الطبيعي المنجز في القرن التاسع عشر، و هو عبارة عن تحفة فنية ضخمة تُبهر من يراها من فرط الزخارف التي تزين واجهاتها الأربع و أشكال نوافذها المنمقة، إضافة إلى بوابتها الرئيسية دائرية الشكل و الفريدة، بحيث يزيد علوها عن 7 أمتار و تتوسط برجين مرتفعين.
 بعد  حوالي نصف ساعة من الانتظار في طابور طويل ضم الكثير من السياح.. دخلنا المتحف، و هناك يستقبلك عند المدخل و وسط ساحة كبيرة، هيكل عظمي بطول 25 مترا لديناصور «ديبلودوكيس»، الحيوان النباتي الأضخم الذي عاش على وجه الأرض قبل 150 مليون سنة.. و من هنا يبدأ الزائر رحلة علمية مميزة، بالتجول بين أجنحة تعرض تطور الإنسان و النباتات و الحيوانات عبر العصور، و خصوصا الكائنات المنقرضة و الديناصورات التي أفرد لها حيز كبير و لاحظنا أنها استقطبت أكبر عدد من الزوار و خصوصا الأطفال.. المتحف يُعدّ كنزا و مرجعا مهما للباحثين و يتطلب الاطلاع على جميع زواياه عدة ساعات، نظرا لضخامته و للكم الهائل من المعروضات و المستحثات الموجودة به.توجهنا بعد ذلك صوب متحف العلوم الذي يبدو في تصميمه المعماري أكثر حداثة.. عند الدخول وجدنا في استقبالنا شبابا كانوا يوزعون ملصقات توجيهية على الزائرين و يمررونهم على معابر صغيرة، و بينما كنا نجهز أنفسنا للدخول تفاجأنا بأحد هؤلاء الشباب يقول «واش راكم»، فعلمنا أنه جزائري يبدو أنه تعرف على هويتنا عندما سمعنا نتكلم باللهجة الجزائرية، تحدثنا إليه في عجالة و أخبرنا أن اسمه سامي و بأنه وُلد في انجلترا لوالدين ينحدران من ولاية بومرداس.. سامي قال لنا بلهجة عاصمية ممتزجة باللكنة الانجليزية، أنه يُحب زيارة الجزائر في العطل و بأنه استطاع الحصول على منصب عمل بالمتحف عبر الأنترنت.
في المتحف وجدنا قطعا و وثائق نادرة تؤرخ لتطور العلوم في أوروبا و العالم، من بينها الآلات التي استعملت في الثورة الصناعية و أولى الصواريخ و المكوكات الفضائية و السيارات و الطائرات التي تم تصنيعها في العالم.. هنا يمكنك أن تجد كل ما تبحث عنه في مجالات العلوم المختلفة، حتى عينة من سطح القمر!

