المثقّف  بوصفه أداةً لتزييف الوعي..

  1
    لعلّ أولى مبادئ الاندراج في منظومة الوعي المُزيِّف أن يدعي المثقف امتلاك الحقيقة الكبرى التي  تستوعب حاضر الناس و تحوز على مستقبلهم، و أن الآخرين، كلّ الآخرين، ليسوا على خطأ فحسب، و إنما ليست لهم القدرة أصلا على إدراك أنهم كذلك.
   ففي الوقت الذي يفضل فيه الأستاذ نور الدين بوكروح أن يعطي لعامة الشعب الذي ينتمي إليه درسا عقلانيا عن ضرورة إعادة ترتيب آي القرآن الكريم بحسب تاريخ النزول لأنه ربما اكتشف أن ذلك سيكون سببا في إنقاذ انحطاط أمة إسلامية بكاملها، و في الوقت نفسه الذي يتحدّث فيه الروائي المبدع رشيد بوجدرة عن تميّز «إلحاده» و انفراده بالجهر به داخل دائرة تفكير مغلقة على عاداتها السرّية وعلى ممارساتها الأحادية التي يحدث أن تُقدّم الكاف على الفاء وفقا للضرورة القصوى.. في هذا الوقت بالذات ..ثمة امرأة معزولة في قرية نائية تنتظر بصدقِ إيمانِ العجائز معجزةً قد تحدث لها بوصول حقيقيّ لعربة تقودها إلى أقرب مستوصف من أجل إنقاذ حياتها من موت محقّق فيما لو أنها تأخرت عن أخذ حقنتها في الوقت الحداثيّ المناسب.     
    قد تكون هذه المرأة رجلا فقيرا أو شيخا مسنا أو امرأة حاملا أو غير ذلك من الاحتمالات الممكنة.  و قد لا يكون هذا الاحتمال بالذات غير مجرد وهم منحدر من مخيلة شاعر يائس، بل قد يكون قد وقع فعلا، أو هو على وشك الوقوع، الآن.. و في هذه اللحظة، في قرية نائية معزولة خارجة عن نطاق التغطية التحديثية في هذا الوطن الشّاسع المقطوع كليّا عن تفكيرات المثقفين     و عن هرطقات المفكّرين الجميلة.

2
  أن يتخذ تاريخ «تزييف الوعي» في رحلته المرتبطة بتاريخ الإنسان و الأفكار أشكالا مختلفة      و تقنيات متعددة و استراتيجيات متباينة إلى درجة التناقض عبر الأزمنة و الأمكنة المتعدّدة من أجل تحقيق الأهداف التي دعت إلى استعماله و اضطرته للخضوع إلى مسطرتها المهيمنة،  فهذا ما يبدو طبيعيا جدا في مسار التمركز الواعي خلال المراحل التاريخية بدافع تحقيق المصلحة التي تستدعي تطوير أدواتها على مستوى الأفكار و على مستوى الواقع.
   و لكن.. أن يتخذ « تزييف الوعي» شكلا واحدا و رؤية واحدة و إستراتيجية واحدة منذ أن اكتشف المكتشفون في البلاد الخاضعة إمكانية استغلال النوايا الطيبة لدى الكتلة الصمّاء من أجل جعلها أكثر صمما في مواجهة ما يشوب ذاتها من ضوضاء مزعجة و من دخان مُزيلٍ لوضوح الرؤيا و هي تقطع المنعرجات الأكثر خطورة في تاريخها المعاصر المليء بالميوعة الأيديولوجية و بالتملّق السياسي،  فهذا ما لا يمكن أن يكون من غير إستراتيجيةٍ مُتعمَّدَةٍ لتمويه مفارقات اللحظة التاريخية القريبة من أن تؤتي أكلها، و استدراجها إلى مجال التحكّم عن بعد و عن طريق أدوات إنتاج تزييف الوعي التي لم تكن في نهاية الأمر غير هؤلاء المثقفين الكبار أنفسهم، بإنسانيتهم الصادقة و بمواهبهم الفذّة و بحلمهم التنويريّ، و الخاضعين عن دراية تامة لمبدأ التشييء المنهجيّ و هم يقومون بدورهم العظيم المناط بهم منذ أن كان الوعي جديرا بالسقوط في إستراتيجية التزييف و جديرا بأن يتحول من ‹مرحلة التزييف› التي مورست عليه خلال مراحل التاريخ السالفة إلى ‹مرحلة التزييف› التي أصبح يمارسها على المجتمع في مرحلته الراهنة.

