جنات الجسد المنسية

مختصون سوسيولوجيون و أنثروبولوجيون يتحدثون
الحمامات.. فضاء لتحرير الجسد وتجاوز الفجوة  بين المقدس والمدنس
شكلت الحمامات الشعبية معلما من معالم الثقافة و فضاء اجتماعيا معقدا، يرى له المختصون السوسيولوجيون و الأنثروبولوجيون و كذا النفسانيون دورا وجوديا في حياة الناس، باعتباره مكانا للجسد و حيّزا تبادليا يوّفق بينه و بين الروح و يتجاوز الفجوة الواقعة بين المدنس و المقدّس، كما اعتبره البعض الآخر رهانا اجتماعيا و مجالا سانحا لإعادة إنتاج تعليمية الجنسي عبر جدلية التعري و التستر و الحياء و الوقاحة و غيرها من الصور السلبية و المشبوهة تارة و الإيجابية و المنمقة تارة أخرى التي ارتبطت بهذا المرفق.
• استعادة ملكية الجسد
الباحثة في علم الاجتماع بجامعة قسنطينة2 خديجة عادل اعتبرت الحمام الشعبي مرفقا مليئا بالتضاد و التناقضات تماما مثل تصميمه المعماري الذي يتميّز بكثرة الفراغات المظلمة التي يكسرها نور خافت يبعث على الطمأنينة و الراحة، التي يبحث عنها الراغبون في استعادة ملكية جسدهم، بعد أن عجزوا في تحقيق ذلك في أماكن أخرى سواء البيت و الحمامات العصرية، مشيرة إلى التحدي الذي رفعته النساء منذ القديم لأجل عدم حرمانهن مما أطلقت عليه اسم "المرفق النعيم" الذي تتصالح فيه الأنثى مع ذاتها بتدليل نفسها و منحها فرصة الاسترخاء بكل حرية و دون قيود أو عقد. فالحواجز الاجتماعية و النفسية تتحطم بمجرّد ولوج سقيفة هذا المبنى الحيوي الذي تتخلّص فيه المرأة من ضغوطاتها و تنّفس فيه عن مكبوتاتها بعيدا عن عيون الحماة و قيود الزوج أو الأب أو الأخ، الشيء الذي جعل النساء في الماضي يستعملن الحمام كوسيلة و حجة لمغادرة البيت و التحرّر للحظات من القيود المفروضة عليهن بالبيت، مما جعل من ذلك المكان فضاء للترويح عن النفس و التفاعل الاجتماعي و الثقافي، ففيه يتم الإعداد للزواج حيث تبحث الأمهات عن امرأة لأبنائهن و عن زواج ملائم للعائلة، أين يتم فحص الفتيات عن كثب دون علمهن أو بعلمهن فمراقبة الأجساد تصبح مباحة في مثل هذه المنشآت التي تسمح باستعراضها دون حرج.
و رغم تغيّر الأوضاع بخروج المرأة للدراسة و العمل و عدم حاجتها لاستعمال الحمام كحجة لمغادرة البيت، غير أن هذا الفضاء لا زال يحافظ على خصوصيته القديمة في استقطاب العنصر اللطيف باعتباره أشبه بمقهى أو صحيفة للتبادل و الاطلاع على أخبار الآخرين أو عيادة نفسية توّفر حصص مجانية للبوح للتخفيف من الضغوطات التي تفرضها متاعب الحياة اليومية، و حتى لو اختارت المرأة عزل نفسها و عدم الاحتكاك بغيرها فإن الحمام التقليدي بفراغاته الكثيرة يمنحها تلك الفرصة، التي تبقى سر تفضيل الكثيرين للحمامات الشعبية عن العصرية، رغم ما توّفره من خدمات ذات جودة أكبر و نفس الشيء بالنسبة للرجال الذين يجدون هم أيضا في الحمام التقليدي ما يحفظ حميميتهم.
