صالح زايد.. محاولة ضد النسيان
بعد صمت سنوات في حق الكاتب والإعلامي الراحل صالح زايد «17 نوفمبر 1946/ 02 نوفمبر 1989»، عاد أواخر شهر مارس إلى واجهة المشهد الثقافي والإعلامي من خلال ندوة تكريمية في مدينته سكيكدة، وهذا بمبادرة من بعض أصدقائه وزملائه، الذين اجتهدوا وعملوا على رد الاعتبار له وإخراجه وإخراج مساره وسيرته الأدبية والإعلامية على وجه الخصوص إلى واجهة النور وبكثير من الاعتراف.
«كراس الثقافة» من جهته ارتأى أن يستعيد فتى الجريدة الذي طالما غرد على صفحاتها في فسيفساء من الفكر والأدب والتحليل والقراءات، وهذا من خلال هذه الشهادات التي تستذكر وتستعيد تاريخ وعطاءات الراحل في حقل الثقافة الإعلام.
صالح زايد، الذي اختار نهاية تراجيدية في يوم خريفيّ 2 نوفمبر 1989، إذ أهوى بحياته من على أحد جسور مدينة قسنطينة، يعود اليوم محمولا على أكتاف الاعتراف.
إستطلاع/ نوّارة لحــرش
مخلوف عامر/ كاتب وناقد
كان يؤمن بأن للمثقف رسالةً من واجبه أنْ يؤدِّيها على أكمل وجْه
«وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً/تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ». التقيت بالمرحوم «صالح زايد» في بعض المناسبات، ولا أدَّعي أني عرفتُه معرفة عميقة لأن معرفة مماثلة تتطلب معاشرة أطول، لا تكفيها الملتقيات وإن تعدَّدت. لكني عرفته أكثر من خلال متابعة مجلة «المجاهد» التي كانت –يومها- تحتضن مجموعة من الأسماء التي أعرفها، وكان «صالح» ينشر فيها بانتظام. فتارة يقوم بتغطية الأحداث من خلال رسالة سكيكدة، وتارة يُساهم في مناقشة ما يُطرح من ملفَّات كما في ملفيْ «الثقافة» و»إعادة كتابة التاريخ».
والذي يعود إلى كتاباته، بإمكانه أنْ يدرك بسهولة كيف كان هذا الإنسان يتَّقد وطنية، خاصة وأننا كُنَّا -يومئذ- في عزِّ الشباب نتحرَّك تحث مظلة الخطاب السياسي/ الإيديولوجي وقد اختارت بلادُنا في سبعينيات القرن الماضي النهج الاشتراكي، وكان الالتزام سيد الموقف. حتى إن الوطنية صارت مرادفة للالتزام.
وقاده التزامُه وما تمليه الروح الوطنية عليْه إلى أنْ يؤمن بأن للمثقف رسالةً من واجبه أنْ يؤدِّيها على أكمل وجْه. ذلكم ما جعله حريصاً على متابعة التحوُّلات في الوطن وخارجه. ولم يكن يتردَّد في التعبير عن رأيه بجرأة نادرة. لعلَّ مصدرها ثقة بالنفس اكتسبها من مطالعاته الكثيرة. إذْ كان سبَّاقاً إلى قراءة ما يثير من إصدارات جديدة كما يسارع إلى عرض أيِّ كِتاب يجد فيه مبتغاه أو يُقدِّر أن محتواه يستحق التعميم. حصل ذلك مثلا: مع كِتاب: روجيه غارودي، «في سبيل حوار حضاري»، وكتاب «عالم حنَّا مينة الروائي» لــمؤلفه «كامل الخطيب»، وكتاب «مدخل نظري وعملي إلى الصحافة اليومية والإعلامية» لـــ»سامي ذبيان».
فعندما طُرح ملف «الثقافة» كتب يُحذِّر من الطفيليين الذين يحرفون النقاش عن مساره الصحيح، لأن الخطر –في نظره- لا يأتي من التقدمي الواضح ولا من الرجعي الساطع، إنما يأتي من الذين لا لوْن لهم ويميلون حيث النعماء تميل. يقول: «فلنحذرْ إذن، من تغيير دفة النقاش إلى القضايا الثانوية على حساب القضايا الأساسية للثقافة، ولنعمل ضد رجحان كفة الانتهازية، وضد كل دعوة تبارك أوضاع الجهل والأمية»/مجلة المجاهد، الجمعة 12 ديسمبر 1980، العدد-1062ص:42.
