خمسـون عامـا بـين التـراث و الحداثـة لـبـنـاء مشـروع نهضـوي على أنقـاض النـقد
على خلاف ما يظن الكثير من الباحثين من أن المفكر الراحل جورج طرابيشي أفنى عمره في نقد نقد الجابري للعقل العربي؛ من حيث إنه على مدى ربع قرن انصب على قراءة نقدية لما أنتجه العقل الجابري بدءا بكتابه تكوين العقل العربي؛ لتجيء مصنفاته تباعا لتصب في هذا المجرى النقدي ذاته على غرار نظرية العقل العربي، وإشكالية العقل العربي، و وحدة العقل العربي، والعقل المستقيل في الإسلام، ومن إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. فإن هذا الحكم على مفكر قومي في مصافه يحتاج لإعادة نظر تقييم؛ ليس لأن طرابيشي يأبى ذلك فحسب؛ بل أيضا لأن معالم مشروعه الفكري في نظرياته وقواعده المتناثرة في شتى مصنفاته تنفي ذلك القصور و تأبى هي الأخرى إحالته على هوامش المشاريع الكبرى حيث تسطر تقريظات القراء وآراء النقاد.

من الماركسية الوجودية إلى العلمانية المشرعنة في المنظومة الفكرية الإسلامية
فمعالم مشروعه الفكري نجدها تتجلى في أزيد من عشرين مؤلفا من مؤلفاته وترجماته التي شرع فيها منذ 1963م وامتدت خمسين سنة كاملة والتي تحتاج إلى إعادة تفكيك وتحليل بقراءة ابستيمولوجية نقدية تكشف عن نظريته الفكرية، التي جعلت من التراث العربي نقدا وقراءة بالمناهج الحديثة أبرز موضوعاتها، وبعد انظلاقة وجودية ماركسية، أفضى به المطاف في ظل التطورات الفكرية والتغيرات السياسية والحضارية التي واكبها منذ الستينيات إلى تبني العلمانية مخرجا من التخلف العربي، حيث يتخذ جورج طرابيشي موقفا ثابتا من قضية العلمانية ويرى أن الإسلام دين فقط، وأن العلمانية هي أساس الممارسات الإسلامية في الواقع حتى في العصور الأولى في الإسلام. بل وأكثر من ذلك فهو يرى أن مفهوم العلمانية في الإسلام أقوى منه في المسيحية، وأن هذا المفهوم كان موجودا في التراث الإسلامي قبل ظهوره في المسيحية الغربية. وهو يدافع بكل قوة عن مفهومه للعلمانية الإسلامية ومن قلب الفكر الديني الإسلامي ذاته. ولكن العلمانية على الرغم من ذلك ليست وصفة جاهزة للتطبيق وإنما يجب على المجتمعات العربية/الإسلامية صياغة تصورها الخاص للعلمانية.ويؤيد طرابيشي تصوره للعلمانية الإسلامية من داخل النص القرآني نفسه، بمعنى أنه راح يبحث لها عن شرعية في المنظومة الإسلامية نصوصا وفقها وتراثا؟ !سواء في كتابه من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث (2010) أو في هرطقات 1: عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية، 2006.وهرطقات2: العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية، 2008.
 مشروع طرابيشي يلخصه كتابه الأخير، و أزمة العقل العربي من داخله وليس غزوا خارجيا
وعلى الرغم من كثرة مصنفات طرابيشي على غرار ما سبق وكتب:المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، 2008. ومن النهضة إلى الردّة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة، 2000. ومصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، 1998.الروائي وبطله: مقاربة للاشعور في الرواية العربية، 1995.مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، 1993. المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي، 1991.الدولة القطرية والنظرية القومية، 1982. والماركسية والايدولوجيا، 1971. والاستراتيجية الطبقية للثورة، 1970. والماركسية والمسألة القومية، 1969. وسارتر والماركسية ،1963. إلا أن مصنفه الأخير (من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث (2010) يعكس بصدق معالم مشروعه الذي خلص إليه وسخر له نصف قرن من القراءة والنقد والتأليف؛ ولهذا يقول عنه في حوار من آخر حواراته مع جريدة شرفات العمانية ونشر أيضا على موقع جريدة حريات السودانية: (أعتقد أنني اشتغلت على البناء وفي الجزء الأخير من مشروعي والذي استغرق مني خمسة أجزاء من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث أعدت طرح السؤال الكبير: ما الذي هزم العقل العربي الإسلامي، لماذا تحول من عقل حضاري بنى واحدة من كبرى الحضارات إلى عقل صنع التخلف، ما هي الآليات التي قادت هذا العقل للانكفاء على ذاته وتحول من أداة فاعلة في التاريخ إلى أداة مفعول بها إذا جاز التعبير؟ أعتقد أن من يقرأ الكتاب يجد المفاتيح الأساسية لهذا التحول أو لهذه القراءة. ولذلك أيضًا لم أدرج الكتاب رسميًا في مشروع نقد نقد العقل العربي لأن حضور الجابري في هذا الكتاب ضئيل جدًا. لأن نظريتي في النهاية والتي بنيتها عن الجابري أسميتها نظرية حصان طروادة. والجابري يقول: تسللت أنظمة اللامعقول من غنوصية وهرميسية وأفلاطونية مشرقية إلى داخل قلعة العقل العربي الإسلامي ودمرته من داخله بواسطة غزوه على طريقة حصان طروادة، مسلحة من خارجها بسلاح العقل ومن داخلها أشعة اللامعقول، هذه نظرية الجابري. ما وصلت إليه في كتابي أن كل هذه الدعاوى عن غزوة خارجية غير صحيحة تاريخيًا ولا معرفيًا، وأن الآليات التي أدت إلى استقالة العقل وإلى غروبه في الحضارة الإسلامية هي آليات داخلية نابعة من انكفاء ذاتي ومن انكماش ذاتي لهذا العقل على نفسه وليس من غزوة خارجية. أنا أحمِّل هذا العقل مسؤولية ما آل إليه. وبالتالي أراهن على هذا العقل كي ينتفض على نفسه وأن يعيد تأسيس نفسه في عقل منفتح ومتقدم على الحضارة من جديد. وفي هذا الكتاب بنيت تصوري الجديد، بين القراء من سيعتقد إنه مجرد رد على الجابري. لكن لا يوجد نقد من دون إعادة بناء و أعتقد أنني قدمت مشروعًا جديدًا).
