هل يمكن أن يستغني الكاتب عن القراءة التقليدية ويكتفي بالكُتب الصوتية/المسموعة، أو بالسماع (سماعها في البيت، مثلا، في السيارة، في الشارع، أو في أي مكان متاح)؟، هل يمكن حقا أن يقتني الكُتب التي يرغب في قراءتها، (أو التي سبق له قراءتها من قبل قراءة عادية في كتب ورقية ويرغب في إعادة قراءتها مرة أخرى، لكن الوقت لا يسمح له بذلك، فيجد الحل من خلال الكتب المسموعة التي انتشرت مؤخرا وأصبحت تستحوذ على اهتمام الكثير من الكُتاب والقراء). وهي كتب مضغوطة في سيديهات ومتوفرة أيضا في المواقع الأدبية الإلكترونية، حيث يتم تحميلها بيسر وسهولة، وبدل أن يتفرغ لقراءتها ورقيا، يسمعها بأصوات متخصصة في هذا المجال، ويترك نفسه لأجواء وعوالم الكِتاب وهي تنساب بصوت يقرأ له.
أدباء ونقاد عرب ومن الجزائر، يتحدثون في ندوة «كراس الثقافة» لهذا العدد، عن «الكُتب المسموعة/الصوتية»، وعن القراءة المسموعة، وقد اختلفت الآراء حول هذه النوعية من الكتب، فهناك من يرى أنها تصلح فقط لتدريب المبتدئين في اللغة، وهناك من قال بأهميتها وضرورة تشجيعها في العالم العربي والاستثمار فيها. وهناك من يرى أنها لن تحل محل الكتب الورقية، وأن القراءة التقليدية العادية لن تفقد وهجها ومكانتها أمام كل مغريات ومستجدات التكنولوجيا الحديثة.

إستطلاع/ نـوّارة لحــرش

عبد السلام فيلالي/ كاتب جزائري


“الكُتب المسموعة»، جاذبية داخل الماء


تربط القراءة بالكتابة على نحو منطقي، ويرتبط الكتاب بالقراءة بالبديهة. ومع القراءة لا يمكن التصنيف من حيث وجود قراءة تقليدية وأخرى حديثة، فنحن ها هنا أمام حكم الضرورة، والقول بالقراءة بواسطة السماع، يعني الانتقال إلى مستوى آخر من الانشغال، أو كطريقة وحيدة للوصول إلى المضمون عند بعض الفئات كالمكفوفين أو كبار السن. وهنا نحن أمام الكُتب الصوتية وهي ليست كتبًا، وإنما هي حامل مختلف تماما عن الكِتاب. إذ أن محتوى الكِتاب قد نُقل إلى حيث يكون أصواتا.
إن مقابلة الكِتاب إلى الكِتاب الصوتي هو من قبيل اعتبار النص المكتوب حكاية تُروى، ولو حافظت على جوهر المتن. فقراءة القرآن الكريم ليست كما الاستماع إليه مهما كان هذا الاستماع قويا ومركزا. وأما القول بوجود اعتبار يدعو الشخص إلى الاستماع إلى رواية فهذا من قبل نقل الشيء إلى غير موضعه، فوظيفة السمع لا تعوض وظيفة النظر.
وكتجربة ذاتية، فقد جربت الاستماع إلى مضامين أدبية وفكرية فوجدتني أهيم إلى حيث لا يجوز لي أن أهيم ولم أستطع متابعة السرد، وهذا الأمر حتمي في جميع الحالات، ولذلك أرى أن الاستماع إلى قراءة رواية -مثلا- يحتاج إلى تدريب ومهارة عالية حتى يظل المرء محافظا على تركيزه. وأما تبرير ذلك بالوقت أو وجوده داخل عربة ميترو، فإن الوضع فيه حذلقة. إن القراءة كماهية هي استدماج المعاني في العقل بشكل لاواعي إلى حد ما، وهي تخلق حالة كيفية، فالكاتب لا يصير كذلك إلا بعد أن يُسكن بعوالم روح الكتابة، وصاحب التخصص كذلك في تخصصه. وأما السماع فإنه يتضمن سلطة الذي يقرأ، فهو وعبر ذبذبات صوته يوجه مستمعه إلى عوالم «مادية» عكس القراءة بالعين وما تحويه من طقوس وأجواء «روحية».
تصلح الكُتب المسموعة لتدريب المبتدئين في اللغة وفي جعل حلقة استماع مناسبة لتقمص انخراط اجتماعي في قضية من القضايا، أما القراءة فتبقى رباطا وثيقا بجواهر الأشياء تشيع في ذواتنا حالة من الرضا الخالص لا نستطيع أن نتقاسمه في حال السماع. إن علاقة النص بالقراءة هي علاقة الماهية بالمعنى، خاصة في مواضيع الفكر والأدب، فلكي تسبح يجب أن تغوص في الماء وتنغمس فيه، فتفقد الجاذبية خاصتها ويصير الوجود في الماء من حياة الماء ذاته.