فأما عن كتابة التاريخ فقد كتب حلقات مطوَّلة، عبَّر فيها عن موقفه بصراحة. فهو يرى أن المستعمِر وإنْ طردناه، إلا أنَّ مخلَّفاته مازالت مترسِّبة في واقعنا، لذلك لا يصحُّ أن نختزل التاريخ في فترة بعينها ولو كانت الثورة المسلَّحة المجيدة بل من الضروري أن ندرس التاريخ في شموليته وألاَّ نطمئنَّ إلى المراجع الفرنسية وحْدها. لأن الاستعمار يلجأ إلى ديكور اللغة وإضفاء الشرعية على مخلَّفاته. وأن كتابة التاريخ مسؤولية كل مثقَّف وإنْ كان للمُختصِّين دور أساسي. ففي ذلك مسألة تثقيفية وتربوية أيْضاً. يقول: «إن كتابة تاريخ الثورة المسلحة يندرج ضمن الرغبة الأكيدة التي تعتمل في نفس أي مثقف جزائري نزيه، ولا ينبغي أن يرتكز السعي إلى هذه الكتابة المعقَّدة على اختزال المراحل التاريخية وحصرها في مرحلة قصيرة، وبالتركيز على توقيت اندلاع الثورة المسلحة، بل ينبغي أن ينصب الاهتمام أيضاً على الدراسة والبحث عن جذور الاستعمار التاريخية بالكشف عن مراحله المختلفة، وتعريتها تعرية كاملة لأنه من حق الأجيال القادمة أن تعرف الحقيقة التاريخية دون التواء أو لف أو دوران»/مجلة المجاهد الجمعة 24 أكتوبر 1980، العدد 1055 ص :32.
ومما يثير الإعجاب لدى «صالح زايد» وعْيُه الحاد وقدرته على الاستيعاب والتلخيص بلغة دقيقة لا تخلو من ومضات أدبية جميلة وتعليقات بها وخزات من السخرية أحياناً. لقد كان إنساناً مفعماً بالحيوية والنشاط ولم أتخيَّل -لحظة- أنه سيغادرنا بطريقة مفجعة.

السعيد بوطاجين/ كاتب وناقد ومترجم
كان يتخذ المواقف انطلاقا من تموقعه وقناعته ومن رؤيته لطبيعة الإبداع ووظيفته
لا يمكن أن نفيّ المرحوم زايد صالح حقه في هذه الورقة الموجزة، ذلك أن ما كتبه خلال سنين من الجهد يستدعي وقفة خاصة للإحاطة بمنجزه المتنوع، سواء كصحفي، أو كمهتم بالقضايا الثقافية والفكرية بشكل متواصل، وفي ظرف تاريخي حساس له خصوصياته وضوابطه. لذا سأركز على نقطة واحدة: رؤيته للأدب والنقد في ظرف تاريخي محدد: السبعينيات. وخصوصا في مجالات الكتابة، فقد اهتم الراحل بعدة مجالات وموضوعات متباعدة أحيانا، ومتقاربة في حالات ومنها على سبيل التمثيل: التحقيق الصحفي، الحوار الصحفي، عرض الكُتب، التغطية الصحفية، الأدب النقد الأدبي، المسرح، الفنون الجميلة الصحافة الثقافية، الأنتروبولوجيا اللغة، الرحلة، التاريخ، الخ، كما كتب كثيرا في الأدب، مقارنة بالتخصصات الأخرى التي لم يهملها أبدا.