من جهتها ترى الباحثة في مجال الأنثروبولوجيا حكيمة عدال بأنه رغم ما فعلته مواقع التواصل الاجتماعي و وسائل الإعلام المرئية و السينما من تشهير بالجسد و بشكل خاص مفاتن المرأة، لا زال الحمام و بشكل خاص التقليدي من أكثر الأماكن المحبذة للبشر لاستعراضه لحب الكثيرين للتفاخر بقدهم الممشوق أو العضلات المفتولة، و إن كان الأغلبية يحتكمون للكود السلوكي المستمدة من الثقافة الموروثة و الراسخة بخصوص درجة التعري التي أثيرت بخصوصها جدل كبير وصل إلى حد تحريم هذه الفضاءات على الجنسين، و منعها بشكل أكبر على العنصر اللطيف، مثلما حدث ببلادنا في تسعينيات القرن الماضي أين تعرّضت بعض الحمامات للتخريب.
و تحدثت الباحثة عن الشكل المعماري المتميّز للحمامات القديمة التي تعود إلى العهد العثماني و تقسيماتها التي تتيح مستويات من الخصوصية التي تحافظ على حميمية المترّددين على المكان من فئة الخجولين الذين يرفضون فكرة التجرّد من الملابس أمام الغرباء، مما يدفعهم لاختيار الحمامات التي توّفر قدرا من الخصوصية البصرية من خلال اعتمادها على النور الطبيعي الذي يتسلل من خلال كرات زجاجية صغيرة في السقف، إلى جانب الفراغات المتعددة التي تسمح لكل من يرغب في التواجد وحده و بعيدا عن أنظار الآخرين من الجلوس في ركن شبه معزول، و هو ما تفتقر إليه الحمامات العصرية التي يعرف عددها تزايدا مستمرا بالأحياء السكنية الجديدة، وسط تحسر و حنين السكان للحمامات التقليدية التي كانوا يرتادونها بأحيائهم الشعبية القديمة.
و مهما كانت البدائل الحديثة على مستوى حمامات البيوت أو خارجها مغرية، تبقى قيمة الحمام التقليدي حية و لو بشكل متباين بين منطقة و أخرى و من حي إلى آخر، و الدليل اعتماد الكثير من المستثمرين في هذا المجال على البدائل الحديثة بإلهام من التصاميم التقليدية سيّما ما له علاقة بما يسمى محليا بـ"البورمة" و البيت الباردة و السخونة.

النعيم المنسي و الفضاء المثالي للحياة المجتمعية
من جانبها وصفت الباحثة و مديرة المركز النمساوي للتنمية المستدامة هايدي دومريشر المهتمة بحمامات البلدان المتوسطية و التي حققت عددا من الأبحاث في هذا المجال ضمن مشروع الشراكة الأورو- متوسطية بإشراف من مركز(أوكودروم) الحمامات مكانا مخفيا و فضاء مثاليا للحياة المجتمعية ، كما اعتبرته من الأماكن النادرة لجلسات النساء العلنية، فضلا عن كونه مرفقا للاسترخاء و الترف و ممارسة الطقوس و الأنشطة الفنية و الاحتفالية وحتى الدينية، مشيرة إلى أن أولى الوظائف الاجتماعية للحمام سواء بالنسبة للرجال أو النساء لها علاقة بالجسد قبل كل شيء، سواء بدافع التداوي أو التجميل و الكل لهم ذكريات من الطفولة عن أول التقاء أو اكتشاف للأجساد العارية دون أي محظورات بشكل يغلب عليه تناقض صارخ لما يعيشه المجتمع خارج هذا الحيّز، أين لا يسمح للمرأة بشكل خاص و لا الرجل بكشف أجزاء كثيرة من جسمه، وقالت أن عدد من زملائها في فريق البحث تطرّقوا للمباح و المحظور و وقع تعرية الجسد الذي كان محل جدل و رفض و منع بخلفيات دينية و اجتماعية، مما جعل الكثيرين يفرضون "الفوطة".