لندن.. موطن يجمع أجناس العالم

بعد انتهاء جولة المتاحف، توجهنا إلى وسط العاصمة لندن التي يرأسها منذ أشهر قليلة صادق خان، أول عمدة مسلم لعاصمة أوروبية، و هي سابقة في تاريخ أوروبا تعكس مدى التنوع الثقافي و العرقي بمدينة وُلد قرابة 37 بالمائة من سكانها خارج المملكة المتحدة و تعد الأكبر من حيث عدد السكان، إذ يفوق 8.5 مليون نسمة يتحدثون قرابة 300 لغة! عندما تسير في شوارع لندن لا يمكنك أن تحس سوى أنك في مدينة عالمية تختزل على أرضها أجناس المعمورة.. بهذا المكان قد تسير عدة أمتار دون أن تسمع أحدا يتحدث اللغة الانجليزية، فشوارع أكبر مدينة أوروبية و مركزها الاقتصادي، كانت مليئة بالأفارقة و العرب و الآسيويين واليهود و المسلمين، الذين كان الكثير منهم يرتدون ألبستهم التقليدية و الدينية و يتجولون بكل حرية دون أن يزعجهم أحد أو ينظر إليهم باستغراب، فقد كان هناك الكثير من المحجبات و الهنود بعمائمهم الملونة و لباس «الساري»، أما الأفارقة فلا يتحرجون من ارتداء عباءاتهم الطويلة و إكسسواراتهم ذات الألوان الزاهية.. شاهدنا أيضا يهودا كثرا بينهم حتى الأطفال، يضعون على رؤوسهم قبعات صغيرة أو «الكيباه».
يكفي التجوّل لمدة قصيرة في أزقة «عاصمة الضباب» لتكتشف حالة فريدة من التعايش قلّما نراها في العالم، فقد صادفنا أزواجا كثرا لسود و بيض و لآسيويين و أوروبيين، ما يعكس حجم التنوع و التفتح الثقافيين اللذين تعيشهما لندن في قارة تشهد العديد من عواصمها حملة عداء و كراهية غير مسبوقة ضد المهاجرين، و خصوصا المسلمين و العرب، و يفسر ذلك ربما نتائج التصويت في استفتاء الخروج من بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي صوت سكان لندن فيه بالبقاء..و في شارع «ديبتفورد هاي ستريت» لفت انتباهنا صوت لترتيل القرآن الكريم كان يصدر من أحد المحلات المخصصة لبيع الألبسة الإسلامية، فاقتربنا من البائع و أخبرنا أن اسمه عديل و بأنه قدم من أفغانستان منذ عدة سنوات.. عديل يقول أنه لا يشتكي من أي عنصرية بل يعيش بسلام على مداخيل محلّه الصغير الذي يُمثل الصوماليون معظم زبائنه.
شوارع لندن ببناياتها ذات التصاميم المعمارية الأوروبية الفريدة و تلك القبب المميّزة، تجعل من يدخلها يحس أنه في متحف مفتوح تزيده رونقا و جمالا كابينات الهاتف حمراء اللون و سيارات الطاكسي السوداء «البلاك الكاب» بشكلها شبه المقوس و طرازها العتيق، إضافة لباصات «الروتماستر» الحمراء ذات الطابقين و التي تعد من أهم رموز المملكة المتحدة، فيما لا تكاد تخلو ساحة أو حديقة من تمثال لأحد الأمراء أو الملوك أو الشخصيات التي صنعت تاريخ بريطانيا العظمى..


عندما يصنع الفن حضارة المكان


وسط كل ذلك الزخم المعماري و الحضاري، كنا نصادف دائما رجالا و نساء يعزفون بحماس و حب على آلات موسيقية بل و يغنون نوع الأوبرا على الأرصفة و داخل الأنفاق، لكي يجود عليهم المارة بالقطع النقدية، و المدهش أننا لم نر طيلة تجولنا في لندن سوى ثلاثة رجال شرطة بدا أحدهم من أصول هندية و آخر كان إفريقيا ملتحيا، حتى أن الكنائس و الكاثدرائيات التي لم يعد البريطانيون يرتادونها مثل السابق، لم تُحط بأي حراسة خاصة، رغم تزامن زيارتنا التي كانت في الأسبوع الأخير من شهر جويلية الماضي، مع اعتداء إرهابي راح ضحيته قس بإحدى الكنائس الفرنسية..
الحركة داخل لندن تكاد لا تتوقف، لكنك لا تسمع هنا ضجيجا و لا صراخا و لا حتى منبهات السيارات و الباصات، و الجميل هو تلك الأزهار و المساحات الخضراء التي يوجد لها دائما مكان بمدينة تستطيع أن تسير بطرقاتها دون أن تخشى السقوط أو التعثر، فجميعها مصنوعة من مواد فاخرة، كما أن أرصفتها مهيأة بإتقان.شوارع لندن مليئة بمتاجر أشهر الماركات العالمية التي جعلت منها عاصمة عالمية للموضة، ما انعكس جليا على مظهر العديد من المارة ببدلاتهم و ألبستهم الأنيقة و هم يسيرون بجنب سيارات فارهة من جميع الأنواع و الألوان، والمُلفت أن أغلب طرقات لندن تتوفر على أروقة خاصة بسائقي الدراجات الهوائية التي بالإمكان استئجارها من مواقف صغيرة تُركن بها، بعد إدخال رقم الحساب البنكي و الحصول على رقم سري.. أما ركوب باص لندن الأحمر فهو متعة أخرى، إذ يمكن انطلاقا من طابقه الأول مشاهدة جميع الشوارع و البنايات من زوايا عديدة، حتى أننا استطعنا التقاط صور لم نكن لنحصل عليها من السيارة، كما اغتنمنا فرصة ركوب الباص لقراءة الجريدة المجانية «لندن إيفنينغ ستاندراد»، اليومية الصباحية المحلية الأكثر مقروئية بالمدينة و التي تتضمن مواضيع متنوعة عن لندن و المملكة المتحدة و العالم.


