مالك علولة يلتحق سريعا بآسيا جبار

عبد السلام يخلف

هل أخذه الحنين للجلوس إلى جانب أخيه عبد القادر علولة كي يقرأ له آخر ما كتب ويحدثه عن المسرح ونصوص بيكيت الغريبة ؟ هل دفعته قوة العشرة للعودة إلى أحضان زوجته السابقة آسيا جبار كي يقرآ معا كتابا من الشعر الملحون ؟ هل بكى حين ماتت منذ أيام؟ ماذا قال لابنتهما جليلة؟ المؤكد أنه عاد اليوم كي يقول لهما: ها أنذا جئت كي أقول لكما ما أبشع الحياة، ثم دعنا منها الآن، يفصل بيننا وبينها برزخ ومسافة، سأقص عليكما حكاية «طرزان» ونضحك سويا.
 في كل مرة نتحدث عن رد الاعتبار لمن لم نوفيهم حقهم ونهبنا أشياءهم. يصلح هذا مع الأحياء فقط. مع الكتاب والأدباء لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا حين ننشر أعمالهم ونحتفي بما يكتبون. حدث هذا مع مالك علولة على يد منشورات البرزخ التي نشرت كافة أعماله ثم توفي وهو يشارك في جلسة حول الكتابة في مدينة برلين التي شغلت الدنيا بموروثها الثقافي العالمي وديناميكيتها الإبداعية. مات وهو يتحدث عما يحب، عن الكتابة التي شغلت كل يومياته فلماذا القلق إذن؟
القلق يا رجل مصدره أن هؤلاء الكتاب والمثقفين الذين وجدوا لهم أماكن تحت سماوات أخرى فتحت لهم الأبواب والقلوب لم يجدوا لهم من مكان في وطنهم سوى ذلك الشبر الذي يضمهم في المقبرة. تلك هي بداية الدراما. لا نستقبل مبدعينا وكتابنا وفحولنا سوى على باب المقبرة كي نهبهم الخلود الذي ما قدمناه لهم حين كانوا يعمّرون المكتبات وقاعات النقاش في بلدان قصية أخرى، في حيز جغرافي هو ليس لهم. نتفرج عليهم عاجزين وهم يرتفعون نحو السماء تماما كالطفل الذي قال عنه مالك علولة: «وهذا الطفل الذي وسط لعبة حجر الرِّجل/ المشكلة من قبور/ يرتطم بجبهته في السماء/ في ملاحقته للحجر الذي يدفعه داخل اللعبة (ديوان: حالمون وجنائز، 1982، ص 20).
كتابات مالك علولة كثيرة لكنها لم تنقل إلى العربية. هذا الرجل الذي كان عمره قبل بضعة أيام 77 سنة ثم توقفنا عن العدّ. يرقد الرجل في مقبرة عين البيضاء بوهران. بهذه السرعة وهذا الاندهاش. جاء إلى هذا العالم في يوم 13 نوفمبر 1937 بمدينة وهران التي أحبها لكن يتحدث دوما بلغة البادية كي يقول بفرح وابتسامة :أنا عْروبي». هو كاتب وشاعر وناقد أكاديمي بدأ مسيرته بمدرسة الأساتذة ثم جامعة الجزائر وبعدها جامعة السوربون بباريس. قدم أطروحة عن ديدرو.
ليس من الغريب أن يهتم بالمسرح، فأخوه عبد القادر جعل من المسرح هواية وهوية حتى تم اغتياله في سنوات الجمر الجزائرية وظن الجميع أنها مسرحية ساخرة تشبه مسرحية «التفاح». راح مالك يجمع النصوص والقصاصات والصور كي يصنع منها ذاكرة نعود إليها حين نضيع الطريق. أصدر «مدن» (شعر، 1969)، ولائم الغربة (2003)، منظر العودة (2010) وغيرها.
