إميل سيوران.. البركان المكتوم
نشرت المجلة الأدبية الفرنسية «ماغازين ليتيرار» في عددها557  لشهر جويلية مقالا عن الكاتب الروماني الشهير إميل سيوران تناول صدور مجموعة مقالات له نشرها بين سنتي 1932 و 1941 حملت إعجابه بالفاشية، و قد أثار الموضوع جدلا في الأوساط الأدبية و ننشر المقالة مترجمة هنا كاملة.


بقلم باتريس بولون / ترجمة عمر شابي


بخلاف اكتشافات محتملة جديدة  يمكننا القول أننا صرنا محيطين بكل أعمال سيوران بعد عشرين سنة من وفاته في باريس يوم 20 جوان 1995. فلدينا الآن قبل كل شيء كتاباته في بلده رومانيا التي وضعها في حياته تحت الغطاء، و خصوصا «تشوهات رومانيا» الصادر سنة 1936 و الذي صدر في فرنسا عام 2009، و يوصف بأنه كتابه الملعون، حيث قام بتمزيق نسخته الوحيدة التي احتفظ بها. تعبيرا عن الخزي الذي يشعر به مما كان يعتقد حينها ( و خوفا من أن يتم نبش ذلك مرة أخرى). خاصة مواقفه المعادية للسامية. و ينطبق هذا أيضا على كراساته التي أعادت رفيقته سيمون بووي كتابتها، قبل أن ترحل هي الأخرى غرقا عام 1997، كما تم العثور أيضا على عدد من كتاباته المتفرقة وسط أوراقه، مثل نصه الرائع «بلدي» 1996 و فيه يعود إلى التزاماته كشاب في صف حراس الحديد، و هي نسخة رومانية تحضيرية  لكتابه تدقيق في التفكك، و كذا مقالة صغيرة هي الأخرى بالرومانية عن فرنسا التي ستصير بلده بعنوان عن فرنسا 1941.
في غضون ذلك يبقى اللغز قائما عما كان يدور في رأس سيوران حينما قرر في 1947 ألا يكتب إلا بالفرنسية و هو ما لم يغير شيئا في مواضيعه لأنه أخذها جميعا من مرحلة ما قبل تاريخه الرومانية مثلما يسميها، و لا في توضيحها و تركيبها. فما الذي بقي من قناعاته الشبابية في أعماله اللاحقة؟ ما الدور الذي لعبته تلك القناعات و في أي معنى؟ يمكننا تقريبا أن نأخذ فكرة الصورة الجديدة التي يقترحها ابستمولوجي الطب جورج كانغيلهام لوصف إعادة تنظيم الجسد بعد الإصابة بالمرض و لكن هذه المرة على الصعيد الذهني.
التأويل الصارم الذي ساهم فيه كاتب هذه السطور يتمثل في اعتبار كتاباته الفرنسية بمثابة «علاج» لشطحاته الماضية، و إلا «تكفيرا عن ذنب» قام به من خلال تبني لغتنا التي تفرض عليه الوضوح و التوازن. هذه النظرية التي أقر بها سيوران ذاته على هوامش كتاباته بالفرنسية تبدو واقعية. لكنها تبقى عامة و تبدو كأنها أخلاقية كثيرا ما يبعدها عن الإقناع.
من وجهة نظر السيرة نعلم أن سيوران حافظ على علاقات مع بعض الوجوه اليمينية جدا، كما تشهد بذلك صداقته مع موريس بارداش (1907-1998) صهر برازيلاخ، مثقف من الطراز العالي متخصص في ستندال و بلوا، لكنه أيضا فاشي و ينكر جرائم النازية عن قناعة.