محمد رابحي/ قاص وناقد جزائري


الكِتاب المسموع نمنحني إضافات شكلية لا أجدها في العادي


كانت «التابليت» لصديق، استعرتها خصيصا لرحلتي عنابة/الجزائر. أردتها بالأساس لأجمّع لي صورا هناك مع أحبة. ولأجرب بالمرة كِتابا مسموعا في حوزتي منذ مدة غير قصيرة، ولم أتمكن من استخدامه. مع أنني جربته على الكومبيوتر خاصتي، وبدا لي لا يشبع حاجة وفي غير محله. لذا خمنت أن «التابليت» والرحلة هي تربة كُتب لم تتح لي الظروف لأقرأها في زمن مبكر، وها هي التكنولوجيا تتيحها لي وبطريقة ميسرة وفي وقت قياسي. أليس ممتعا ومبتكرا أن تصل فاعليتي في قراءتي «السمعية» باللغة الفرنسية 200 كلمة في الدقيقة والتي بالكاد في القراءة العادية تصل 80 كلمة.
أعجبتني التجربة وأحسست فيها التطور الالكتروني للكتاب. على أني اكتفيت منها بقصة واحدة من مجموعة لجورج صاند وقصيدتين من ديوان لبول الوار. إذ استعجلت العودة إلى ألبومي الغنائي وأكملت رحلتي مع «مسموعات» نجاة الصغيرة.
لم أحس فرقا جوهريا بين المسموع والتقليدي، لم أر أن الثاني يقضي على الأول. بل أحسست أن الكِتاب المسموع يمنحني إضافات وإن كانت شكلية وبسيطة لكن لا أجدها في العادي.
فلطالما تمنيت القراءة وأنا في رحلة طويلة، فمثل هذا الأمر البسيط يصبح حلما لأن النظر بين السطور وتركيزي بالأحجام الدقيقة أثناء سير المركبة يصيبني بالدوار والغثيان. وحتى أحقق حلمي هذا ما كان علي إلا أن أريح عيني وأوظف أذني. إذًا لا فرق بين الكتابين إلا حاستيهما، فلكل منهما وسيلة يلتقط بها. ولا أظن هذه أسباب كافية لنبكي ونندب كِتاب غوتنبورغ.
كنا نعتقد في السابق أن العين وحدها من تعشق، إلى أن أثبت لنا الشاعر أن الأذن تعشق قبلها أحيانا. علمًا أننا ونحن نقرأ بالأذن فنحن لا نتعاطى تقدما، إنما نعود إلى الوراء، إلى الثقافة الشفوية وثقافة الحكي. ثم إن الكِتاب المسموع كما عرفته هو قراءة صوتية للنص مصحوبة بصفحات إلكترونية تظهر على الشاشة. أي أن الكِتاب موجود بشكله الرقمي والصوت يصبح وأنت تتابع السطور ليس أكثر من صوتك الداخلي.
اعتدت في مثل هذه الطروحات القول «لا شيء يعوض شيئا آخر». فثمة ابتكارات هي تنويعات للأصل لا غير. وثمة أخرى لابد منها إذ هي تطور طبيعي للأصل. وإذا ما ثبت أن الكِتاب الالكتروني هو خليفة الكتاب الورقي، فمن الضروري أن نتذكر أن هذا الأخير كان بدوره تطورا للكتاب «الحجري» إن صحت التسمية. ألم يكن حجارة تُنقش وتُقرأ؟. علينا أن نتذكر هذا الماضي الأليم الذي كان سيجعلنا لو استمر نكره المعرفة ونبنيها ونسكها بدل مطالعتها.
إن منتجات التكنولوجيا تطور طبيعي لواقع ما، معنى ذلك أنها تصاحب ثقافة قائمة. وتولد على مستوى آخر ثقافتها الخاصة. ونحن الذين نستخدم المحمول بعيدا عن ثقافته ونتعاطى الفيسبوك بعيدا عن ثقافته، من البديهي أن نسيء فهم «الكِتاب المسموع» ونسيء استخدامه، وكما جاء في بداية حديثي استخدمت الكتاب المسموع وفقا لمعطى متناسب مع ما يوفره من مزايا. مثلا أنا في ظروف نقص المراجع في العربية صرت مع الوقت أقرأ من الـ (بي دي آف) ما يفوق قراءاتي الورقية. وإن اختياري لهذا على حساب ذاك ليس إيديولوجيا أو جماليا ولكنه براغماتي محض.