آن للنقاش أن ينتهي الآن، النقاش الذي يقول أن كل أولئك الذين كتبوا بالفرنسية من الأجيال السابقة هم «أذناب الاستعمار». :صرخة طرزان: الليل في قرية وهرانية» هي مجموعة قصصية لمالك علولة تقول الحضور الباهت أو حتى الوهمي أو الافتراضي للجزائريين في ليل الاستعمار الطويل. يحكي فيها طفولته ببعض التفاصيل الممتعة ولا يبقي فيها للمعمرين شيئا ولا يذر. يتحدث عن الفرح العابر «لللأنديجان» ويصف عنجهية المستعمرين وعيشهم الرغيد. هي نصوص أوتوبيوغرافية تقول حكايات علولة لكنها تقول في نفس الوقت عالم كل الجزائريين، تتحول إلى مرآة تحكي ويرى كل منا وجهه فيها وقد يبتسم أو يبكي لأنها تواجهه بالصمت الذي ما قال يوما كلمة لكنه كان دوما «يتْكلم».
أولى قصائده لم تكن للمدح أو للغزل، كانت إنصافا لكل الجزائريين من خلال صورة المهنة التي منعها الرئيس بن بلة آنذاك وحملت عنوان «ماسح الأحذية الصغير يا أخي» (1965). من هنا تبدأ رحلة شاعرنا مع الكتابة التي جعل منها مطية لانتقاد المستعمرين وفضح ممارساتهم اللاإنسانية ليس من خلال البطش والتنكيل والمسخ والمحو بل بحاسة اللامبالاة التي امتلكوها ملكة تحصّنهم ضد «الأهالي» وتجعل منهم مخلوقات دونية سفلية لا ترقى أن تكون جزءا من الحضارة التي يعرفونها.
فلنركز على واحد من كتبه الذي ينقسم إلى عدة فصول هي محطات للتريث والروية للعبث بما أرادت أن تبنيه الآلة الجهنمية الفنية و»المعرفية» الفرنسية الاستعمارية: الشرق كصورة نمطية واستيهام/ النساء من الخارج: الحواجز والشفافية/ سجون النساء/ أحياء النساء/ الأزواج/ وجوه الحريم: الثياب والحلي/ داخل الحريم: الطقوس/ الأغاني والرقص/ المثلية النسائية/ الحريم الاستعماري: صور ما دون الإيروتيكية.
إن كتاب «الحريم الاستعماري» هو إعادة قراءة جريئة للتصوير الفوتوغرافي في بدايات القرن العشرين وخاصة تصوير المرأة في وضعيات غير طبيعية من الناحيتين الاجتماعية والنفسية. لقد عرى ممارسات المصورين والمقاربة الكولونيالية للسكان الأصليين. المرأة الجزائرية بين حيطان أربعة، ممددة على الأرائك، ترتدي ثيابا فاخرة وتمسك سيجارة بين أصابعها وتبتسم للعدسة، هي الصورة التي أراد المستعمر المريض الذي تنخر عقله ديدان الليبيدو أن يخلقها كما يتصورها أو كما يريد لها أن تكون.
فضح مالك علولة (تماما على شاكلة آسيا جبار في كتابها «نساء جزائريات في خدرهن») الصورة النمطية الاستعمارية للنساء في الجزائر ولدورهن في بعث صورة الجمال وإعادة إنتاج الأدوار من خلال نشر مجموعة من البطاقات البريدية التي انتشرت في عهد الاستعمار وإلحاقها بنص جميل أدبيا لكن به من القوة والهجوم، بأدوات العارف، ما يزلزل البنايات الهشة والبنى المعرفية المقلوبة والمشوهة التي خلقها المصورون الفرنسيون بدعم من الإدارة الكولونيالية. أراد المصور الفرنسي تعرية الجسد الملحف باعتبار أن ما هو مخبأ يمثل شرف الجزائريين واعتزازهم بالمحافظة عليه مستورا.
مالك علولة يريد من خلال هذا الكتاب إعادة البطاقة البريدية إلى مرسلها كما قال. مشروع الحضارة المريضة أن مقابل دريهمات قليلة كان الأوروبي الفقير يضع بين يديه سرا من أسرار الشرق: جسد المرأة. الصورة بهذا المعنى يقول مالك علولة «هي نداء إغرائي لروح المغامرة والاكتشاف والمدافع عن روح الاستعمار في شكل تصويري. إنها الشكل المنحط من الاستيهام الغربي والأخلاق الاستعمارية».  

