إستطلاع/ نوّارة لحـرش

لماذا ظل خِطاب المثقف المعاصر، (الجزائري والعربي على العموم) لا يخلو من نزعة إقصائية للآخر، «الآخر» المثقف، زميله وشريكه في الفضاء الثقافي والأدبي؟. ما منبع هذه النزعة الإقصائية، المتعالية والنرجسية في آن، وهل نرجسية الكاتب والمثقف تُعد من بين الأسباب الرئيسة في ظهور هذه النزعة في أفكار ومشاعر وتصرفات وسلوكات المثقف الذي لا يتوانى عن ممارسة الإقصاء بأي شكل من الأشكال؟ وكيف لمثقف أن يقصي أو يهمش مثقفا آخر، وتحت مسميات وغطاءات مختلفة؟
أين يكمن الخلل؟.
حول ظاهرة "إقصاء المثقف لزميله المثقف"، المتفشية في الأوساط الثقافية والأدبية، كان هذا الملف في عدد اليوم من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الكُتاب والأدباء، الذين تناولوا الظاهرة من جوانب مختلفة، وبمقاربات تباينت في تعاطيها وفي نقاشاتها وأطروحاتها.

بلكبير بومدين/ أستاذ محاضر وباحث
نيران مثقفي الكرنفالات تصيب مثقفين جادين
للأسف الشديد نعيش بؤسا ثقافيا كبيرا، يظهر أكبر وجه له في تلك الحالة المرضية لنسبة كبيرة من مثقفينا، والتي تتجلى أساسا في النزعة الإقصائية للآخر المثقف/ الزميل/الشريك في الفضاء الثقافي. فهناك قفز وتجاوز وإنكار لكل مساهمة جادة مبدعة تأتي من المثقف القريب/ المحلي والشريك في الساحة الثقافية، مقابل التغني بكل انجاز يأتي من خلف الحدود حتى وإن كان هزيلا وضحلا، ومبرر هذه العقدة المرضية يرجع أساسا حسب اعتقادي إلى عقلية سائدة عند نسبة مهمة من المثقفين عندنا، فحواها أن الجزائري مستعد أن يسامحك في كل شيء إلا في النجاح، فكأنك لم تكن.
وتتجلى هذه الأمراض بصفة مهمة في وسائط التواصل الاجتماعي، فنجد مثقفا يقوم بحظر مثقف آخر من حسابه بسبب مخالفته الرأي أو بسبب صداقته مع مثقف آخر لا يتفق معه. ولا يسلم من هذه العقدة المرضية بعض رؤساء الصفحات الثقافية في الجرائد والمجلات الذين يغضون الطرف عن انجازات وإبداعات زملائهم المثقفين، أو أولئك النقاد الذين ينتقصون من قيمة انجازات وإبداعات المثقفين ويبخسونهم حقهم لأسباب ذاتية وشخصية بعيدة عن الحيادية والموضوعية.
أعتقد أن النزعة الإقصائية بدأت تخرج تدريجيا من هامش الاستثناءات وتدخل بصورة متسارعة من الباب الواسع لمتن الممارسة اليومية لنسبة مهمة من مثقفينا. فالمشهد الثقافي عندنا يعج بمظاهر التغييب والإقصاء، فهناك من لا يتقبل انجازات الآخر/المثقف، الزميل/الشريك في الحقل الثقافي، إحساسا منه بعقدة النقص المرضية، التي يغذيها الضعف أو التقاعس أو التكاسل أو العجز عن مسايرة الجديد. وهذا ما يخلف الكثير من الحرائق والصراعات، التي تدفع لرفع منسوب الأحقاد والعلل النفسية الأخرى المتوالدة من هكذا سيرورة، مما يساهم في تسميم المناخ الثقافي (الموبوء أصلا).