سعاد حمداش/ كاتبة وباحثة أكاديمية جزائرية

القراءة الإنصاتية مهارة إبداعية لا يُتقنها إلاّ من صقّل مواهبه وحواسه

إنّ القراءة نشاط فيزيائي يتمُّ عبر قناة مركبة، تفرض على القارئ آلية فاعلة لاشتغالها وفقا لنمط معين من الإدراك يكتسبه القارئ بدءً من تفعيل قدراته في الوسط الأسري إلى الاجتماعي وصولا إلى تميُّزٍ في الفروقات الفردية، أين تنبثق فكرية القراءة الإبداعية، حينها تصبح القراءة حدثا إنتاجيا. هذه القناة القرائية تتفاعل فيها شبكة من الحواس ابتغاء توضيح درجة من الوضوح، لكن قد نتساءل بحثا عن الحاسة التي تُشغِّل وتيرة القراءة: أتكمن في البصر أم في السمع؟ أم فيهما معا؟
لقد انتشرت المقروئية في الأوساط العربية وغيرها مع عصر النهضة وتطوّر الطباعة وصناعة الورق، حيث أضحى الكِتاب أيقونة ثرية للفكر ومظهرا من مظاهر التمدّن والحضارة، ومع عصر التكنولوجيا تطورت صناعة الورق إلى أرقى فنيات الملامسة والإبداع والارتياح، إلاّ أنّ انبثاق الكتاب الالكتروني قد نافس إبداعية الورق واكتسح العالم، حيث أضحى أقرب بكثير إلى الأبصار، يدخل البيوت بسرعة وتوفير، لكنه يظل معلقا مؤجلا إلى حين!.
إنها عودة صراع الثنائيات بين المنطوق والمكتوب، الصوت والحرف، الصوت والصورة، ثنائيات تتنافس مع عصر التكنولوجيا وإبداعات الإشهار وأدلجة القراءة، كلّ ذلك سعيًا لإرضاء القارئ وبحثًا عن راحته، والهدف وراء ذلك رصد عدد كبير من المقروئية، المقروئية التي انتشرت قبل ذلك مشافهة واستحسانا بالأذن، ومنه لا يمكن أن ننكر دور الكتاب الالكتروني المضغوط على الأقراص المرنة ونحن على حالات مختلفة سيرا على الأقدام أم في السيارات أو على الأرائك... فالقراءة الإنصاتية مهارة إبداعية لا يُتقنها إلاّ من صقّل مواهبه وحواسه وتمكّن من معرفة الفرق بين السماع والإنصات.
إنّ الأذن قناة للاستماع وفعل للإنصات، ونحن لا نستمع إلاّ للأشياء التي ندركها لا غير، فمثلا نكون في شارع يملؤه الضجيج ونحن ننصت للكِتاب المقروء، حينها تركز الأذن على المقروء دون الانتباه للضجيج بالرغم من أنه يهز طبلة الآذان، وأستحضر هنا مثالا آخر عن عازف لآلات موسيقية ما يشتغل وفقا لتفاعل الحواس مركزا على الأداء دون الاهتمام لهمسات الجمهور أو أضواء القاعة وفنيات الفُرجة، إنّه الإدراك السمعي المركب.
ما أود الوصول إليه أنّ الكتاب الالكتروني البصري أو الصوتي لا يُقلِّلُ من وتيرة المقروئية ولا تسعى الثنائية لتأسيس اقتصاد التنافس بينهما، ولكن نحن بحاجة إلى صقل حواسنا وترويض إدراكاتنا، بمعنى تأسيس خبرة مركبة وكشفا فنيا للقراءة، يعني ذلك أن نقرأ واشتغال شبكة الحواس الإدراكية بصريا صوتيا ذهنيا معا في آن، حينها نكون قد حققنا تقنية الأداء القرائي.
إنّها دعوة ضرورية لتحيين حواسنا وتغيير أفق نظرنا نحو التكنولوجيا، فبقدر ما هي تقنية تؤسس موت الإنسان بقدر ما هي حياة إنسان، خلقها للتقليل من البؤس، فالإنصات للكتاب الصوتي ذوق حي من نوع آخر. فلِنُنْصِتْ لما تُدركه آذاننا.