الباحثة أكدت أن بحثها الميداني جعلها تكتشف الوجه الآخر للحمام و تكتشف من خلاله الوجه الآخر لمجتمع لديه من الموروث الثقافي المادي و غير المادي الذي هو بمثابة بحر لا حدود في مجال البحث، لأنه ليس مجرّد فضاء حضاري ضمن حضارات أخرى بل هو المدينة نفسها.
التوازن بين المقدس و المدنس
و اعتبر الباحث عمر كارليي في دراسة نشرها ضمن المشروع ذاته، بأن المخيال القمعي للمتشددين الدينيين و كذا ما أطلق عليه الوسواس الذكوري الساعي إلى مراقبة النساء أو التخيلات الغرائبية و الشهوانية التي تلهم المخيال الشرقي للغربيين، لم يؤثر على سحرية المكان حتى و لو كان عاديا و مبتذلا، إلى جانب ميزته الجوهرية في ضبطه للجسد و للعلاقات بين الجنسين و سعيه لإيجاد التوازن بين المقدس و المدنس، فضلا عن سلسلة الخدمات التي تسهم في تدعيم طابعه المريح و قدرته على تطوير الرباط الاجتماعي.                                      

مريم/ب

جنات منسية خلف الأسوار

حافظت الحمامات الشعبية على مكانتها عبر العصور، لما تستحضره من طقوس اجتماعية و ثقافية و عمرانية، و كذا اختزالها لصورة مجتمع و تراث المدن  تنادى اليوم عديد المؤسسات الثقافية و العلمية الأجنبية بضرورة الاهتمام بها و إنقاذها من الاندثار.
فالحمامات التقليدية بالجزائر على غرار الكثير من الدول العربية، شكلت لزمن واجهات حضارية عكست أسلوب عيش و تحضر و اهتمام الناس بنظافتهم بشكل من أشكال الوعي البشري بقيمة نظافة الجسد، و إن كانت وظائف ذلك الفضاء تجاوزت توفير إمكانيات النظافة الجسدية إلى خلق نسيج متكامل من القيم و العادات التي نشأت على هامش ترّدد الإنسان عليها، حيث باتت جزء مهما في تراث الكثير من المدن و إرث مجتمع اعتبر نظافة الجسد عملية معقدة تحتاج إلى مهارات لا يمكن توفيرها بالبيوت، فأنشأوا فضاءات خاصة لها منحوها جاذبية اجتماعية و معمارية لا يمكن إغفالها، حيث جمعت الحمامات بين مكان للنزهة و الترويح عن النفس و الاسترخاء و حجر زاوية في كثير من المناسبات البهيجة من أفراح زفاف و إنجاب و احتفاء بحلول مناسبات دينية..رسخت طقوسها في أذهان الصغار و الكبار و باتت مع الوقت تقليد يحرص الكثيرون على ممارسته و لو مرة في الأسبوع، و ليس هذا فحسب بل كان بمثابة فضاء التقاء و تجارة و مكان للبوح أضفى عليه جمال و سحر الهندسة المعمارية التي أبدع الأولون في تجسيدها و حوّلوا الكثير منها إلى تحفة معمارية فنية رصعوا جدرانها بالزخارف و الزليج و بلاطها بالرخام و جعلوا لبعضها قبابا و زينوا مداخلها بنوافير المياه البديعة و جعلوا بداخلها غرفا مقسمة بإحكام تهيئ الراغب في الاستحمام لمراحل عدة بطقوس تختلف مما يطلق عليها البيت "الباردة" إلى "السخونة".