وهو ما فتح المجال لظهور فئة هجينة لا تتقن أي جنس من أجناس الإبداع، مواهبها بسيطة، وإمكاناتها ضعيفة، وأدواتها سطحية وضحلة، وأفقها محدود جدا. فهناك من يختلط بالمثقفين والمبدعين ويلتقط معهم بعض الصور التذكارية، كي يتسلق على ظهورهم ويصل في النهاية للادعاء بأنه من أساطين الثقافة والإبداع ولا يشق له غبار. وكل هذا بسبب اهتمام نسبة مهمة من مثقفينا بأمور هامشية لا تغني ولا تسمن الثقافة من جوع. من يحاول الاقتراب من الساحة الثقافية الجزائرية تحرقه النيران الصديقة، ويصاب بحالة من الحيرة جراء استشراء مظاهر تثير الاستغراب والدهشة، وقد تسبب هذا الوضع البائس في ظهور حالات من الاكتئاب والانطواء والعزلة عند نسبة مهمة من مثقفينا (الذين لم يتقبلوا هكذا رداءة). أصحاب البدلات الذين يتصدرون الصفوف والموائد، ويلهثون خلف الدعوات والأمسيات، لا ترضيهم الأقلام الجادة والرصينة التي لا تخضع لسطوة الكرنفلات والمظاهر الزائفة، كما يرفعون فوهات بنادقهم في وجه كل من يحاول الانتقاد وتقديم رأيه الحر بكل صراحة وبعيدا عن المواربة ولغة المجاملات. كما جعلت الآراء الصريحة أصحابها يدفعون ثمنا باهظا من الإقصاء والتهميش في الكثير من المنابر الثقافية.
لكن دوما هناك استثناءات جميلة ورائدة، ومساحات وفضاءات واسعة يفتحها الكثير من مثقفينا الجادين والملتزمين والمؤمنين بالعمل الثقافي المشترك، ومن النكران أن نبخسهم حقهم.

عبد الرزاق بوكبة/ كاتب
السائد هو إقصاء و إجهاض الصوت الجديد المختلف
كتبتُ على صفحتي في الفايس بوك: يمكن في الجزائر أن تصدر كتب شعرية، تشكل قطيعة جمالية مع السائد، فلا تحظى بحرف أو كلمة أو إشارة أو التفاتة أو عرض أو استضافة، ما عدا في حالات نادرة، بما يشي أن هناك إجماعًا على إجهاض الصوت الجديد والمختلف، مستغلين حياء المبدعين الحقيقيين وبعدهم عن كعكة العاصمة. في مقابل حفاوة مغشوشة، بكتب أقل ما يقال عنها إنها أرقام مكرورة في سلسلة موروثة. أقول هذا، وفي ذهني تجارب: فارس كبيش، رمزي نايلي، محمد بن جلول، محمد قسط وآمال رقايق. والعزاء في أن هؤلاء وأمثالهم، لا يكتبون للأضواء، بل ليعطوا للظل معنى الشمس/ المجد للصدق.
وحده الصدق مع الكتابة ومع النفس، ما يفرض على المبدع الحقيقي أن يقوم بالواجب تجاه الإبداع والمبدعين، إذ لا يمكن أن يواجه بياض الورقة، ليكتب نصًا جديدًا، وهو قد اقترف إقصاء نص آخر يراه جديرًا، أو أشاد بنص يؤمن في قرارة نفسه بهزاله، لأي سبب من الأسباب الشخصية البعيدة عن الحسابات الإبداعية.
مرة، أرسلت لي إحداهن رابطًا فايسبوكيًا، يتضمن نصًّا جديدًا لها، طالبة مني التفاعل معه بالإعجاب والتعليق، فقلت لها: إنني لا أستطيع فتحه، ولا التفاعل معه، لأنني لم أعد قادرًا على تصديقك، فقد رأيتك في المنبر الإعلامي الذي تشرفين عليه، تستضيفين أصواتًا هزيلة، لتحاوريها في مواضيع تعلمين أنها لا تملك الكفاءة المعرفية والرصيد الجمالي اللذين يمنحانها الحق في أن تكون في ذلك المنبر، خلفًا لأصوات حقيقية، أنت تعرفينها جيدًا، وتملكين أرقامها وإيمايلاتها وحساباتها الفايسبوكية، كيف أفهم هذا، ما عدا أنك تعملين على حماية اسمك بتكريس نخبة مغشوشة؟
لقد بات الفايس بوك مرآةً، وإن قليلًا من المتابعة، يجعلنا ندرك كيف يتفاعل كثير من نخبتنا الإبداعية، انطلاقا من حسابات غير إبداعية، فالسيد "خ" مثلا/ وضعت هذا الحرف اعتباطيا، يبدي إعجابه بصورة قطة ترضع كلبة، وضعتها فتاة تضع اسما وصورة مستعارين، أو خاطرة تافهة لها، لكنه يمر مرور اللئام على نص جميل لاسم جميل، يعرفه في الواقع، أو حوار عميق، بل إنه لا يكلف نفسه بواجب التهنئة على منشور يعلن فيه صاحبه المبدع، أنه أصدر كتابا جديدًا، أو افتك جائزة وازنة، أو شارك في نشاط حقيقي. أما إذا حدث أن بات مشرفًا على منبر ما، فإنه يسهر الليالي، ليحصي الأسماء الجيدة والجادة التي ستصبح معنية بتهميشه في منبره، وكأنها ستُمحى من الوجود، حين لا يستضيفها، أقصد حين لا يعطيها حقها في الاستضافة، لأن المنبر عمومي أصلًا، وما هو فيه إلا وسيط.