3
    تنتقل الحالة الثقافية بوصفها موضوعا لإنتاج المعنى المستقبلي من حالة انفتاح وجوديّ على مستقبل المعنى الكامن فيما يقترحه الذكاء الإنساني من حقول غير محروثة إلى حالة انغلاق تنظيري على المقولات البديهية التي تتغذى من شحمها الذي اختزنته في سِنَام جسدها المترامي الأطراف طيلة عبوره للصحراء الوطنية الشاسعة بسبب استعمالها للرصيد التاريخي وقودا للقفز على مطبّاته    و لتجاوز منعرجاته الخطرة.
   و تنتقل مع الحالة الثقافيةِ حالةُ الوعي لدى المثقف عموما، و لدى المثقف النقدي على الخصوص، من وضعية «الوعي المزيَّف»( بفتح الياء و تشديدها) التي عادة ما اتصف بها منذ أن حوّلته القناعات الإيديولوجية عن مساراته الطبيعية و استغلته في تحقيق أغراضها و استراتيجياتها، إلى وضعيّة «الوعي المُزَيِّف»( بكسر الياء و تشديدها) و التي طالما قام بها المثقف بكلّ جرأة على حساب ما أنتجه المجتمع من أفكار متداخلة نتيجة ما عاناه من تسلّط بحيث لم يعد له من إمكانية و قدرة و جرأة على تفكيك حقيقتها و الخروج بموقف واضح ممّا تقدمه من اقتراحات مخالفة لتوجهاته الفكرية و السياسية، فلم يبق له غير خلاص وحيد يُبرّئ من خلاله ذمتّه ممّا أنتجه المجتمع، في انغلاقه السرمدي على نفسه حسب توصيف المثقفين، من إمكاناتِ تجاوُزٍ تفوق الإطار الإيديولوجي الذي طالما دافع عنه المثقف نفسه، و الذي يتماهى في بعض مساراته مع أطروحاته التنويرية التي دافع عنها بقناعات ثابتة، و ذلك من خلال  تحقيق الذات المقتنعة لا بتزييف الوعي   و لكن بإنتاج الوعي المُزيِّف لما لا تستطيع السلطة السياسية بوصفها قوّة كابحة لتحركات المجتمع   و موجِّهة لمساراتها في الاتجاهات التي تعتقد أنها تخدم حاضره و تؤسّس لمستقبله، أن تُنتجه لوحدها    و بإمكاناتها التوعويّة و بأدواتها الإقناعيّة.
   و لعلها الإستراتيجية نفسها التي تتبنّاها التصورات الثقافية الأحادية للمثقفين في شكل مواقف و مشاريع و نصائح داخل الأنظمة الأحادية المؤسَّسَة على التصوّر الأحادي للذات و للعالم، من أجل القضاء على كل إمكانية طبيعية لتحوّل الخلية أو لتكاثرها أو لتعدّدها في لحظات الحمل الحقيقي لتحويلها إلى حمل كاذب عن طريق ممارسة الوعي الزائف.
  إنها الإمكانيات التي من المفروض أن تكون محكومة بقوانين التطور الطبيعي للمجتمعات الواعية بمآلاتها، و بالسُلّم التراتُبي للقيم التي تدفع حركة هذه المآلات نحو المستقبل، و بالموهبة المعطاءة لإنتاج الأفكار و تحويلها إلى قيمة مادية مؤثّرة في الواقع، و ليس بما يمليه التصوّر القسري من تحديدات مسبقة لتحقيق الأفكار المضادة بخططها المضادة و بوعيها المزيّف في بينة مجتمعات آيلة إلى الترهلّ لكثرة ما خضعت لعمليات جراحية قسرية من طرف أخصّائيين غير متخصصين في مشاريعها المحكومة بالتغيير الدوري لبرامج التربية و التعليم و الاقتصاد و الاجتماع من أجل خلق مجتمع قادر على تصديق أكذوبة التعليم عن طريق حرمان الكفاءات، و التنمية عن طريق الاستحواذ على الفرص، و التطوّر عن طريق إعادة إنتاج التخلّف.