ف. ياسمينة بريهوم/ قاصة جزائرية

لن أسمع كتابا مادمت أستطيع أن أحمله بين يديّ

أنا من جيل يمشي الهوينى نحو انقراضه، جيل كتب بالريشة واستعمل المحبرة، وتحلّق حول الموقد، وعرف أوّل ما عرف من الكتب: الكِتاب الورقيّ، فلا أنسى انبهاري بألوانه، ورسوماته، وحروفه العجيبة المتراصة بعضها جنب بعض، تخلق عوالم عجيبة: منذ «السلطان المسحور»، و»أليس في بلاد العجائب»، و»جاك وشجرة الفصوليا»...إلخ.
لقد عشت لقائي بالكِتاب في المدرسة فرحة لم أنسها منذ ما يقارب الأربعين سنة، يوم وعدتنا –سيداتي- «حورية» بأنّها ستعطينا الكُتب لنأخذها إلى البيت! كان الكتاب في محفظتي فخرا مازلت لليوم أشعر به إذ اشتري كتابا أو أقرؤه، فمع ملمس أوراقه صرت أستطيع أن أضع الأصبع على كلّ كلمة وأتابع كما تعلّمت في الصفّ، ولا أخاف أن يفوتني منها شيء إذ أغلقه لأعود إليها في أيّ وقت، فلا أضطرّ لانتظار مقدم اللّيل حتى يكون بإمكاني سماعها، لأنّ جدتي كانت تقول دائما: «إنّ من يقصّ أحجيات في النّهار سينجب أطفالا صلعًا!» أو أنّ أتوسّل وألّح في ذلك على عمّتي إذا جاءتنا من السنة إلى سنة أخرى أن تقصّ لنا حكاية «سي محمّد»، أو»لمخبلة في شعورها»، أو»شامة خضّار» التي أعرف الآن كبيرةً أنّها مستمدّة في أغلبها من ألف ليلة وليلة وقد سمعتها عمّتي حتما عن جدّي، وهو عمّن سبقوه، ولم يقرأوا الكِتاب ولا سمعوا به أصلا! فهل يُضاهي ملمس الكِتاب «الورقيّ» كتاب آخر في ذاكرتي؟ وأيّ صفحة إلكترونيّة بإمكانها أن تبقيني ساعات دون أكل في معزل عن العالم؟ ولا أفتحها إلاّ بآلاف الصفحات ترافقها؟ وهل يقدر صوت غير صوت نساء عائلتي أن يدعوني إلى حلقة الكتاب؟
في الثانية عشرة اشتريت أوّل كتبي، ومازلت أحتفظ به لليوم رغم أنّه فقد غلافه من كثرة تغيير الأماكن التي خبّأت كتبي فيها كلّ مرة، إنّه «طيور في الظهيرة» للكاتب مرزاق بقطاش وقرأت الرواية التي أظنها كانت أكبر من استيعاب طفلة في سنّي ولم أفهم  منها إلاّ بعض المفردات إلى أن عاودت قراءتها سنوات بعد ذلك، ومن يومها لم تنقطع علاقتي بالكتب التي كنت أختلس دنانير من متبقى ما أشتري للبيت من مقتنيات لشرائها وبعض المجلاّت!