وليت البعض من هؤلاء، يكتفي بتجاهل إنجازات غيره، بعدم التعليق أو التهنئة، بل إنه ينبري لتتفيهها والتقليل من أهميتها، والغريب في هذا النوع من البشر، كونهم سباقين إلى الحديث عن النزاهة وضرورة الدفاع عن الجودة والجمال، بل إنهم "يموتون" في أخذ الكلمة خلال المحافل التي تحتفي بمبدعين راحلين، لم يقولوا فيهم كلمة خير واحدة أثناء حياتهم، هذا إذا لم يكونوا متورطين في الإساءة إليهم وتعكير صفو أيامهم.. إنها الوقاحة الماشية على رجلين.
كنتُ في معرض للكتاب، في إحدى الدول العربية، وصادف أن التقيت كاتبًا جزائريًا "كبيرًا" في الرواق، فاندفعت عفويًا إلى مصافحته، فإذا به يطعنني بهذا السؤال: "بوكبة.. واش جابك؟"، خزرت فيه: "لو كان عْطى ربي، وجيت منسجم مع لقب الكاتب اللي راك هازّو، لوكان أنت اللي كنت سبب في حضوري، وحضور نخبة أخرى من الشباب الجزائريين المبدعين، ماشي تستنكر وجودي في معرض كتاب، علاش لقيتني مشارك في معرض للخضر والفواكه؟". وحدث مرة، أن كنت في مكتب ناشر عربي في بيروت، وإذا به يتلقى مكالمة من كاتب جزائري، يحذره فيها من أن ينشر رواية كاتب جزائري آخر، بحجة أنه متابع أمنيًا في البلاد، وسوف لن يسمحوا له بإدخال روايته إلى السوق الجزائرية، وبالتالي سوف يخسر معه.
لهذا الواقع، مسببات كثيرة، تحتاج إلى دراسة علمية عميقة، ترصد جملة السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي أدّت إليه، فهي ليست ثمرة غريبة عن طبيعة البنية العامة التي تشكل هوية المشهد الجزائري، وطبيعة النظام السياسي القائم على الاستثمار في صراعات الجهات والوجوه والاتجاهات، في ظل غياب تام لمشروع حضاري وطني، يلاقي بين الكفاءات، في تحقيق الرهانات الوطنية.

محمد خطّاب/ كاتب وناقد
خصومة بين أنوات مريضة وعلاقات محكومة بالإلغاء والقتل المعنوي
أبدأ بالحديث عن المثقف قبل الحديث عن الخصومة أو الإقصاء. الخصومة دليل غِنى ونماء للوعي بمعنى معين. ولكن المثقف هو ما يعنيني في هذا المقام، ممارسة الوعي ظاهرة نادرة في العالم العربي، وهذا يدعو للسؤال عن جدوى الكُتب والجامعات والمعارض ودور الثقافة. لِمَ هذا الغياب الذي يملأ الوجود؟ أتذكر مقولة لسكير معبرا عن طبيعة العالم العربي: "نحن في مجتمع يتحرك ولكنه غير موجود". لكي نتحدث عن الوجود يلزمنا الكثير من الممارسات الواعية للعقل وللروح أيضا.