ففي الأدب والأيديولوجية: يمكننا تأسيسا على بعض الطرح الوارد في عدة مواقف، معرفة منطلقات زايد صالح في تصوّر الأدب ووظيفته. هناك أوّلا هذا الفهم الذي يربط الإبداع، كيفما كان جنسه، بالمسألة الأيديولوجية أحيانا، وبالالتزام تحديدا (راجع على سبيل المثال مقاله الموسوم: معرض الكتاب العراقي بالجزائر، نموذج حي للثقافة الثورية العربية، المجاهد الأسبوعي، عدد 971  سنة 1979)، وهي الرؤية التي تواترت بداية من نهاية الستينيات في الجزائر، وازدادت حضورا بشكل أعمق في السبعينيات ومطلع الثمانينيات، قبل أن تخفت تدريجيا بفعل المتغيرات التي شهدها البلد ومنها التراجع عن الثورات الثلاث التي ميزت كثيرا من الكتابات السردية والشعرية، إضافة إلى حلول منظورات مضادة للمنظورات التي كانت سائدة، ومن ثمّ انحسار المواقف السابقة إلى درجة دنيا مقارنة بما عرف من قبل، ومع أن الكاتب لا يربط الأدب بالأيديولوجيات دائما إلاّ أن له ميلا إلى هذا المنحى، ولهذا الميل مسوّغاته إن نحن ربطناه بزمن الكتابة، وقد يكون وضع المقالات في سياقاتها التاريخية أمرا مهمّا لمعرفة جذور التوجه.
كان الكاتب لا يعرض الوضع الأدبي بشكل واصف أو ناقل ليلعب دور المتفرج، بل يتخذ موقفا انطلاقا من تموقعه وقناعته، ومن رؤيته لطبيعة الإبداع ووظيفته. وكان هناك دائما في مقالات صالح زايد ميل إلى جهة اليسار، إلى الأدب كما فهمه لوكاتش وغولدمان والمدافعون عن التوجه الاشتراكي، وكما فهمه من قبل الأديب الروسي مكسيم غوركي، والطاهر وطار وبن هدوقة لاحقا.
كما انصب اهتمام الكاتب على واقع النقد في الجزائر في السبعينيات ومطلع الثمانينيات، وهي حقبة اتسمت، في أغلب الحالات، بصراع ما بين اليمين واليسار، ما بين ما اصطلح عليه آنذاك الكتابة التقدمية التي كانت لها منطلقاتها وأهدافها وما سُمي الكتابة الرجعية التي تميزت بمقوماتها الفكرية.
هناك إشارات مفتاحية إلى واقع الحال: انعدام التخصص، القراءة السريعة للمنجز، إهمال النص والتعامل مع منتجه انطلاقا من مواقف قبلية لا علاقة لها بالإنتاج الأدبي كقيمة مستقلة عن الأشخاص، الصراع غير الأدبي الذي أغفل الأدب واهتم بصاحبه كمادة لا علاقة لها بالمقوّمات الفنية والجمالية للنص.
كما هناك إشارات كثيرة إلى مفهوم النقد، وهذه النقطة بالذات كانت من صلب اهتماماته الأدبية، والواقع أنه عالجها من المنطلقات السابقة التي اعتبرت النشاط الأدبي امتدادا للواقع والصيرورة، للدور الذي يمكن أن يلعبه في تقوية الفكر، بصرف النظر عن القضايا الجوهرية التي تميزه عن الممارسات الفنية الأخرى.
ويُفهم من طرحه أن الفعل النقدي إضافة إلى مقوّماته القاعدية المتعلقة بالشكل والمضمون، ليس تسجيلا فحسب لمواقف فكرية ذات علاقة بالجانب الأيديولوجي، بل علاقة بالمجتمع والوطن والأمة والعصر والمصير.
الظاهر أيضا أن هناك تمييزا عارفا بالخصوصيات، وبالمهنة النقدية في حد ذاتها، لذا أكد صالح زايد على المرض المزمن الذي لازم فعل القراءة في فترة مخصوصة، والواقع أن ذلك ما حصل فعلا في بعض الجرائد التي ظلت بؤرة لخصومات، أو منبرا للدعاية السياسية التي أصبحت تتحكم في الأدب والفن، قبل أن تظهر الرقابة وتقوم بتصفية كبيرة لكل ما كان لا ينسجم مع التوجه العام، على شاكلة ما ذكره ميخائيل بولغاكوف في روايته الموسومة «ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون».
تستدعي قراءة كتابات المرحوم زايد صالح عدة اعتبارات ضرورية لفهم منطلقاته، مقاصده، وطريقة تفكيره في فترة تفصلنا عنها قرابة أربعين سنة: الإلمام بكل ما كتبه للخروج بنتيجة واضحة. أن نأخذ زمن الكتابة وزمن القراءة. سياق إنتاج الخطاب النقدي. التحولات المركبة التي عرفها المجتمع والأشكال التعبيرية الدالة عليه. الموازنة بين ما كتب في الثمانينيات وما يكتب اليوم. محاولة تطبيق مواقفه على المنجز الحالي.