، وللآن لا يمرّ عليّ وقت دون أن أشتري عنوانا مهما حاولت أن أسيطر عليّ، ومازال ولهي بالكِتاب أكبر من كلّ ما يفتن به النّاس عموما،  وأهديه في المناسبات، ولا أحب هديّة أحسن منه! بل بكيت كثيرا من كتب فقدتها عند بعضهم ليس لأنّهم أخذوها لأنفسهم (ربما كان ذلك سيسعدني لأنّ الكتاب سيظل في مأمن) ولكن لأنّهم بكلّ برود ولا مبالاة قالوا: «تاكلي في روحك على كِتاب!»
حتى بعد ظهور الكتب الإلكترونية ظلّ عشقي كبيرا للكِتاب ولا أرضى عنه رفيقا ولا حبيبا، فلا أقرأ كُتبا إلكترونيّة إلاّ مع بعض العناوين التي لم أستطع الحصول عليها نسخة ورقيّة، وسبب ذلك أنّي قاومت التكنولوجيا طويلا، ورفضت أن ألجأ إليها، ولم أنغمس فيها إلاّ بعد أن أدركت أنّه من الحمق السير ضدّ التيار الذي يقول الجميع: يسهّل الحياة! نعم تأقلمت مع المستجدّات لكن مازلت أحاول ألاّ أخسر معالم نشأت عليها، وعادات جميلة تبهجني كقراءتي في قيلولات الصيف الحارة، وعودتي إلى بعض المقاطع التي سطرتها في كتاب، والقراءة ساعات طويلة من عطلة نهاية الأسبوع...
لأفاجأ بهذا الكِتاب المسجّل صوتا (فمفاجآت التكنولوجيا لن تنتهي!) الذي لم أعش بعد تجربته، ولا أظنني سأقبل عليها بيسر اللّهم إلاّ إذا أجبرني المرض يوما، مع أنّي أعرف وأسلّم بأنّ تجربة التعلّم سماعا أكثر رسوخا، ولنا أن نقف على كمّ الأشخاص الذي يسمى مثقّفا بالسماع ممّن لم يقرأ كتابا في حياته، ليتحدّث عن كتب  سمع من قرأوها يتكلّمون عنها، وربما أحسن منهم!.
لكلّ هذا أقول: لن أسمع كتابا مادمت أستطيع أن أحمله بين يديّ، وأضعه إلى جانب سريري أو تحت مخدّتي، لأنّ خيال الكاتبة سيهرب بي دوما إلى جنيّات يطرن، وفرسان لا يخافون المخاطر، ومفاجآت لم أكف يوما عن توقعها، وبذلك لن أتابع ما أسمع، أما الكتاب الورقيّ فكرجل أقع في أسر نظرته، وسطوة حضوره يفرض عليّ بكلّ وقار صمته أن أركزّ، وأفهم، وأفكك، وأتقدّم، وأعود القهقرى، وأن أتوقف دون أن أخاف من ضياع «راس الخيط» من الحكاية»!.