لم تكن هذه الصور منتوجا فنيا أو إيروتيكيا بل كانت وما زالت جزء من فكرة الشرق الذي تم خلقه من طرف الغرب والنقاش الدائر اليوم حول تصفية الاستعمار على المستوى الأنثروبولوجي والسميائي والمعرفي. الحرب قائمة والأدوات غير متكافئة لكن من يستطيع القول أن كتابا مثل كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد لم يرجّح الكفة في يوم ما ؟ تماما مثل رولاند بارث الذي تحدث عن «المتفرج العاطفي» فإن مالك علولة يتمعن في هذه البطاقات البريدية «ليس كمسألة بل كجرح» ويقول: «ما قرأته في هذه البطاقات لا يمكن أن يدعني في اللامبالاة لأنه يبرهن لي، إذا ما كان ذلك ضروريا، عن الفقر البشع لنظرة كنت بوصفي جزائريا سأكون موضوعا لها في لحظة ما من تاريخ حياتي. نحن نؤمن بالحسد والعين الشيطانية وآثارها الهدامة لكننا نردّها باليد التي نفتحها مثل المروحة. أنا أغلق يدي على قلم لأكتب رُقيتي أي هذا الكتاب».
الشرق هو سراب الغرب. بل استطاع الكتاب أن يحدث ما يستحقه من الاهتمام لما تمت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية عام 1986 وكتبت عنه المجلة الأسبوعية النيويوركية «صوت القرية» (Village Voice) تقول: «نساء تحبسهن عين المصور، يحاولن عبر صفحات هذا الكتاب القوي استرجاع مكانهن في التاريخ. إنه كتاب يستحق أن يحتل مركز الوسط داخل أدب إزالة الاستعمار».
يتحدث مالك علولة عن النساء وعن الجزائر التي يراها دوما حتى في أعمال الآخرين. في حديثه عن رسومات الفنان التشكيلي السوري زياد دلول يقول مالك علولة: هذه الصور لنساء، ممثَّلات وهنَّ واقفات، كما كنَّ أصلاً في الرسوم الصغيرة الأبعاد، تظهرن، في المساحة المعاد تنظيمها من اللوحة، كأنهن يستأنفن تحركاتهن المحيِّرة المتوقفة، رقصاتهن الطقسية الصامتة.
في مطلع صباحي، ثمة هيئتان، يكاد المرء لا يتميَّزهما، تقفان جنبًا إلى جنب في ما قد يكون مدخل مغارة أو تجويف معتم. إنهما تديران لنا ظهريهما وتبدوان وكأنهما تُواصِلان مُسارَرة لا تنتهي. أما «فعل» خماسي نهري فيدور في صحن دار مفتوح أو في فناء واسع. أربع نساء، أشبه بالكارياتيد، مجتمِعاتٌ، مثنى مثنى، عند كلِّ طرف من طرفَي المساحة التي تحدِّدها اللوحة، يُواصِلن حوارًا متعدد الأصوات، تتقاطع آراؤه فوق الحيز المنبسط عند أقدامهن والفاصل بينهن.
أغرب ما في الأمر، سواء في المطلع أو في الخماسي، هو ظهور الشخص الغامض نفسه، مسربلاً بالبياض، جالسًا على مقعد ومنتبذًا مكانًا على هامش «المشهد» الرئيسي، لا يشارك فيه إلا مشاركة موارِبة. الظهور المتكرر لهذا «الشاهد الصامت»، الذي يُقارَن حضورُه الغامض بحضور سفنكس لا يرحم، يشحن المشهدين شحنًا دراميًّا، مفاقِمًا، إن أمكن، الارتياباتِ الكامنةَ المقيمةَ فيهما.
هو ذا يبدو لي أني أتعرف فيهن تعرفًا تامًّا لا يساوره تردُّد إلى اللواتي أسمِّيهن، استسهالاً، «طالبات الأحجية». ذكراهن المغرقة في القِدَم تسكنني. أعود فأراهن كما هن مصورات هنا. إنهن نساء من بلدي [الجزائر]، شقائق نساء بلد دلول [سورية]. لا أملك أن أشك في صدق ذكرياتي: أتعرف إلى هؤلاء النسوة من وقفتهن المتميزة جدًّا، من ترتيب أثوابهن الفضفاضة، من تصفيف شعورهن، من أصباغ الأقمشة التي يرتدينها. أتعرَّف حتى إلى ملامح إيماءاتهن المتوقفة.
ها هن يؤدين طقسًا نذريًّا مكرسًا لوليٍّ شفيع، يستقبلن بعضهن بعضًا صديقات أو قريبات، يشرعن ربما في بضع خطوات راقصة في أمسية، أو يتنادين كجارات... كل الأشياء التي تجعلهن مقربات في نظري ومؤثِّرات في آن. إني أسمعهن، أرقبهن، أشاهدهن يتحركن. إنهن، في نظري، موهوباتٌ تلك الجلالةَ التي تتصف بها الكائناتُ التي صارت أبعد من المتناول، قصية. وها هو ذا أيضًا يسهر عليهن – ذلك الظل الأبيض الذي لا أعرف من نواياه أو مقاصده شيئًا.
آخر رواياته كانت تحمل عنوان «منظر العودة» (2010). هل هذه هي العودة التي يتحدث عنها؟ إلى النساء وأولاهن «آسيا» وإلى أرض الجزائر التي تحلم دوما بالأحجيات والخراريف. نم هنيئا أيها الرجل فكلما أتت امرأة إلى مقبرة عين البيضاء لتضع وردة فهي لك أو تذرف دمعة فمن أجلك.