خليفة بن قارة/ كاتب وإعلامي
اجتهد واجهد نفسه كثيرا لتوصيل أفكاره وقناعاته
لست مؤهَّلا للحديث عن كتابات المبدع صالح زايد، كما أنه لا يمكنني الخوض في خصوصيات هذا الرجل الوقور والجسور، الذي لم أرَه يوما إلا مبتسما أو ضاحكًا، ومدافعا عن فكرته، لأني لم أكن ملازما له كما كان بعض الزملاء، الأقدر مني عن الكلام عنه، ولهذا ستكون كلمتي فقط انطباعية، عن زميل دراسة شاءت الأقدار ألا تتجاوز العِشْرةُ فيها عامًا واحدا، ولذا أراني أقول بأمانة، إنني سأكون آخر من يحق له الكلام، عن الراحل زايد صالح نظرًا للفترة القصيرة التي قضيناها معا، على مدارج الجامعة، كان ذلك قبل اثنيْن وأربعين عاما، حينما بدأنا سنتنا الجامعية الأولى، ونحن نزهو بأننا سنكون الدفعة الأولى، التي تتعرّب فيها كلية العلوم السياسية والإعلامية، والتقيْنا في إحدى القاعات الجامعية بجاكارتي القريبة من جامعة الجزائر المركزية.
أتينا الجامعة في ذلك الموسم الجامعي من مناطق شتّى من الوطن، لا يعرف أحدنا الآخر، وبعضنا ما يزال مُراهقا، على المستوى الفكري على الأقل، يحاول كلّ منا اكتشاف هذا العالم الجديد، الذي حلمنا به منذ كنا صغارًا، وفي حالة البحث تلك وجدنا صالح، كان يبدو رجلا كبيرا برغم تقاسيم وجهه الشابة، فقد ورثه معهد العلوم السياسية والإعلامية من المدرسة العليا للصحافة، بعدما تعثّر به العام، وكان ذلك حظًّا سعيدًا لنا، فقد جعلناه دليلنا الجامعي. كان يضحك بطريقة الكبار عندما نسأله يقول بعضنا إنه مُعتز بنفسه كثيرا ويقول آخر إنه ينظِّر، ويقول ثالث إنه يتفلسف، فعلا كان فيلسوف أقسام جاكارتي وحكيمها، ولكننا لم نكنْ نهتم يومها بعالم الأفكار ولا بسمو المعاني كما كان يفعل، كان يجتهد ويُجهِد نفسه كثيرا، لتوصيل فكرة هذا المفكِّر، أو إقناعنا بالإصغاء لما يقوله ذلك المفكِّر، وكنا لا نعير ذلك كبير اهتمام، فنحن تحت صدمة الدخول إلى الصرح الجامعي الذي طالما استهوتنا الحرية التي تكاد مطلقة في حرمه، ولكننا كنا نسعد كثيرا حينما نجلس إلى حلقة يُديرها ويزرع فيها كثيرا من الأفكار التي كانت تبدو لبعضنا غريبة أو نراها لا تعنينا، بحكم وُلوجِنا الجامعة لأول مرة، وقدومنا من مؤسسات تربوية تعتمد الحفظ والتلقين، أكثر من اعتمادها على احتكاك الأفكار ومناقشتها.