4
 بين جرأة المثقف رشيد بوجدرة في إعلان إلحاده و جرأة المدافعين عن موقفه دون امتلاك الجرأة على إعلان مواقفهم مثله مسافةٌ فارقة بين مركز من يجهر برأيه و بين هامش من يتعلّق بالمركز  بما يوفّره الاندراج في المسار المسطّر سلفا من طرف المثقف بوجدرة استعدادا للوصول إلى خطّ الوصول.
 و بين جرأة بوكروح في طرح إشكالية تاريخية كإشكالية إعادة ترتيب سور القرآن في راهن أرعن كأنه لا يفكّر إلاّ في هذه المشكلة، و جرأة من يدافعون عن أطروحاته التحديثية لبيت الإسلام بما آل إليه من صورةِ خيمةٍ مغلقةٍ ثاويةٍ على ماضيها و  محاولةٍ لتجاوز مناطق الحرن التي تعيق نظرتها إلى أفق المستقبل من دون أن يكون لهؤلاء أحقية السبق بالجهر بالموقف مثله و الوعي بخلفياته كما حاول أن يطرحها في يقظته الفكرية الأخيرة مسافةٌ فارقةٌ كذلك بين تمركز أوليغارشي يحاول      هو الأخر أن يجهر برأيه في مرحلة حساسة  تَعْبُرها الأمة بكثير من الخوف و بقليل من الثقة       في النفس و في الذات الجمعية، و بين تعلّق حالم بالمثقف الواسطة القادر على محو مسافة الهوّة بين العلم و الجهل، و بين الفهم و اللاّفهم، و بين الثقافة بوصفها إمكانية وحيدة لتمكين للاقتراب من مركز التأثير و التعنّت بوصفه شهادة إقصاء نهائية لنفي الذات من دائرة الإمكان.
   تحملُ حالة المثقف رشيد بوجدرة، فيما راكمته طيلة خمسين سنة من إنتاج المعطى الإيديولوجي من داخل منظومة الرؤية السياسية المغلقة صورة متفردة بالنظر إلى ما يقدمه أنموذجه الفريد من قدرة نادرة على الوفاء ليس للفكرة التي يؤمن بها فحسب، و التي له ما يكفي من الحيلة الواعية    لتحيين حضورها في راهن اللحظة و في قناعات الأجيال الجديدة ممن لم يعرفوا مواقفه من خلال كتبه سابقا فيندهشون لها الآن، و لكن كذلك للتصوّر المؤسِّس لبنية السلطة العميقة التي ظل وفيا لها طيلة مشواره من خلال معارضته لها من دون رفضها ضاربا عرض الحائط بأسطورة المثقف النقدي القاطع لكلّ خيوط العلاقة النفسية و المادية مع بنية النسيج السياسي الذي فضّل العيش فيه، و مُركِّزا على إمكانية تحويل توجهات الرأي المتحكِّمة في الجماهير العريضة وفق رغبة ملحة تمليها اللحظة بما تنتجه من ذكاء خارق في استعمال آلية تزييف الوعي يكون فيها المثقف غاية لنفسه و وسيلة لغيره.
 و بالمقابل تحمل حالة المثقف نور الدين بوكروح، فيما راكمته هي الأخرى طيلة ما يقارب الأربعين سنة كذلك من إنتاج تصوّر مضاد إيديولوجياًّ للتصور الذي يجمله بوجدرة، و هو تصوّر مبنيّ  لا على فكرة الانقذاف بالذات الجمعية و بتاريخها الحضاري في منطقة خارج دائرة الإيمان المؤسّس لمخيال المجتمع فحسب، و لكن كذلك على فكرة الانغراس داخل منظومة التفكير المغلقة التي كان و لا يزال أحد أبرز أوجهها الفاعلين.
 ينطلق كل من بوجدرة و بوكروح من نقطتين متباعدتين سياسيا و متناقضتين إيديولوجيا في ما يشبه الفارق الكبير الذي لا يمكن أن يلتقيان فيه و من خلاله مهما كانت احتمالات التقارب بينهما ممكنة، و رغم ذلك فإن مساريّ الرجلين يثبتان بأن احتمال الالتقاء في بؤرة المسارين المنتهية إلى النقطة الهرمية ليس واردا أو ممكنا فحسب، و إنما هو ضروريّ جدا نظرا لما يحمله المثقف النقديّ من طاقة اندراج في الصّف بسبب ما يعانيه مع مجتمعه من قطيعة معرفية و واقعية لا يستطيع من خلالها إلاّ أن يجعل السلطة السياسية، مهما اختلفت مراحلها و تغيرت رجالاتها، عائلته الحقيقية التي هي الأقرب إلى فهمه، و من ثمة، الأقوى على حمايته فيما لو تسارعت عجلة التاريخ بصورة مفاجئة و هبّت في اتجاه غير مأمون. إن بوكروح و بوجدرة، و  طيلة مشوارهما الثقافي الذي يقارب القرن من الزمن فيما لو جمعناه، لم يفعلا، و لا يزالان،  أكثر من الاختلاف في القاعدة  و الالتقاء في الهرم، و مهمتهما، كغيرهما كثير من المثقفين، لم تكن طيلة هذه المدة التي هي عمر الدولة الوطنية، غير الحرص الواعي أو الوعي الحريص على ملء المساحة الفاصلة بين القاعدة العريضة و القمّة الحادة بما يوافق النظرة العميقة التي تحملها الدولة الوطنية بكل خيباتها التحديثية من خطاب مزيّف بخدم المسار العام الذي سطّرته خلال تدبيجها الإيديولوجي للمشروع الثقافي و الفكري الذي انبنت عليه.

5
   لم تكن الأوليغرشيات المعشِّشة في الأرائك الوثيرة المطروحة في الصفوف الأولى من دائرة  التصوّر النافذ المشار إليه في حالة العراق بـ»المنطقة الخضراء» غير واسطة عملية لتقريب الأداة التنفيذية للإستراتيجية الأحادية التي هي المثقف النقديّ المعارض في صورته الصّنمية الواقفة ضد/مع النظام للإطالة من حالة تزييف الوعي و تمطيط مادتها الخام في منجم المجتمعات المريضة بمثقفيها أوّلا من خلال تجديد فعالية تأثيره في الأعضاء الضعيفة المتروكة من الجسد/الهامش المتلهّي بمشاهدة البارصا و بمتابعة المسلسلات و بمناقشة قضايا الخلق و البعث و الوجود و العدم في لحظة افتقاده اللامتناهية لأدنى لوازم السؤال المصيري الملحّ الذي من المفروض أن تنبعث منه الحياة في واقع مجتمعات هي أشبه بالميّتة.

       سعيدة في 2015/05/04

الرجوع إلى الأعلى