 

نصوص لمالك علولة بالعربية

ترجمة: عبد السلام يخلف

على الجانب السفلي الأشعر
من أوراق الشجر
يتسمر الجراد في صريره
ثاقبا بلاطات النعاس

نادر هو ما ينبت بين الصخور
في النسغ الحائر
الذي يركض داخل الجذور القليلة
متاهات لأحلام الموتى

بياض زرقاوي للجير الناصع
على نُصب مائلة
يرحِّلها التراب المتفتت

حين لا تسجل الشمس الوقت مطلقا
هي أبدية للجثث
في أسواق الريح

تتوزع أوراق الكتاب صلوات
زادًا للغمغمة
هروبا تحت الظل
ذرة غبار بيضاء مثل الكفن
على الأطلال
لحظتها يحط الاحمرار اليتعذر كسره
لغروب ثقيل

في البعد زغردة
تخاف من صداها
وتموت دوما حين ارتطامها
على الأسوار المتحركة للآلام القادمة

تجلس من جديد
تلك الإشاعة
وهيجان الموج ذاك
ويندفان على واجهات تشبه المصيدة

شوك النبتة ينقر الصمت
تفرّ السحلية في الإطار المربع
كي تعيد تشكيل فكرة التنهيدة

نباتات تقفز
في الحرارة المتحركة

يتفتت التراب في حواف جميع الثقوب
التي تنغلق ببشاعة
كأننا يجب أن نهاب
ذاك السر الذي يملؤها

وبرعشة نباتية ماهرة
نعيد بناء تاريخ حياة
حياتنا
تلك التي يشقها الموت
ويطبعها بعودته من جديد

جداريات تتفتت
في شكل أسوار رطبة
حيث الاستخفاف بالذاكرة
التي لم يبق من حضورها سوى الظل

من تقليد تلك الحشائش المتوحشة
التي تشعثها الريح العابرة
لا تتذكر سوى الآثار المغبرة
لوجوه ذات ملامح هاربة متفحمة
على صفائح الكلس

تصبح الأرض قرمزية
قادرة على إطفاء عطش دماء النزيف

يتموج التراب في طياتها وانكساراتها
بمسحة من السطح الذي يحتّ
راسما الشقوق والمعالم والآثار
محصيا هشاشة تلك الراحة

تحت الضوء الأصم
تتساوى الأرضية
سهلا خصبا
ما فوق الحفارين
نصُبًا للذكريات المرقّعة

تحت النباتات العامرة بالحياة
تتردد بعض أعناق الأوراق

لا فصل لطول الحياة هنا

في البعد جلبة كل تلك الطقوس
حين يفترق في ازرقاقه
ذاك الحضور الخفي

هذه الفكرة
أننا مسكونين بمكان جنائزي
ها هي تسخر
من انعكاس صورتها فينا

ومن القرب
ومن هذا الذي لا يسمّى أبدا
لا تولد القناعات

خلف الأبواب أحزان وأطفال
وحِداد منساق
يجوّل الأخوات الصغيرات
في خرابات الفراغ

كل أشكال الموت المألوفة هته
مثل لوحات تحمل مشاهد الصيد
حيث تُعرض كل أنواع الندم
التي توضع اليوم في إطارات على الحيطان

أنفاق الوقت الذي يتقلص
ينام الأطفال
تحت نظرات مما وراء الموت

هذا القماش الذي يعصرونه
فوق قبوركم
وتبعثنا العجالة

كل النظرات التي تقيس
تفتش في النهش الآتي
والدماء التي تتوقف

الأطفال المرهقون
يصيبهم الفزع
من حدة الأصوات والهمسات
من كل ما يشدهم
لسحر سِرّية بالية...

من كتاب
Rêveurs/Sépultures suivi de L›Exercice des sens-

 

 

الرجوع إلى الأعلى