قد يكون «صالح» اكتشف أن تلك الجلسات لم تعد ترقْه، لأنها لم ترقَ إلى طموحه الفكري، بعدما وجد نفسه فيها، هو المتحدِّث والمناقش والمُختلِف أيضا، فاتّخذ لنفسه وجهة أخرى، حيث يمكن أن يظفر بجلساء افتراضيين، نحا إلى الصحافة عساها تُوصِله إليهم وبدأ الكتابة في أهم الجرائد، «النصر» «الشعب»، «المجاهد»، حيث وضع بذرته الأولى لتُثمِر بعد حين، وبدأ اسم «زايد صالح» يُشرِق من هذه الجرائد، التي كانت المحضن والحضن الدافئ، لكل الذين اتّخذوا الحرف العربي مجدافهم نحو الإبداع، في بحر سياسي وثقافي متلاطم، ورغم أن زملاءه في الدراسة، اتّجه كلٌّ إلى وِجهة عمل ألهته، وهم ما زالوا على مقاعد الدراسة، فإنه يمكنني القول إن الكثير منهم كان يشعر بالفخر والاعتزاز، لأنه زامل أو يزامل صاحب ذلك الاسم، الذي أضاء بكتاباته كثيرا من زوايا المجتمع المنسية، ولكن هذا الشعور بالانتساب إلى رجلٍ أصبح بين أترابه كبيرا، شاء القدر أن يهتز ويحس الجميع بالانكسار لهول ما بلغهم ذات يوم من أخبار تُحزِن، فقد أُخبِروا أن نجمهم الذي يضيئون به وقتهم قد انطفأ، فقد وصلهم خبر وفاة زميلهم ورفيقهم صالح زايد، وأنه انتقل إلى الرفيق الأعلى، ولن يروه في هذه الحياة أبدا، وبين من كذّب الخبر وبين مَن لم يُصدِّق، ذُهِل الجميع حينما تأكدوا أنه سافر إلى حيث لا رجعة ولم يعد صالح زميلا نراه يوزّع كل يوم، ابتسامته الطفولية تحت شوارب رجولية سوداء.
هذه كلمات عابرة في حق زميل عزيز ترجّل سريعا وغادرنا مسرعا، لا شك أن المختصين ممن اطّلعوا على كتاباته في الصحافة الوطنية، في تلك الحقبة أو ممن لديهم مخطوطات لم نطّلع عليها، سيكون لهم القول الفصل.

نسيمة بن عبد الله/ كاتبة
صاحب نظرة ثاقبة وكلمة حرة
كان يوما خريفيا مفجعا ذلك اليوم الذي نزل فيه خبر انتحار الإعلامي والمفكر صالح زايد، لم نصدق الذي حدث ولكنه حدث. لقد حمل صالح زايد الجرح ورحل والجرح فينا ما رحل. عبر صفحات جريدة «النصر» تعرفتُ على قلمه وكنتُ أتابع ما ينشر بشغف. كان صاحب النظرة الثاقبة والكلمة الحرة.
كان المجتمع في تلك المرحلة في حِراك ثقافي وفكري كبيرين، وكان زايد يقول رأيه، يُصرح بمواقفه دون مواربة. من الأدب إلى الفن إلى السياسة إلى الفكر، كان يتنقل فيبدع حيث حط قلمه الرِحال وكنتُ أقتفي آثاره عبر الجرائد الوطنية التي كتب فيها: «المجاهد الأسبوعي، الشعب، النصر» كان مساره واضحا، كان ملتصقا بالبسطاء. حاملا همهم رسالةً آمن بها وفاءً لطفولته.
كانت سكيكدة مسقط رأسه في أعماقه حيث ارتحل فتابع ونقل حركيتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. حاور الشباب المبدع وقدم قراءات في كتاباتهم إيمانا منه أن هذا الشباب لابد أن يأخذ فرصته ولابد أن تسمع كلمته. دافع عن القضايا الوطنية والعربية إدراكا منه أن هذه الأمة لابد أن تقوم قبل فوات الأوان، فمن «قضية الثقافة» إلى «قضية وموقف» كان مسكونا بالهم الثقافي، يدافع بشراسة عن الفكر الحر في وقت راحت فيه الظلامية تبسط رداءها على الساحة، كان صالح زايد قلمًا يأبى الصمت، ولا يداري حروفه تحت أي ظل، وكما روحه الثائرة كان قلمه نورا ساطعا، شمسا لا يغطيها ظلام الليل ولو طال. ولأن روح صالح زايد كانت شفافة وعقله كان متفتحا وفكره كان متوقدا استشرف الآتي واختار الرحيل قبل أن تترصده رصاصة غدر في ناصية من النواصي ويسفك دمه من لا ضمير له.
رحل صالح زايد حاملا الجرح في صدره من طفولة بائسة إلى شباب عانى فيه المطاردات إلى عالم الإعلام متنقلا من صحيفة إلى أخرى. كان الطائر المهاجر دوما، عرف الاستقرار وما عرف السكون، ورغم عذابات روحه ظل قلمه مشعا حتى آخر لحظة من عمره.