لا أحد جدير بالإعجاب من الساسة سوى هتلر

ترجمت حوالي 30 مقالة كتبت بين 1932 و 1941 و نشرت في عدة مجلات رومانية تم جمعها تحت عنوان «مديح البربرية» تضع حجرا آخر في هذا البناء لمعرفة كون سيوران السابق وقتها، و حتى حزام عبارة «لم تنشر من قبل» الذي يلف المجموعة لا ينبغي أن يجعلنا نتيه، فنحن نعلم منذ خمسة عشر عاما عن هذه المقالات التي تعود إلى فترة إقامته في ألمانيا ما بين 1933 و 1935و فيها جملة «لا أحد من رجال السياسة في العالم الحالي يعطيني القرب و الإعجاب مثل هتلر» المكتوبة في جويلية 1934، مباشرة عقب ليلة الخناجر الطويلة حينما هاجمت قوات فرقة الحماية «الأس أس» فرقة الهجوم من أصحاب القمصان البنية. و كانت تلك المقالات قد تمت ترجمتها من قبل أحد أفضل المترجمين من الرومانية للفرنسية ألان باروي الراحل عام 2009. و جمع تلك النصوص مع أخرى  أقدم و أحدث، يسمح على الأقل برؤية متلصصة للمناخ الذهني للشاب سيوران، و تقدير تطور مواضيعه و إعادة بناء منحنى التزاماته.
بما أن سيوران أبرز لنا أنه صاحب تحكم شكلي نادر، فمن الضروري أن نعترف بوجود لحظات من الرطانة و اللهجة الغريبة في مقالاته. الشاب المثقف اللامع الذي نال الاعتراف و عمره 32 سنة في بلاده كمفكر مستقبل، كان كثيرا ما يتحدث أكثر مما يفهم. كان خطيبا مفوها، قادرا على الخوض في كل موضوع تقريبا مادام غريبا عن المألوف. و كانت الكتابة تأخذه أكثر مما كان يقودها، و لو وضعنا جانبا ذات النبرة العامة الغاضبة من كل شيء، يمكن أن نقول أنه لا «جنون» في خطاباته ذات المرجعية الجيدة، و نحس فيها باستمرار صدى الكتب الكبرى التقليدية ، شوبنهاور نيتشه و دوستويفسكي، لكن ايضا هيغل أو الرائج وقتها إنحطاط الغرب لشبينغلر. و نلاحظ بوضوح ميلا في تأكيداته، و هو ما يعبر عنه عنوان المجموعة.


سيوران كان يقوم جيدا بمدح البربرية التي تعيد البعث، و يضيف أحيانا بمتعة مدافعا عن الديكتاتورية الأكثر صلفا إذا حملت معها رسالة «خلاص» مهما كان نوعها، و يدعو لصالح «تفجير الغرائز» و إلى «العودة إلى الأساسي». لكنه لم يكن بعيدا عن التشكيك في عملية الهدم هذه. و يتحمس من أجل «الثورة الروحية» التي يرى ملامحها في النازية و التي تنقص كثيرا بلده الصغير –و سيكون هذا هو قلب كتابه الملعون «تشوهات رومانيا» الصادر عام 1936، و يتحدث أيضا عن الطابع المحلي دون أفق عالمي و عن الانغلاق و الحمق الوسخ.
و أكيد أن رداءة النازية تلك هي أيضا بالنسبة له قوتها في الجذب و لا نحصي في مقالاته المواقف الناتئة ضد المثقفين و ضد الروح المخادعة و الوضوح الذي يجفف و سطوة الأفكار التي تصيب بالشلل، و يبقى أنه لا يمكننا أن نأخذ مواقفه السياسية على أنها «فاشية» بالمفهوم العقائدي للمصطلح، مثلما يحدث لاحقا في تشوهات حين يدعو في خضمها إلى «ثورة إجتماعية» في نسق 1789 و البلشفية، و هو إتجاه يلاحظ سيوران غيابه التام عن النازية، و في مواقف متعددة يعمد إلى البعد عن الوطنية «الرجعية الصرفة»، ما يريده ليس إدخال الهتلرية إلى رومانيا التي يرى بنبوءة تهديدها الإمبريالي، لكن هزة ميتافيزيقية مستقلة في «الروح الرومانية» و في النهاية نلاحظ تطورا رغم أنه غير واضح في عودة متواترة للوراء في مواقفه التي تغضب تصاعديا ثم تنشحذ ما بين 1933-34 لكي تفقد حجمها تدريجيا لتسقط في عدم اهتمام المثقف الغريب.
  من خلال كل هذا لا تنبغي المخاطرة باستنتاجات أكيدة، فهناك نقاط خارج السياق فلكي نضع صورة عادلة عن التزام سيوران علينا أن نتحدث عن التزام هايديغر و مفكرو اليابان من مدرسة كيوتو، و في النهاية الأخذ بعين الاعتبار ما جلبه التاريخ الجغرافي الحديث للفاشيات. و منه أن تلك الحركات لم تكن بأي حال شذوذا أو غرابة أطوار و لكن مثلما يشير علماء أمثال إيان كيرشاو و المؤرخ الشاب الفرنسي جوهان شابوتو و لكنها واحدة من الإفتراضيات الحاضرة للأسف دوما في تفكيرنا الغربي الجميل. و هذا ما يفسر الصيغة الواعية جدا و الرصينة لأفكار غريبة للغاية عبر عنها الشاب سيوران. لا عجب أن يبقى شيء من ذلك في كتاباته السابقة، مثل موقفه الراديكالي ضد الديمقراطية الشكلية (فهو لا يرى ممكنا في بلداننا سوى سلطة «المستبد المستنير» و الاحتقار المتعالي للشعب الذي خففت منه تأثيرات الفوضوية.