رحلة ملكية بقلب حدائق الأحلام


لا تكتمل زيارة لندن دون رؤية قصر «باكنغهام» و الحدائق الملكية و جسر «تاور بريدج» أو التقاط صور مع ساعة «البيغ بان» و ركوب عجلة «لندن آي»، وهي من بين العديد من المعالم السياحية و التاريخية التي استقطبت العام الماضي عددا قياسيا من السياح قدر بـ 31.5 مليون، حسب أرقام رسمية كُشف عنها شهر ماي الفارط.. سيرا على الأقدام عبر الحدائق العامة الساحرة بعشبها الأخضر و طيورها الجميلة و زهورها التي تفوح بعطور زكية، وصلنا قصر باكنغهام ولم يكن يفصله عن السياح سوى سياج حديدي منخفض و حراس قليلون يرتدون الزي الأسود، و ذلك على بعد أمتار قليلة من مقر الإقامة الرسمية للعائلة المالكة لبريطانيا العظمى. العديد من السياح كانوا ينظرون إلى القصر الفخم بلهفة وفضول كبيرين، كأنهم ينتظرون أن تطل المكلة إليزابيث من إحدى النوافذ الكثيرة لتحفة فنية شهدت جدرانها على قصص عاشها القصر منذ عهد الملك جورج الرابع إلى غاية الملكة إليزابيث، التي تجري فيه اليوم الاستقبالات و الاحتفالات الرسمية و تطل منه على الجمهور في المناسبات.. مقابل القصر كان هناك تمثال الملكة فيكتوريا الذي يُعد أيضا تحفة صنعتها أنامل النحات توماس بروك، لتستقطب المئات من السياح الذين فضلوا الجلوس بالقرب منها للاستمتاع بمنظر القصر و الحدائق المحيطة به.

بين سحر نهر التايمز و شموخ «البيغ بان»

 

في طريقنا إلى جسر البرج أو «تاور بريدج» الشهير، و وسط شوارع واسعة و طرقات أنجز معظمها بمواد فاخرة، كان هناك العديد من محلات التسوق الموجهة للسياح و جسور صغيرة تعبر نهر «التايمز» الذي كانت تسير فوق مياهه الهادئة قوارب و يخوت جميلة.. اقتربنا من «تاور بريدج» و العجلة الكبيرة «آي أوف لندن» التي يمكن من خلالها رؤية كامل المدينة، و بدأت تتراءى لنا بنايات شاهقة بتصاميم معمارية فريدة و عصرية، حيث يعود الكثير منها لشركات اقتصادية و مالية، يوجد غير بعيد عنها مسرح صغير و فضاءات مريحة للجلوس تطل على نهر التايمز.
وصلنا إلى الجسر و تطلب دخوله صعود درج انتهى بنا إلى طريق واسعة، كان بها العديد من السياح المنشغلين بالتقاط صور بالمكان و الاستمتاع بالمناظر الخلابة التي يمكن رؤيتها من هناك، كما وجدنا عروسين آسيويين يبدو أنهما كانا يحتفلان بالمكان بكل عفوية و بساطة.. عند الخروج من الجسر كان من السهل رؤية ساعة «البيغ بان «التي كانت أجراسها ترن كل ساعة، فيما ينتشر باعة التذكارات التي تمثل أهم رموز لندن و المملكة المتحدة، و التي لا يقل سعر القطعة منها عن 1 جنيه إسترليني تقريبا.