شريف بوشنافة/ صديق الكاتب
حياته حملت ملامح التراجيديا والمعاناة النفسية
الأديب والإعلامي صالح زايد «رشيد»، كان شخصا بسيطا ومتواضعا إلى أبعد الحدود، وقامة أدبية واسم خط حضوره في عالم الأدب والإعلام، ثم اختار مصير الغياب وفضل أن يضع حدا لحياته شاعر ومثقف ومفكر له تميزه الكبير. يحضرني باستمرار كصديق رافقته في أصعب مراحل حياته رغم فارق السن بيننا، خاصة بعد انهياره العصبي الذي أدخله مستشفى الأمراض العقلية بــ»الحروش» الذي مكث به أكثر من مرة، وكنت أنا من يدخله إلى المستشفى ومن يتكفل بإخراجه.
حياته حملت ملامح التراجيدية والمعاناة النفسية، كان عميق التفكير والتأمل، على إيقاعات هدير الأمواج والصمت القاتــل، على ضفـــة الشاطــئ الكبير بأعالي جبــال سطورة في مدينة سكيكدة.
كثيرا ما كان يصطدم بذكريات الطفــولة التي عاش فيها الفقــر المدقــع، تلك الطفولــة التي لم يعشها كغيــره والتي تشبــه لحد كبير طفولــة بطــل رواية «البؤساء» للكاتب فيكتور هيغو إبان الثورة الفرنسيــة. في ذلك الفضــاء يعبر بطريقتــه الخاصــة عن عدم رغبته في تذكر طفولته التي لا يحبها نتيجة المعاناة الكبيرة التي عاشها. إذ فتح عينيه عند ولادته على اكتشاف أن والده في عِداد المفقودين أثناء تواجد الاستعمار الفرنسي بالجزائر وبعدها تزوجت أمه. كما يستحضر أيضا قصــة حب بريئــة حطمها مفهوم الصراع الطبقي من طرف والد الفتاة التي تعلق قلبه بها، هذا الأب الذي لا يحب الفقراء ولا حتى المعربين، مسؤول باللجنة المركزية للحزب الحاكم الذي كان يسوق لخِطابٍ اشتراكي يرتكز على كفاح البرولتاريا، الطبقات العُمالية. حيث كان هذا الأخير سببا في إقالتــه من جريدة «المجاهد الأسبوعية» التابعة للحزب المذكور، كما كان وراء أول انهيار عصبي له نتيجــة المضايقات الرهيبة، إن لم نقل الإرهابية في حق صالح زايــد الذي تعرض لكل أنواع المضايقات البوليسية وغيرها، (كون الشخص الذي حرك ذلك اســم كبير في هرم السلطة آنذاك)، والذي لم يكن مشغولا حينها بقضايا البلاد ولا حتى بالعباد بقدر ما كان مشغولا بإبعاد ابنته عن هذا المثقف الثائر المُعرب الذي دفعه للمعاناة أيضا من البطالة، ليضطر من حين لآخر أن يقدم دروسًا لفرع الخدمات الاجتماعية لشركة سوناطراك.
عاش فقيرا ومتمردا ومات كــذلك عاش لثلاثيــة: «عشق البحر بغداد التاريخية، وابن خلدون». ابن الشاطئ الكبير بسطورة تدرج من تلميذ في الزاويـــة القرآنية إلى ممـــرن في مدرسة الإرشاد ولأسباب اجتماعية توظف كمعلم بإحدى المدارس الابتدائية، بعدها واصل تعليمه عن طريق المراسلة ليدخل جامعة العلوم السياسية والإعلام بالعاصمة. ثم من صحفي في جريدة «المجاهد الأسبوعية» الناطقة باسم جبهة التحرير، إلى صاحب عمـــود «قضيــة وموقف» في جريدة النصـــر.
كتب الراحل عددا كبيرا من المقالات في شتى المجالات الثقافية والفنية وحتى الفكريــة، كما أهتم أيضا بابن خلدون والمثقف الجزائري عبد الحميد مزيان. كان يخاطب العمالقة بمبادئه الراسخة وكلماته الجريئة دون مجاملة أو محاباة أو تملق، ورغم معاناته كان الألم أيضا حافــزا إيجابيا في حياتــه البائســة، الألم الذي صقل له تلك الشخصيــة القائمة على مبدأ التحدي لكل الصراعات، ومن ثم فهو يجمع كل قِواه أمام ذكرى والديه وطفولته بقوة كبيرة ليثبت وجوده معتمدا على تواصله بأصدقائه الذين لم يتركوه ولو للحظة.