فرنسا بلد فارغ يفتقد للعمق لا مهابة له

العنصر الثاني الذي يمكن تأكيده أن معاداة سيوران للسامية لم تكن أساسية، فهي ليست جزءا بالمرة ضمن مواقفه السياسية و ذلك واضح من خلال «تشوهات» حيث يقول « لو أن رومانيا لم يكن بها أي يهودي، هل ستكون حالتها أقل بؤسا؟ فيم سيكون مستواها التاريخي (الوحيد الذي يوضع في الحسبان) أسمى...أقصى ما قام به اليهود أنهم أجلوا اللحظة التاريخية لرومانيا، فهم ليسوا بأي حال سبب شقائنا، سبب شقائنا الأبدي» و المحاكمة التي أقيمت له بشأن هذا الموقف تبدو بوضوح غير ذات معني، فرؤيته لليهود الموزونة بدقة هي في ذات الوقت معادية للسامية و معجبة بالثقافة اليهودية، كانت طية في ثوبه الثقافي  لها مفعول التقاليد.
النقطة الأخيرة و هي الأهم أدبيا تتعلق بميله الداخلي، السابق لتبنيه لغتنا الفرنسية، و الذي لم تستطع هذه الأخيرة محوه. في تقديمه لترجمة كتابه «عن فرنسا» و هو مخطوط كتبه سيوران عام 1941 بالرومانية، بينما كان قد قرر نهائيا أن يستقر في باريس، و المنشور بالتزامن مع «في مديح البربرية» يرى ألان باروي في الكتاب «أنشودة حب لفرنسا»، لكنها نغمة غريبة تلك التي تركز على النقاط العمياء في فرنسا، و فيها يستاء سيوران من غياب السحر و المأساة، و من تحصيل ذلك فقدان فرنسا للعمق و للمهابة و السمو. و فقدان الأحاسيس متغير لأن من أوصاف مثل «دون حيوية»، «بخيل»، «ضيق»، «فارغ»، «مثير للشغب» و «متقوقع في برود عاطفي» التي أطلقها على فرنسا ظهرت أغاني الحب الأكثر إيجابية... و علينا أن نقرأ نص سيوران عن فرنسا مثل صورة ذاتية، فما يلوم عليه سيوران فرنسا هي خصاله بالذات «روماني متشيطن» بمفهومه.
سيوران لم يبتعد كثيرا عن نفسه حين تبنى اللغة الفرنسية، و استسلم لذاته في المرآة التي قدمتها له لغتنا و عن الموضوع المجنون الذي كانه، موضوعا مثيرا للجدل مثلما بقي. و الفرنسية لم تشفيه، لقد استعملها و أكثر من ذلك بالطريقة المختصرة لترويض ثرثرته «البلقانية» التي ولدت معه فبنى عملا دقيقا و رائعا. تحت الجليد، هناك نار. البركان خنق نفسه، لكن الحمم التي في الأسفل تلامس السطح باستمرار، و تضمن لكتاباته نوعيتها و ديمومتها. سنقرأ طويلا سيوران لأنه يلخص الأشياء الغامضة، و التي يحملها إلى نقطة التوهج، عنا نحن الغربيين الذين يرانا في حقيقتنا مجرد «غير أسوياء أشقياء»، «شياطين» و «معذبين» لكي نستعير تعابيره، لكن الذين بفعل عصابهم نجحوا في بناء حضارة قبل أن يسارعوا بإصرار لتدميرها.

الرجوع إلى الأعلى