سمير درويش/ شاعر مصري


القراءة بالأذن تناسب القارئ المتعجل

أعتقد أن الكُتب المسموعة -أو القراءة بالأذن- تناسب قارئ متعجل يريد أن يلم بالموضوع المطروح إلمامًا عامًّا، دون المتعة التي يحصدها القارئ من العمل أيا كان نوعه، لأن هذا النوع يفوِّتُ على القارئ حيل الصياغة اللغوية، والعلاقات التي ينشئها الكاتب بين الكلمات والجمل والفقرات، وهي جزء لا يتجزأ من الموضوع، وفي الأدب تكون هي الموضوع نفسه، وفي أفضل الحالات فهي تناسب الشعر الجماهيري الذي يخاطب الأذن، مثل شعر محمود درويش ونزار قباني ومظفر النواب وعبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم ونجيب سرور في بعض هجائياته، فلدى كل من هؤلاء روافع تعمل مع الشعر -الذي لا يحتل المرتبة الأولى هنا-، كالسياسة والجنس واللهجة المميزة، وتجعله قابلاً للقراءة بالأذن.
أما القراءة بالعين فتعطي القارئ المدرب فرصة التمعن والتدقيق والتوقف والتفكر والمراجعة والعودة إلى فقرة سابقة، أو صفحة سابقة، وربما إلى كِتاب آخر لنفس المؤلف أو لغيره، فكثيرًا ما قلبْتُ الكِتابَ على وجهه عند صفحة ما وبحثت في مكتبتي عن كِتاب آخر لأستجلي نقطة يجب أن أحيط بها لأفهم أكثر، وهذا ما يفتقده قارئ الأذن الذي يمكن أن يشرد ذهنه إلى أشياء أخرى ولا ينتبه إلى ما يُذاع. لذلك فهذه الأسطوانات المدمجة التي تُوزع مع الكتب، أو بديلاً عنها، فكرة جيدة لانتشار الكُتب وإعطاء فكرة للمستمع عنها، لكنها لا تصلح - في رأيي- بديلاً عن الكِتاب- الورقي أو الإلكتروني- الذي لا غنى عنه عند القارئ المتعمق.
شرائط الكاسيت منذ ما يقرب من أربعين سنة صنعت ثورة في إيران، والفيديوهات المرفوعة على موقع «يوتيوب» صنعت حِراكًا ثوريًّا في أكثر من بلد عربي في السنوات الخمس الفائتة، لذلك فالمقاطع الصوتية أو المصورة أو الكُتب والأشعار المسجلة على أسطوانات تصلح اليوم لترويج الأفكار أو لتحميس الناس ودفعهم ناحية طريق معينة، لكنها ليست الوسيلة الأنسب لتذوق الآداب أو لتحصيل العلوم، تصلح عاملاً مساعدًا للطلاب -مثلاً- في تبسيط موضوعات علمية أو المساعدة في فهم درس ما، لكنها لا تستقيم وحدها لتصنع متعلمًا، إلا إذا تفرغ لها تمامًا، وهو ليس مقصودًا في موضوعنا الذي يفترض أن الشخص يستطيع تحصيل المتعة وهو يكتفي بسماع رواية «البطء» أو «كائن لا تحتمل خفته» لميلان كونديرا، أو «الثلاثية» لنجيب محفوظ، أو ديوان «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت» لمحمد عفيفي مطر، وهو يقود سيارته من بيته إلى العمل والعكس.