تأتي الخصومة لكي تُعبِر عن حالة الفراغ والغياب المطلق للثقافة الواعية. الآن أتحدث عن الخصومة بالمعنى السلبي. هي ليست خصومة بين ذهنيات تشترك في مبدأ الفعل الثقافي الكبير ولكنها خصومة بين أنوات مريضة تشتغل بفعل العُقد ومركبات النقص. ولأن الوعي لم يكتمل عليه أن يكون ديكورا جميلا للذات، فلا بدّ من لقب واسم ونياشين: أستاذ، دكتور، شاعر، روائي، ناقد. هذه كلها ألقاب مملكة الضعف والترهل حينما تصبح العلاقة مع الآخر محكومة بالإلغاء والقتل المعنوي. والسبب كله في الفراغ الموجود في الذات، وفي طبيعة الخلفيات الثقافية التي لا تتغذى إلا بما ينتمي إلى القشور. بعض المثقفين لا يزال حبيس تراث جاهز لا يقبل جديدا ولا يتمتع بما هو معاصر فيلغي كل ما عداه لأنه يشرب من مورد ضحل محكوم بحده الصلب، وبعضهم ممن يعشق المعاصرة في تطرفها المريض فيلغي بدوره كل من يختلف معه في الرأي والتصور. القليل بل الندرة ممن تشتغل في صمت وأخلاق عالية ومحبة في التواصل وإشراك الآخر لأنها تحفر في اتجاه لم يلتفت إليه أحد.
إن شكل الحوار الذي وجب أن يتأسس بين المثقفين يعلو على التفاهة التي تتخطاها الثقافة الحقيقية. فالمثقف ضمنا يحتوي على كائن يعرف صناعة الحوار مع الآخر والتعايش معه ولو اختلف عنه رؤية وتصورا للوجود والإنسان والأشياء. ولكن عادة الثقافة في عالمنا هي عادة الجيران المحكومين بأبدية الخصام على اللاشيء. وتبدأ الحياة حياة المثقف في التنازل لكي يجد نفسه قد تاه في الفراغ من دون أن يملأ ذاته الفارغة طيلة سنوات من الخصومة مع الآخر. المطلوب الابتعاد عن الأنا المتفخمة والمنتفخة بدورها ووظيفتها. وعادة ما يكون المثقف محكوما بخطاب المؤسسة، فالأستاذ الجامعي مثلا خاضع بالقوة إلى سلطة معنوية لا تعني أي شيء في الأخير، ولكنه بفعل الوظيفة يعتقد أنه الأفضل والأكثر جاهزية للحديث بدل الآخرين فضلا عن معاني الاحتقار الضمني الذي يوجه عبيد المؤسسة. لقد أساء فهم ما تعنيه المؤسسة وهي هنا الجامعة، إنها موطن البحث واللقاء مع الآخر والاستفادة منه بكل تواضع والاهتمام المستمر بكل جديد. إن الحرية الفعلية تكفل للمثقف أن يعيد صياغة حياته وفق مضمون أخلاقي يكفل له احترام الآخر وفق قواعد العلاقة التي تربط بين الذوات والأشخاص المحكومين بقواعد الحوار والكلام.
مِن جهتي أرى أن المثقف لم ينتبه فعلا لما تعنيه كلمات مثل الصمت والعزلة والنقد الذاتي والتربية والانتباه وحسن الاستماع والتريث. لم يعرف معنى العمل الدؤوب الذي يغرس فيه كل مظاهر التكتم والسرية والانتباه للآخر واجترار الكلام. هناك عبارة لنيتشه على المثقف أن يتعلم منها كثيرا ومعناها هو أن الإنسان المعاصر يفتقد إلى إحدى عبقريات البقر وهي الاجترار، عليه أن يُبقي الكلام حبيس الوعي يجتره بصمت وعمق لكي يحسم أمره فيما بعد ويشكل به خطابا منفتحا وعميقا يحتوي الآخر بكل محبة.