كثيرا ما كان يبقى مركزا على صوت الأمواج يتأمل البحر مطولا، يتناول سيجارة «أفراز» ليرمي نصفها وكأنه يريد الثـأر من كل ما سبق ذكره من خلالها ثم يستعد للتواصل مع أصدقائه وأحبائــه الأحياء منهم والأموات. يلتقي البشير الإبراهيمي كي يتمتع بقوة اللغـة عنده، يغازل توفيق الحكيم بمسرحه الذهني ويخاطب ستانيلافسكي في أصول التمثيل عنده، ويهتم بإعجاب كبير بتمرد كاتب ياسين على الجميع من المعربين والمفرنسين. لم يخفِ أبدا اندهاشه من شجاعــة مايكوفسكي.
كان أيضا يكتب ويكتب كثيرا من المقالات في النقد المسرحي، فقد كان متتبعا جيدا لحركة المسرح الهاوي والمحترف. ولسعة إطلاعه على هذا الفن، أُوكلت له حصة حول المسرح العالمي بالإذاعة الوطنية في برنامج «مغرب الشعوب»، كما أجرى عددا من الحوارات المهمة مع بعض الأدباء والكُتاب والمفكرين، كان أبرزها حواره مع روجي غارودي الذي تواصل على مدار سلسلة من 13 حلقة. كتب في أدب السجون كما أعد دراسات في أدب البحر إلى أن كتب رواية «البحر»، تناول الواقع الثقافي الجزائري بشكل كبير، فكان مهرجان «مسرح الهواة» من ضمن اهتماماته، كتب عن المقاومة اللبنانية والقضية الفلسطينية والصحراوية. كتب أيضا في «أجواد» المسرحي عبد القادر علولــة، الذي احتك به أثناء حياته الطلابية، واستشهد بإنسانية جلول لفهايمي وسكينة المسكينــة، ولا يخفي اعترافــه بعبقريــة كاتب ياسين (الذي احتك به أيضا لسنوات)، وهو يعري حُكام العرب ويغني له «يا مسلمين أشحال عندكم من سلاطين، يا أخوان الشياطين»، يسخر من أشباه المثقفيــن الفرنكوفونيين غير الجديين مستحضرا مقاطع من أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام.
بالإضافة إلى كتاباته في الصحافة له عدة إسهامات ثقافية من خلال المشاركات في ملتقيات أدبية وفكرية، منها: ملتقى «الأدب والثورة»، ملتقى «العيد آل خليفة» ملتقى «الفكر الإسلامي» وغيرها من ملتقيات ومؤتمرات توسعت على خارطة المشهد الأدبي والثقافي الجزائري.
يقضي صالح زايــد الأسابيع بالشاطئ الكبير بين البحر والغابــة المتواجدة بأعالي جبال سكيكدة، زاده البصل والطماطم رفقــه أصدقائه الكُتاب، يكتب أشياء مذهلــة في الأدب والمسرح وحتى في بعض المسائل الفكرية ذات القيمة العاليــة، حينها يضع كل أصدقائه في الغطاء الذي كان يستعمله حين يشعر بالبرد ليلا، مع العلم أن أصدقاءه من مختلف الأجناس ومختلف الديانات واللغات، ليعود بعدها إلى المدينة.
ذات صباح ركب سيارة أجرة من سكيكدة إلى قسنطينة، كان في كامل قواه النفسية ولم يكن يبدو عليه في تلك الأيام أي قلق أو استياء، وحين وصل إلى قسنطينة فضل أن يغادر العالم من إحدى جسورها المعلقة.
صالح زايد الذي فضل أن يغادر هذا العالم بطريقته الخاصة ويضع حدا لكل أنواع المعاناة، لازال حيا عند من عايشوا معاناته وألمه، لكن مؤسف حقا هذا الصمت الذي أُحيط به، وكأنه عملية إلغاء أو تناسي مقصودة لاسم كبير في الساحة الثقافية والإعلامية بالجزائر. فهل يا ترى مازال هناك من يخشى صالح زايد كاسم وفكر وقلم حتى وهو غائب عن هذا العالم؟.

الرجوع إلى الأعلى