الأمير جورج و دوقة كمبريدج محبوبا الصحافة

وسائل الإعلام في المملكة المتحدة لها تقاليد عريقة في الإعلام انعكست على مضامينها الثرية و المتنوعة، و رغم انخفاض نسب مبيعات الصحف الورقية بالمملكة المتحدة مقارنة بالأعوام الماضية، إلا أن قرابة 7 ملايين نسخة منها بيعت يوميا العام الماضي، و هو رقم لم تحقق بلدان عربية ربعه، فيما لا تزال يوميات «ذا صان» و «دايلي مايل» و «دايلي ميرور» «ذي تايمز» و «ذي دايلي تيليغراف»، تتصدر قائمة المبيعات.
و يكفي الإطلاع على الصفحات الأولى للجرائد و أغلفة المجلات، لمعرفة مدى اهتمام الصحافة البريطانية بنشر أخبار العائلة المالكة، و بالأخص الأميرة كيت ميديلتون دوقة كمبريدج و ابنها الأمير جورج ابن حفيد الملكة إليزابيث الذي شغل وسائل الإعلام رغم صغر سنه، و كذا والده الأمير ويليام الذي لم يسلم في الفترة الأخيرة من الانتقادات، و ببريطانيا يكفي أن تفتح التلفاز أو الراديو لتكتشف مدى تطور الإعلام  هناك و عمق التنوع الثقافي، فهناك عشرات القنوات الإذاعية الموضوعاتية التي يعود العديد منها لهيئة الإذاعة البريطانية «بي.بي.سي»، كما أن بعضها ثقافية و صادف أن استمعنا فيها لأناشيد إسلامية و خطب دينية لأحد الأئمة.

“حراقة” جزائريون يدفعون 9 آلاف باوند من أجل وثائق الإقامة

خلال رحلتنا بإنجلترا كان للنصر حديث مع عدة جزائريين مقيمين هناك، و قد أخبرنا بعضهم أن تكاليف الحياة بالمملكة المتحدة وخاصة بالعاصمة لندن، مرتفعة جدا، بحيث يكلف الأكل وحده حوالي 20 جنيها إسترلينيا يوميا.. كما أكدوا لنا أن العديد من الجزائريين المقيمين بهذا البلد، كانوا قد استفادوا من حق اللجوء السياسي في فترة العشرية السوداء، فيما تزوج آخرون من إنجليزيات لتسوية وضعياتهم القانونية، و لجأ البعض إلى “شراء” جوازات سفر أوروبية، و الأغرب من ذلك تسجيل حالات كثيرة لزيجات “بيضاء” على الورق مع نساء تملكن جوازات سفر أوروبية، مقابل مبالغ تصل إلى 9 آلاف جنيه إسترليني، تعادل تقريبا 100 مليون سنتيم.و يرى محمد سيدومو الذي انتقل من جامعة البليدة إلى انجلترا، ليتم دراسته في مجال برمجيات الكمبيوتر كطالب دكتوراه في جامعة “نورثامبتن”، أن الأمور تعقدت أكثر في السنوات الأخيرة بالنسبة للجزائريين “الحراقة” بإنجلترا، بحيث لم يعد من السهل عليهم تسوية وضعياتهم، و يشتغلون عادة في وظائف لا يُلزمون فيها بتقديم أوراق الإقامة، مثل العمل في محلات الإطعام السريع و المطابخ أو كمنظفين. و عن الحياة اليومية للجزائريين بإنجلترا، ذكر الدكتور جهاد عفيفي و هو مهندس أنظمة بإحدى الشركات البريطانية، أنه وجد كالعديد من زملائه صعوبة في التأقلم مع الطقس خاصة في فصل الشتاء، أين ينتهي النهار في الساعة الثالثة مساء، لكنه قال أنه يعيش بسلام في بلد يتقبل الآخر و يحترم معتقداته، بحيث يؤدي المسلمون صلاة العيد في الساحات، بل و توضع في الشوارع لافتات لتهنئتهم بحلوله، كما أن الأكل الحلال متوفر بكثرة و يمكن معرفة توقيت الأذان عن طريق موجة إذاعية خاصة.. جهاد قال أن معظم الجزائريين الذين يعرفهم صوتوا لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي لكي لا يجدوا صعوبات في التنقل للدول الأوروبية، عكس أفراد الجالية الآسيوية، حيث يرون في الخروج من الاتحاد فرصة للتقليل من استقبال أعداد أخرى من المهاجرين الأوروبيين على حسابهم.