قلولي بن ساعد/ قاص وناقد
عقيدة الإلغاء السائدة بين المثقفين هي من رواسب "فقه" المجتمعات الأبوية التقليدية
"عقيدة" الإلغاء المتفشية بين نفر من المثقفين الجزائريين لا يمكن في تصوري اعتبارها حالة راهنة أو وليدة اللحظة، بل يمكن ردها إلى جملة من الأسباب التاريخية التي ولدتها أو انبثقت عنها، غير أن استفحالها بين مثقفي المدينة الواحدة والبلد الواحد وتفاقمها إلى حد الشروع في ممارسة الدسائس الخفية وكافة أشكال "القتل الرمزي" هو الجديد فيها، ويُخيل إلي أن لها ظلالها البعيدة في التاريخ، فبعض علامات الاستبداد والإلغاء التي ميزت مسارات بعض النُخب السياسية التي تولت مهام بناء الدولة الوطنية الشعبوية المنبثقة من رماد حرب التحرير الوطنية في ظروف وملابسات تاريخية معقدة قد ألقت بظلالها أيضا على مسارات نفر من المثقفين. بما يعني أن "عقيدة" الإلغاء متجذرة في مخيالاتنا البعيدة ويستحيل التخلص منها بسهولة بما هي نتاج عدم مواجهة الحاضر والخشية منه، وهي من رواسب "فقه" المجتمعات الأبوية التقليدية المحكومة بإرث النظام الشعبوي في بعده الرمزي.
فالأنظمة الشعبوية تنتج في النهاية مثقفا شعبويا يؤمن مثلها بالخطاب الأحادي والممارسات التسلطية، وما نراه من استثناءات لدى بعض المثقفين الأحرار هي مجرد حالات معزولة أملتها جملة من التجارب الشخصية والتكوين الفكري والأخلاقي الخاص لهم خارج مدار الوعي القائم في صلب التراث السياسي الإيديولوجي لخطاب الأب السياسي والثقافي وأدائه في التعاطي مع شؤون الرعية واهتماماتهم الفردية وحقهم في الوجود والكرامة الإنسانية.
ولذلك لم يخطيء أبدا المفكر الفلسطيني "هشام شرابي" حين اعتبر في كتابه "الأبوية وإشكالية تخلف المجتمع العربي" أن الأبوية هي مرض العصر وهي تسكن مثلما يرى أعماق الحضارة الأبوية، والأبوية المستحدثة وتسري في كل أطراف بنية المجتمع والفرد وتنتقل كالمرض العضال من جيل لآخر، وهي إن كانت تسكن لا وعي المثقف العربي والمثقف الجزائري على وجه الخصوص باعتباره نتاج إفرازات مجتمع أبوي تقليدي ورث قيم التسلط والإلغاء عن سابقيه وانتقلت إليه بالوراثة، فهي أيضا نتيجة مضاعفات أوهام كثيرة صدقها بعض المثقفين المحدودي التجربة والتكوين المطمئنين لأسئلة الوثوق الأعمى ومنها الوهم باكتمال المعنى، المعنى الذي لم يكتمل أبدا في السياقين العربي والكوني إلا مع النص المقدس، ومن الجهل والخواء المعرفي، فالقراءة والتحصيل العلمي والإبداعي المثمر خارج المقررات المدرسية أو تلك السياقات المهنية أو التراتبية تحرر الفرد من كل تلك الوثوقيات العمياء التي صدقها وتسربت إليه بفعل فقر المحيط الاجتماعي و"عقيدة" الإلغاء المتجذرة في المخيالات البعيدة لمجتمعاتنا العربية الأبوية،  وتغذي وجدان ومخيال المثقف على ما أعتقد، وتستدعي فيه التجلي الحواري وأسئلة التسامح النقدي والحضاري والانفتاح على دبيب ورؤيا الصوت المختلف عنه سعيا منه "لاقتسام الفهم" بتعبير "ميشال فوكو"، ولتأثيث وعيه بالتشبع بالقيم التي تتأسس عليها روح الثقافة المعاصرة الميالة لطرح الأسئلة وعدم الحسم فيها أو الاكتفاء بالأجوبة الناجزة أو الإصرار عليها كأن روح "ستالين" تسكنها أو تسكن "الوعي الشقي" لحاملها المؤمن بها في وثوق أعمى لا يقبل الجدل أو المناقشة، فلم يعد كافيا أبدا التعلق ببعض أذيال المعرفة التقنية أو الاستخدام الميكانيكي العشوائي لبعض محددات الحداثة الشعرية الشكلية في نصوص لا تحمل رؤية ولا تمثل روح العصر وثقافته التي يزعم الكاتب والشاعر المعاصر أنه يمثلها بل إنها تناهض من الناحية السياقية متكآت النص الأخرى من الداخل، إن لم تكن أشبه "بالوعي المضاد للنص" وللقيم التي يتأسس عليها.