هكذا أثنى طرابيشي على جريدة النصر، وهذا موقفه من الأزمة السورية
وقد كانت جريدة النصر السباقة للكشف عن أهمية هذا الكتاب في كراس الثقافة في أفريل سنة 2011م حيث نشرت قراءة أفقية لما تضمنه، وحين التقيت بجورج طرابشي شهر ماي سنة 2013م ألح علي أن أرسل له ما كتبناه عن الكتاب، ولما وافيته به رد قائلا: (مقالك من أدق وأعمق وأشمل ما كتب عن كتابي، فضلا عن تلخيصك الأمين لأطروحاته، أنا لك شاكر وشاكر أيضا لصحيفة النصر لنشرها وإبرازها الموضوع، مودتين وعلى أمل لقاء ثان يجمعنا ذات يوم !)
لم تشأ الأقدار أن يجمعنا لقاء ثان، فقد دعوته مرتين للمشاركة في ملتقيين دوليين بجامعة الأمير بقسنطينة سنتي 2013م و2015م لكنه اعتذر متأسفا بسبب المرض، وكانت مناسبة لقائي معه المشاركة في ملتقى دولي حول (توظيف المقدس) عقد بفندق أفريقيا بتونس، شهر أفريل 2013م، وهناك تحدثنا على هامش اللقاء كثيرا، وعن كتابه، وكان يشتكي من شره أصحاب المكاتب الذين يبيعونه بأثمان مرتفعة تحول دون ووصله لعامة القراء، ولما أخبرته عن دراستي التي نشرتها عن كتابه بادرني بعد طلبه إرسالها عن موقف بعض من قرأها في الجزائر: فأجبته قائلا: إن بعض القراء سألني: كيف يكتب مسيحي ماركسي عن الإسلام، فرد بابتسامة !وبعد أن أرشدني لقراءة ترجمته لكتاب المقصلة لألبير كامي ومقدمته لأنه يفيدني في موضوع الدكتوراه حول عقوبة الإعدام، سألته حينها عن جديده الفكري فقال إن الأزمة السورية شلت عقلي عن الكتابة والتأليف، وكان هذا مدخلنا للحديث عن الأزمة السورية، لم أستطع أن أعرف موقفه بالضبط لأنه كان متحفظا، وكان موقفا أقرب لموقف النظام منه لموقف المعارضة؛ لأنه كان يتحدث بحسرة عما يراه من تدمير للدولة السورية ونسف للنسيج الاجتماعي، وإجهاض لحلم مشروع حضاري حداثي بدأت تتجلى معالمه، لاسيما وأننا سرنا سويا بعدئذ بشارع بورقيبة، وتزامن ذلك مع مسيرة نظمها عشرات السوريين وانضم إليهم بعض التونسيين كانت تندد بما يقع في سوريا وتندد باغتيال الشيخ البوطي تساند النظام وترفع علم الدولة السورية الحالي، وكان مبتهجا لما يشاهد ويتأسف لقلة من يشارك.