بريطانيون يعلقون بعد البريكسيتخائفون على مستقبل أحفادنا و مشاريع البحث في خطر

و قد احتكت النصر ببعض البريطانيين و رصدت آراءهم بخصوص تصويت 51.89 بالمائة من مواطني بريطانيا العظمى، للخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء جوان الماضي، حيث تقول الدكتورة إيفيت بيروت المختصة في الفيزياء الفلكية بكلية “ترينيتي” التابعة لجامعة كامبريدج و التي زرناها مع وفد جمعية الشعرى، أن الباحثين الأوروبيين بالمملكة المتحدة قلقون من تأثير نتائج التصويت على مشاريع البحث، مُقدمة مثالا عن محطة الراديو تليسكوب Arcminute Microkelvin Imager الواقعة قرب كامبريدج، و التي يشتغل عليها باحثون معظمهم من دول أوروبية أخرى، يتخوفون من تأثير «البريكسيت» على وضعهم ببريطانيا و من احتمال تسبّبه في مشاكل محتملة في تمويل بحوثهم، و هي حالة من اللااستقرار قالت لنا السيدة بيروت أنها تعيشها شخصيا، كونها من نيوزلندا.أما تيري لاي ريلي ذات الأربعة و عشرين عاما، و التي تعمل كمساعدة اتصال في الكلية، فقالت للنصر أن أفراد عائلتها صوتوا لـ «البريكسيت» أي للخروج، لكنها صوتت للبقاء، مضيفة أن عائلتها، كالكثير من البريطانيين، تأثرت ببروباغاندا إعلامية قوية جدا أدارتها وسائل إعلام يسيطر على عدد منها رجل الأعمال الأمريكي الأسترالي روبيرت ميردوخ، حتى أن الأرقام الضخمة للأموال التي روج أن بريطانيا ملزمة بمنحها إذا بقيت في الاتحاد الأوروبي، اتضح أنها خاطئة.
و ترى «تيري» أن الكثير ممن صوتوا للخروج كانوا معارضين لسياسات الحكومة و فعلوا ذلك نكاية فقط في رئيس الوزراء المستقيل ديفيد كاميرون، الذي كان يدعم البقاء في الاتحاد الأوروبي.. «تيري» أخبرتنا أنها ذات أصول إنجليزية و بأنها تعمل بجامعة 55 بالمائة من طلبتها أجانب تعايشت معهم بسهولة، لكنها تتخوف ألا يبقى بلدها المتفتح على العالم «عظيما» بسبب تداعيات المغادرة، و هو ما جعلها تمضي عريضة الأربعة مليون توقيع للمطالبة بإعادة الاستفتاء، لتختم كلامها مازحة «أفكر في الهجرة إلى ألمانيا إن خرجنا فعلا!».باربارا و هي سيدة تعمل كمرشدة سياحية قالت لنا أنها صوتت للبقاء في الاتحاد الأوروبي، و علّقت بتأثر على النتائج التي أظهرت تصويت الأغلبية للخروج قائلة «إنه أمر فظيع.. لقد انزعجت كثيرا و حتى من زوجي الذي صوت للبريكسيت.. أنا خائفة فعلا على مستقبل أحفادي».. تناقشنا مع باربارا في مسائل حول أزمة تدفق اللاجئين نحو أوروبا و مدى تأثيرها على تصويت الناخب البريطاني في الاستفتاء، فقالت لنا أن ما يحصل سببه الخطأ الذي ارتكبه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، الذي دخل في حرب على العراق أقحم فيها بريطانيا، قبل أن تعلق بحزم «يجب أن يدخل بوش للسجن»، لتتابع بالقول أنها لا تعرف الكثير عن الإسلام، لكنها متأكدة بأن ما تقوم به الجماعات الإرهابية، لا يمثل هذا الدين.
من جهتها ترى الدكتورة ميغان أرغو الباحثة بجامعة مانشيستر، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يطرح مشكلة في تمويل مشروع «سكوير كيلوميتر آراي» «آس.آي.كاي» لإنجاز أكبر تليسكوب لا سلكي في العالم، خصوصا أن باحثين من 21 دولة يعملون عليه و يتخوفون مما قد يحصل بعد عامين عند إتمام الإجراءات القانونية للخروج.. الدكتورة ميغان قالت لنا أنها من اسكتلندا و قد أمضت عدة سنوات بالمملكة المتحدة لإتمام بحوثها في علم الفلك، لكنها تشعر اليوم بالقلق و تتخوف حقا على مصيرها، بحيث لم تستبعد إمكانية انتهاء عقدها مع جامعة مانشيستر في أي وقت، ما جعلها تشرع في البحث عن فرص عمل خارج المملكة المتحدة، مضيفة أنها لن تتردد في التصويت لاستقلال بلدها اسكتلندا عن المملكة، لكي تستمر في العيش داخل الاتحاد الأوروبي.

ياسمين بوالجدري

الرجوع إلى الأعلى