وهنا تتجلى المفارقة الكبرى ويغدو المحمول الإبداعي في صلته بالقيم الحامل لها أو المتكيء على بعض عناصرها أمام محك المساءلة النصية والبحث عن دواعي عدم التماثل بين "النص الغائب" و"النص الراهن" بين "الناص والمنصوص" وهي أقصى درجات الاغتراب والنفاق الثقافي والولوج في دهاليز العماء الإبداعي وغياب الوعي بأهمية الكتابة الإبداعية وخطورتها، ومن ثم الاستهانة بالقاريء وتجاهله كشريك مهم على درجة كبيرة من الوعي بالأسئلة التي يثيرها النص المقروء في إنتاج المعنى والدلالة، المعنى الذي كان يرى الغذامي "أنه قائم في بطن القارئ لا في بطن الشاعر ولو كان في بطن الشاعر لصار من الناحية الرمزية والدلالية في قبره"، وهي لم تعد تقتصر على بعض الكُتاب أو نفر منهم ممن ينتمون إلى جيل واحد بل انتقلت أيضا إلى بعض الرموز الثقافية الكبرى المنتمية لنفس الجيل، فها هو مفكر بارز بحجم الدكتور محمد أركون يعلن بصريح العبارة عن تذمره من زملائه المفكرين المغاربة ويسجل بكل أسف عبر كتابه "قضايا في نقد العقل الديني" أن زميله المفكر المغربي "عبد الله العروي" يتحاشى ذكر اسمه أو الإشارة إليه أو إلى كتبه، فالعروي في رأي أركون في كتابه "مفهوم العقل" يقدم أمثلة توضيحية وموثقة على بعض المهام التي كان قد ركز عليها أركون في كتابه "نقد العقل الإسلامي"، مثلما يعيب عليه مرة أخرى أنه لا يُشير إلى زميله في الجامعة المغربية محمد عابد الجابري، قائلا: "كان عليه أن يذكره لإبراز أوجه الاختلاف بينهما وطرق المعالجة للموضوعات المطروحة"، فهذه -الاختلافات– يقول أركون أنها "تساعدنا على رسم خريطة تصنيفية لأنماط المثقفين المغاربة ولكن للأسف المثقفين العرب والمغاربة على وجه الخصوص لا يستشهدون ببعضهم البعض".
وربما كان وراء عقيدة الإلغاء، والإقصاء المتعمد بين المثقفين عوامل أخرى نجهلها وجب علينا البحث فيها ومعالجة طرق التخلص منها تدريجيا أو على الأقل الحد منها ومن حدتها والحيلولة دونها أو دون أن تمتد لأبنائنا وإلى الأجيال القادمة، لأن بقائها أو استمرارها أمر فادح وخطير ولا يبعث على الأمل. ذلك أن النخب الهشة الضعيفة مثلما هو الحال بالنسبة لنا المنشغلة بتصفية الحسابات الظرفية فيما بينها في أبعادها المرضية النرجسية، لا المجتمع ولا السلطة ولا أية فئة من الفئات الاجتماعية تقيم وزنا أو اعتبارا  لها، وهي أقصى درجات الإفلاس الثقافي والحضاري، والضياع إلى حد الخروج من التاريخ والسقوط بين براثن التشتت وضياع البوصلة والخيبة والحسرة، وبئس المصير إن لم يكن قد حدث ذلك فعلا.

رشيد فيلالي/كاتب
المثقف الإقصائي فصيلة خطيرة من الفيروسات!
تُعد مسألة إقصاء المثقف لزميله المثقف في بلادنا، وفي عموم بلدان عالمنا العربي، من المسائل التي تفتح مجالا واسعا لخوض النقاش بشأن خلفيات هذا النوع من السلوكات الشوفينية المحتقرة، حيث في تصوري أن هذه الظاهرة المقيتة (وأنا أصر على هذه التسمية "الظاهرة" لأنها من الشيوع والتكرار ما يثير العجب) تملك في الحقيقة أسبابها الموضوعية، إذ صحيح أن من بين دوافعها الأساسية روح النرجسية التي تميز شخصية المثقفين والأدباء منهم على وجه الخصوص، حيث كل واحد كتب قصيدة أو نصا روائيا أو ما شابه ذلك ولقي بعض الشهرة والذيوع حتى يشرع الزميل الأدبي "الآخر" من المثقفين الإقصائيين تحديدا في شحذ أسنانه وأكل لحم أخيه بشراسة "كانيبالية" محيرة، لا لشيء إلا لأن صاحبه في حرفة الأدب حجب عنه أنوار الشهرة وبريقها الجليل والتي يزعم بأنه أحق بها منه.