وليد سليمان/ كاتب ومترجم تونسي

الكتاب المسموع منافس خطير للكتاب الورقي

إن كان الكِتاب المسموع قد وصل إلى العالم العربي قبل فترة غير طويلة ولقي رواجا كبيرا في المدة الأخيرة، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من الكُتب التي تُسمع ولا تُقرأ موجود في الدول الغربية والصناعية الكبرى منذ عقود وله «قرّاءه» الأوفياء دون أن ينافس الكُتبَ الكلاسيكية بشكل جدي.
وشخصيا رغم امتلاكي كل ما يلزم من أدوات لاستهلاك هذا النوع من الكُتب، إلا أنني لم أغرم أبدا بالكتاب السمعي وبقي الكتاب الورقي الكلاسيكي هو المفضل لدي، باستثناء حالات معينة، مثلا عندما يقوم الكاتب نفسه بالقراءة (كارلوس فوينتس، بابلو نيرودا، ماركيز...)، أو عندما أستعمل سيارتي لمسافات طويلة. والسبب في ذلك يعود أساسا لعدد من الميزات التي لا نجدها إلّا في الكِتاب الورقي الذي اخترعه «غوتنبرغ» قبل قرون عديدة. فهذا النوع من الكُتب في رأيي يساعدنا على التركيز وعلى هضم ما نقرؤه حسب إيقاعنا الخاص، لذلك تجد أناسا يقرؤون بسرعة كبيرة وأناسا آخرين يقرؤون ببطء، بل هناك من يعيد قراءة جمل ومقاطع كاملة من الكُتب مرّات ومرّات.
ومن أهمّ مزايا الكتاب الورقي في اعتقادي هو أنه يسمح لنا بتدوين الملاحظات على هوامشه، وتسطير المقاطع المهمّة، وهو ما يسهّل لنا العودة إلى تلك الجمل أو الفقرات كلّما دعت الحاجة. والحقيقة أن هذه الميزات بالذات هي التي جعلتني لا أقبل كثيرا على الكتاب المسموع والكتاب الإلكتروني الذي يمتلك بدوره ميزات مهمّة خاصّة للإنسان الذي يتنقّل كثيرا ويسافر بكثرة.
ومع ذلك تبقى للكتاب المسموع أهمّيته ومزاياه العديدة التي تجعل منه منافسا خطيرا للكتاب الورقي والتي نذكر من بينها: سهولة «قراءته»، حيث لا يتطلّب تركيزا كبيرا مثلما هي الحال بالنسبة للكتاب الكلاسيكي، بل أننا يمكننا أن نستمع إلى هذا النوع من الكُتب حتى في الظلام. كما يساعدنا الكتاب المسموع على تعلّم اللغات الأجنبية وإتقانها، وهو مرافقنا الأمثل في السفر سواء عبر القطار أو الطائرة أو الباخرة خصوصا عندما نضع سماعة في أذننا تجعلنا لا نزعج أحدا حولنا، والأهم من ذلك هو أنّه يشكّل حلّا سحريا لفاقدي حاسة البصر، إذ أنّه يعوّض المُرافق الذي بدونه لا يمكن لهؤلاء الناس قراءة الكتب. ولنتخيّل ماذا كان الكاتب الأرجنتيني الضرير خورخي لويس بورخيس سيقول لو أن الكُتب المسموعة كانت موجودة في عصره، وهو الذي قال يوما إن الفردوس مكتبة.
كلّ ما سبق يجعلني أفكر أن الكتاب المسموع لا يمكن أن يمثّل تهديدا للكتاب الورقي، بل هو مكمّل له، فكلاهما يساعد على نشر الثقافة والمعرفة حتى وان اختلفت الوسائط والمحامل لذلك علينا أن نشجّع الكُتب المسموعة في العالم العربي ونستثمر فيها.