و تبرز أهمية الحمام الذي لا زال يعتقد الكثيرون أنه نعيم الدنيا، من خلال العدد الكبير لهذه الفضاءات بالحي الواحد، فالمدينة القديمة بقسنطينة على سبيل المثال كانت تتوّفر على أكثر من 20حماما شعبيا، يستقبل النساء صباحا و الرجال مساء ضمن شروط خاصة ليس من حق أي كان اختراقها، خاصة في الفترة الصباحية التي يتحوّل فهيا المكان إلى شبه سلطنة حريم أو "حرملك" و جناح مؤنث مفعم بالطقوس، لأنه بالنسبة للكثيرات بمثابة نادي أو مقهى أو منتجع تتنافس بنات حواء على حجز زاوية لائق لهن فيه لأنهن كن يمضين فيه أكثر من ست ساعات دون ملل أو كلل لأنهن تجدن فيه كل أجواء المرح من دردشة و غناء و زغاريد و حتى الشجارات التي قد تحدث بين الفينة و الأخرى لا تمر دون استثمار الفضوليات فيها لتمديد لحظات الفرجة.
و حتى إن فقدت حمامات اليوم الأجواء القديمة التي كانت تصنعها مرافقات العروس و المنجبة التي تنتظر وصول اليوم الأربعين بعد الولادة و ما يحضرنه من حلويات و يرددنه من غناء و يقدمنه من هدايا رمزية و بشكل خاص لصاحبة الحمام و العاملات فيه، و لا تخلو ذاكرة الكثير ممن عايشوا مثل هذه الأجواء من القصص  الطريفة مثل حالة الاستهجان التي يتسبب فيها جلب الأمهات لأطفالهن الذكور الذين لم يتجاوزوا الخامسة من العمر.
و تشير أغلب المصادر بأن إنشاء الحمامات الشعبية يعود إلى العصر الروماني، لكنها كانت بسيطة مقارنة بما راج فيما بعد في العهد الإسلامي حيث تضاعف عددها و بات يلازم دور العبادة تقريبا و يتمتع بمكانة كبيرة سيما في العهد العثماني الذي شهد تشييد الكثير من هذه الفضاءات التي تحوّلت فيما بعد إلى معالم أثرية تخفي بين جدرانها و في ذاكرة مكانها الكثير من أسرار العائلات و الأشخاص، كما تميّزت تلك الفضاءات التقليدية بطرازها المعماري تغلب عليه الأقواس و القبب و الدهاليز بالإضافة إلى الأسقف الملوّنة و المزيّنة بقطع الزجاج العاكسة للضوء الخافت، حيث حرص المعماريون على أن تكون الحمامات فضاء جماليا يبعث على الراحة و ذلك في حجراته الثلاث المعتادة الباردة و الدافئة و الساخنة التي يتم الاستحمام بها، وتعلوها قبة قليلة الارتفاع مثقبة بعدة ثقوب، يكسوها زجاج ملوّن، مهمته إضفاء جو جمالي مشع لأن أشعة الشمس تنفذ منه وتشع في الحجرة عاكسة ألوان الزجاج المختلفة، مما يضفي سحرا أكبر على المكان الذي يعد مقصدا شعبيا بمزايا خاصة يجد فيه قاصده ملاذا للتخلص من متاعبه الجسدية وضغوطاته النفسية ومكاناً للاغتسال والتطهر، بل تعدى ذلك ليتحوّل إلى مبنى أو مقر استشفائي يقصده الكثير من المرضى، و ناديا مصغرا يلتقي فيه الأحبّة لتجاذب أطراف الحديث والترفيه عن الذات، ومما يؤكد نجاحه هو استمرار وجود  الحمامات  وحفاظها على مظهرها وتصميمها حتى فيما يبنى منها حالياً رغم ظهور الحمامات المنزلية أو الحمامات العصرية، إذ حافظت الحمامات الشعبية على طعمها أو ذوقها الخاص حيث يحس الداخل إليها بعبق التاريخ والأصالة بما تستحضره لديه من عادات وتقاليد الأجداد، مما يجعل الحمامات القديمة و بشكل خاص تلك التي يعود تاريخها للعهد العثماني كما هو الحال بقسنطينة بمثابة حلم يتجلى من أعماق الزمان، يسحر المترددين عليها بهمسات تجسد عوالم تغمرها السكينة و الهدوء و تبعث على الافتخار لما تعكسه عمارتها من عظمة التقدم الحضاري و العمراني للمدينة عبر العصور.
مريم/ب

الرجوع إلى الأعلى