وحسب تجربتي الخاصة وعلاقتي بالأدباء فإن المشكلة تأخذ أبعادا أكثر حدة حين يتعلق الأمر بالجوائز، حيث يسيل لُعاب الجميع للمكافآت المرصودة في هذا المجال، وهنا تبدأ نزعات مرضية وبدائية في البروز إلى السطح، إذ ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنه سُعار الشهرة والمال أصابهم في مقتل!، وقد رأيت بأم عيني كيف يتكالب البعض ضد البعض على الاستئثار بجائزة وحرمان من يستحقها لكونه -فقط- لا ينتمي للعشيرة أو الدوار أو حتى المدينة التي ينتمون إليها، وهذا في تصوري من أخطر البلايا التي تُصيب المشهد الثقافي في كل بلد يبحث عن الارتقاء الحضاري والسمو إلى آفاق أرحب وأوسع، ومن هنا خطر هذه الظاهرة السلبية التي قطعًا تزرع الخراب في الجسد الثقافي الذي من ثماره بناء الفرد وتعبئته وشحنه إنسانيا وجماليا ومن ثمة تكوين مجتمع حر وناضج يفكر إيجابيا ويحصن نفسه ضد غرائزه المتوحشة، ولأن مهمة المثقف العُليا تندرج ضمن هذا السياق فإن الوضع يصبح أكثر تعقيدا إذا كان المثقف ذاته بحاجة إلى علاج فعال ينقذه من فيروس خطير اسمه: "الإقصاء"، والغريب في الأمر أن هناك من يبرر مثل هذه السلوكات المشينة مدعيا بأن "الأقربين أولى بالمعروف" لكن نسي هؤلاء بأنهم يضربون بمثل هذه التصرفات في الصميم جوهر الثقافة وأسسها التي وجدت من أجلها، أقصد الارتقاء بسلوك الإنسان وحمايته من ظلم أخيه الإنسان وما يتبع ذلك من تكريس للقيم السامية الخالدة. وفي الحقيقة ليس الإقصاء وحده الذي يعاني منه عدد من المثقفين الجزائريين بل ثم أمراض أخرى فتاكة لا تقل انحطاطا من الإقصاء على غرار الحسد والحقد والبغض والنميمة (بمفهومها المرضي) والتعالي والعجرفة والغطرسة والإدعاء وعقدة العظمة والتفاخر المضحك والتجاهل و،،،.
أكتفي بذلك لأن القائمة مع الأسف الشديد لا تزال طويلة وليس من مهمتي أن أنصح الذين يعانون من مثل هذه العُقد أن يترفعوا عنها، كما أنني لست مكلفا بنصح أي أحد ولاسيما أن من أتحدث عنهم راشدون وفي سن التكليف كما يُقال، وفي الخِتام أكرر بأن مشهدنا الثقافي وخاصة الأدبي بحاجة إلى ماء النار لتطهيره من هذه الفيروسات الخطيرة والفتاكة كي يأخذ مساره الطبيعي ويمنحنا أملا أقوى في هذا العالم المجنون.

خالد ساحلي/ كاتب وروائي
إشكالية المثقف والإقصاء ليست وليدة اليوم بل ممتدة في التاريخ الإنساني
يخلط الناس بين المثقف والمتعلم ووصفهما المعنى بسذاجة وهشاشة وعشوائية على اعتبار كونهما ينهلان من نبع واحد وهو "التعلم"، والحقيقة أن تعريف "المثقف" يختلف عن تعريف "المتعلم" المؤطر بالدرس أو المريض المتعالم الذي حصل على مكانة وظيفية من خلال تعلمه الأكاديمي بمنظور مالك بن نبي هذا الذي يجنح للوظيفة ولا يتعدى رصيده حدود الحقل الذي يشغله.