محمد الأصفر/ روائي ليبي

القراءة بحواس جديدة

بداية لا يجب أن يأتي إلينا الورق كلما ذكرنا كلمة كِتاب، فالكتاب عبارة عن شيء مكتوب، قد يكون بالحبر أو الضوء أو الصوت أو حتى الخيال ربما في المستقبل، وتلقي الكِتاب من قِبل القارئ يختلف من قارئ لآخر، حسب ظروفه الصحية مثلا أو حسب النهضة الحضارية التي يعيش فيها، ويرتبط الأمر أيضا على تقنية الكتاب، فهناك كتب يفضل سماعها أفضل من تصفحها ورقيا أو إليكترونيا.
أعتقد أن الأجيال القادمة التي تستخدم الاليكترونات بكثافة ستستغني عن الكتاب الورقي، الذي صار مزعجا جدا سواء في ثمنه الباهظ أو في وزنه وحجمه خاصة أثناء السفر والتنقل، وستكتفي بتخزين الكتب التي ترغب في أقراص اليكترونية، ولكن الجيل الحالي والذي قبله فما زال متعلقا بالورق، ومازالت عينه هي الحاسة الأولى في تقنية التلقي، فالعين يمكنها أن تعود للسطر وتتأمله وتقرأه بصريا أيضا كعمل تشكيلي حروفي ربما، بينما الآذن ستكتفي بامتصاص المعنى وسيؤثر إيقاع الصوت في عملية تلقي العمل الأدبي بشكل أو بآخر.
أتذكر بعض الكُتاب الكبار الذين اعتمدوا على حاسة السمع في القراءة، نظرا لضعف بصرهم أو فقدانه بالكامل كطه حسين وبورخيس وساراماجو، ولكن هؤلاء ما كانوا يتواصلوا مع الأدب بشكل جيد، لو أنهم لم يتحصلوا على مبدعين شباب ذائقتهم عالية وثقافتهم كبيرة يقرأون لهم الكتب ويناقشونهم فيها، وأقصد هنا سهير القلماوي بالنسبة لطه حسين، والبرتو ماغويل بارغاس يوسا بالنسبة لبورخيس، وبيلار زوجته تقريبا بالنسبة لسارماجو.
رغم أهمية حاسة السمع إلا أن القراءة بالبصر وبشكل شخصي ستظل هي الأثيرة، وهي الأكثر نفعا من ناحية الاستيعاب والتعمق في النص والتركيز على البؤر المضيئة فيه بشكل أفضل، وقد تنفع الأقراص الصوتية في سماع الأخبار أو النصوص الدينية أو الكتب ذات الصيغة التعليمية، أو الوعظية، لكن مع النصوص الأدبية فالأمر صعب، فالقارئ قد يبقى في صفحة واحدة لمدة ساعة، وعملية استعادة الشريط سيحول السطور إلى سماع شيء ممل، لأنه في كل استعادة سيأتي الصوت نفسه والقراءة نفسها والكلمات نفسها، لكن الاستعادة عن طريق البصر كما في الصفحة الورقية أو الاليكترونية ستمكن القارئ من إنتاج قراءات متعددة متشعبة عميقة تفضي إلى معان أخرى سيعجز سماع النص صوتيا في جلبها.
ربما تكون الموسيقى هي سيدة الكتاب الصوتي، وربما يتطور القارئ كي ينجح في قراءة الموسيقى بأذنه وكأنها قصيدة أو قصة قصيرة أو لوحة تشكيلية، الأمر حاليا صعب بعض الشيء، لكن مع تطور العلم حتما سيصل القارئ إلى مثل هذه القراءات، دائما الحياة تبدأ من الحرف، الذي انتقل في نقش نفسه من الصخور إلى الجلد إلى المعدن إلى الورق.. إلى الوسائل الاليكترونية، وكما يطور الحرف الأشياء لترتقي علميا أكثر، هو يطور نفسه داخل الحواس جميعها، كي تستنطقه أكثر، ليفصح عن مكنوناته وأسراره أكثر.

الرجوع إلى الأعلى