لم يكن موقفه كما استنتجت حينها لأنه بعد أيام قرأت له حوارا مع شرفات كشف فيه عن موقفه الحقيقي كمفكر يرفض الاستبداد، ولكن يرفض أكثر بديله المهدد للدولة ونسيجها، حيث قال: (أخشى ما أخشاه على سوريا هو تمزق النسيج الوطني والاجتماعي فيها. ليس هناك أية ضمانات بأن لا تتمخض إلى حرب طوائف وأقليات وقد يكون لها امتدادات قوية بالنظر إلى أن العلويين لهم امتداد تركي، والأكراد لهم امتداد تركي وعراقي، والدروز لهم امتداد إلى لبنان. المشكلة في سوريا معقدة كثيرًا.. ولكن بغض النظر عن تكتيكات النظام..، هذا واقع في سوريا، هناك تخوف حقيقي من تحولها حرب طوائف وحرب أهلية خاصة إذ تحولت المعارضة السلمية إلى معارضة مسلحة. عندما تتكلم لغة الدم تتوقف لغة العقل. ومع الأسف عندما تصبح الردود طائفية.. تتجاوز حتى السلطات ويحدث القتال حتى فيما نسميه المجتمع المدني. الخوف الكبير أن سوريا غير مصر، وغير تونس وغير ليبيا طبعًا. هناك يمكن أن تأتي النتيجة عبر صندوق الاقتراع، أما في سوريا فأخشى أن تأتي نتائج الحرب..ضد هذا النظام القائم إلى بديل قد لا يقل بشاعة. بصراحة مطلقة وأقول شخصيًا وهذا نهاية موقفي: نحن بين حدين، وبالفعل نبكي فرحًا لسقوط هذه الأنظمة ولكن قد نبكي حزنًا للأنظمة التي ستحل محلها). وفي هذا الحوار كشف واضح لموقفه من الأزمة السورية بلده الأصلي التي غادرها منذ أزيد من ثلاثين سنة واستقر بلبنان ثم بفرنسا، وقد بدأت استشرافاته للأزمة
السورية تتجلى وتصدق.
بعد أن أخضع أدباء ومثقفي العرب للتحليل النفسي
طرابيشي: المثقفون العرب شعروا بأنهم أصيبوا بالخصاء على يد أم شريرة هي إسرائيل !
المفكر القومي جورج طرابيشي وهو الفيسلوف عالم النفس فضل إخضاع كثير من الأدباء والمثقفين العرب إلى تحليل نفسي، حيث تجلى ذلك في مصنفاته منذ السبعينيات فأصدر لعبة الحلم والواقع: دراسة في أدب توفيق الحكيم، 1972، ثم الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية، 1973، شرق وغرب، رجولة وأنوثة: دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية، 1977، الأدب من الداخل، 1978، رمزية المرأة في الرواية العربية، 1981، عقدة أوديب في الرواية العربية، 1982، الرجولة وأيديولوجيا الرجولة في الرواية العربية، 1983، وخص نوال السعداوي بدراسة نقدية نفسيه فاجأت قراءها ونقادها حين عنون كتابه عنها ب (أنثى ضد الأنوثة: دراسة في أدب نوال السعداوي على ضوء التحليل النفسي، 1984) !
وبعد تحليل نفسي للأدباء والمثقفين العرب خلص إلى تشخيص مرض عضال وصفه بقوله:(لم أورد هذه النظرية في مشروعي عن الجابري، لكن أعتقد في كتابي المثقفون العرب والتراث. التحليل النفسي لعصاب جماعي، قضية الأب المفقود أو الأب المبحوث عنه جاءتني من الفرويدية، جيلنا هو جيل هزيمة 67، وهزيمة 67 أخذت بمنتهى الصراحة بعدًا خصائيًا. المثقفون العرب شعروا أمام إسرائيل انهم أصيبوا بنوع من الخصاء، وزاد ذلك، ولأكن صريحًا في عباراتي، أن الخصاء الذي وصلهم ليس عن طريق الأب وإنما على يد أم شريرة هي إسرائيل تملك قضيبًا مزيفًا هو التكنولوجيا وخاصة الطائرات. وأمام هذا الرعب والشعور الهائل، إذا بهم يتحولون، الماركسيون وحتى المسيحيون، إلى التراث العربي الإسلامي ويعتبرونه الأب الحاني الذي يمكن أن نحتمي به من هذه الأم الخصاءة. وقعت ردة في التفكير، بدلاً من أن نفهم ما حدث ونتقدم نحو الحداثة، للاحتماء بالتراث كأنه أب حان ينقذنا من هذه الأم الشريرة. ومن هنا استخدمت هذا التعبير للبحث عن أب حان. طبعًا في الحقيقة نحن لا نحتاج إلى الآباء ولا إسرائيل أم شريرة، هي عدو ولا يجوز أن تكون أمًا حتى لو كانت أمًا شريرة، وبالنسبة لي التراث أدى دوره ككل أب، ودور الأبناء والأحفاد أن يؤسسوا أنفسهم وليس أن يدعوا أنفسهم من جديد تحت حماية الأب الحاني) !.
يرحل طرابيشي عن عمر ناهز السابعة والسبعين ويترك تراثا تأسس ليكون ابنا للتراث العربي وليس نسخة عنه، وبغض النظر عن موقفنا منه، فهو ككل فكر بشري أضاف للثقافة العربية أشياء كثيرة ودفع بها نحو عصرها، ولذا فهو يحتاج لقراءة نقدية علمية رصينة بعيدا عن الإيديولوجيا.
عبد الرحمن خلفة

الرجوع إلى الأعلى