ما يهمنا في هذه العجالة هو تعريف "المثقف" الذي ينحدر من كلمة "الثقافة" التي هي نتاج المجتمع بحسب ماركس، أو بتعريف نعوم تشومسكي: "المثقف هو عدو السلطة والمعارض لها"، ويؤيده في تعريفه هذا ادوارد سعيد الذي يعتبر المثقف "ليس صديقا للسلطة". ولأن المثقف وجوده أصيل مذ بداية الحضارة الإسلامية التي شهدت جدلا واسعا وسجالا بين نخبها وزمرها بخاصة المعتزلة منهم ونخب الأئمة مالك وأبو حنيفة مع الأمويين والعباسين، ونقد السياسة المنتهجة وقتذاك رغم ازدهار العِلم بوجهيه الديني والدنيوي، لذا فإشكالية المثقف والإقصاء ليست وليدة اليوم بل ممتدة في التاريخ الإنساني أيام حرب البرلمانيين على المتنورين والفلاسفة اليونان وما تبعها من تداعيات القتل والسجن والنفي للمثقف الذي يمثل قيم الخير والحرية والمبادئ التي تحصنه ليكون القدوة طريقا إلى الاختلاف بحسب فوكو، هذا الذي حمل التهمة من زمن أنه مفسد عقول النشء فهو المدافع عن المظلومين الواقف مع الحق المبيّن للحقيقة، الداعي إلى الوعي والتنوير لأجل حياة كريمة للجميع وبذلك فالمثقف لا يمكن أن يكون متناقضا مع نفسه بأن يحمل اللقب وفي ذات الوقت يمارس الإقصاء والتهميش لغيره وهذه مهنة لا تلتصق إلا بالظلمة والمستبدين والخارجين عن الأخلاق من الساسة والعسكريين والمتسلقين المتعلمين الذين يتخذون الأحزاب طريقا إلى الامتيازات أو التمسح بأذيال السلطة.
إن الأسباب كثيرة قبل الميلاد إلى الألفية الجديدة التي تشهد تجاذبا وصراعا غير منتهي بين القوى السياسية التي لبست جبة المعارضة تارة وجبة النظام، هذه التي أسست تقاليد رديئة بتهافتها على امتيازات الدولة المغرية التي جعلت المتعلمين الذين حصّلوا وظائف يتآمرون على بعضهم البعض وانطلاقا من الإيديولوجية تشق الفئة الطريق على غيرها بنرجسية وأنانية أنستها حق غيرها في المشاركة الديمقراطية  وفي صناعة القرار، فالصراع المحتدم بين الفئات التي يغذيها الطرف الخارجي وتأخذ منه الأوامر رَهَنَ فِكرها فصارت تعاني الاستلاب ولا تخضع تفكيرها إلا بما ينتجه الآخر.
وهنا فالمتعلم يمارس الإقصاء على أربع مستويات، إقصاء المتعلم لذاته حين يترك مهمة العقل وهو التفكير لأجل الخروج بالحلول، وبعدها للمتعلم حليفه من جنسه والذي يرى فيه عدوا ينازعه الامتيازات ويريده أن يكون تابعا أو سلّما يستعمله ووسيطا يعرف من خلاله مداخل السلطة ومخارجها فيخترق به الجماعات والنخب للوصول إلى مآربه وبعدها التخلص منه بشتى الوسائل، وإقصاء آخر للمثقف النزيه الذي يفسد عليه خططه ويفضحه أمام العامة وبذلك يلجأ إلى حصاره وتدبير المكائد التي تطيح مشواره وتعطله، وبعدها إقصاء للآخر، الآخر الذي يحيا مع طبقات المجتمع والناس ويؤثر فيهم وله أتباع ومناصرين غيرةً وحسدا وخوفا لتوجيه الناس إلى وجهته أو لطرح اسمه بديلا عنه للدعاية والإعلان الإعلامي خدمة لما يخفيه طلبا للسلطة والاغتناء. الجدير بالتنويه "المثقف العضوي" الخادم للسلطة لم نتكلم عنه أساسا فهو تسقط التسمية عنه كما سقطت عن شبيهه لأنه يمثل السلطة وناطق باسمها كما الناطق باسم الحزب والايدولوجيا والدين. 

 

الرجوع إلى الأعلى