الأدب منفتح على كل الفنون والعلوم، وهو أيضا  وعاء مستوعب ومستقطب للصوفية وللخطاب الصوفي، فالعلاقة بين الأدب والتصوف لا تخلو من الأسئلة ومن الإشكالات والقراءات والتأويلات المتباينة و المتضادة، لكنها ظلت وتظل قائمة و متواصلة ومستمرة، فالأدب  يفتح عوالمه للتصوف، والتصوف يجد في الأدب أرضا خصبة ورحبة له؟
«كراس الثقافة» في عدد اليوم، يفتح ملف «الأدب والتصوف» مع مجموعة من الدكاترة والأساتذة الأكاديميين والباحثين، الذين لهم اهتمامات واشتغالات في حقل الخطاب الصوفي في الأدب الجزائري من خلال مقارباتهم ودراساتهم وأبحاثهم المتواصلة في هذا الشأن، وهم في هذا الملف، يقدمون قراءاتهم ومقارباتهم حول الحضور/ والخطاب الصوفي في الأدب الجزائري،ومدى وجود الأدب الصوفي في الجزائر. كما يتحدثون عن هذه الثنائية (الأدب والتصوف)، كل حسب خلفياته ومرجعياته المعرفية والنقدية.

إستطلاع/ نوّارة لحرش

 

آمنة بلعلى/ باحثة وناقدة أكاديمية -جامعة مولود معمري تيزي وزو

 ليس كل أدب يستعمل المصطلحات الصوفية يعد تصوفا

التصوف والأدب، وبالأخص الشعر بينهما وشائج قربى وتفاعل كبير، سواء على مستوى التجربة أو الكتابة، وهما الخطابان الوحيدان في الثقافة العربية اللذان كانا خطابين منتجين، في الوقت الذي كانت فيه معارف أخرى كعلوم النحو والأصول والتفسير والحديث والبلاغة والنقد وغيرها خطابات واصفة لأنها ظهرت من أجل خدمة الخطاب الديني.
ولقد احتمى الشعر بالتصوّف كما احتمى التصوف بالشعر إلى حد وجدنا كثيرا من الأشعار التي قالها شعراء غير متصوفة كالنواسيّ والضحّاك والمتنبي تنسب إلى المتصوفة وتعبّر عن تجربتهم، وكان الحب هو الوسيط الذي سمح بأن يحتمي أحدهما بالآخر، غير أن الشعر أيضا كان سببا في الإيقاع بالمتصوفة لأنهم استمدوا منه الرمزية والمجاز الذي عد حقيقة وتسبب في تأويل عباراتهم والحكم عليهم،مثلما حصل للحلاج وعلى الرغم من هذه النهاية الدرامية لهذا المتصوف وغيره إلا أن التصوف ظل يحتمي بالشعر وتأسس ما سمي الغزل الصوفي اقتداء بالغزل العذري.
وتوطد العلاقة الأسلوبية بين الشعر والتصوف راجع بالدرجة الأولى إلى الرؤية التي توجه كلا منهما وهي الرؤيا المجازية للكون وللذات في علاقتها بالوجود، لذلك لم نجد أي خلل تعطلت بفضله هذه العلاقة الأبدية بين الأدب والتصوف.
وحديثا وبعد زمن طويل من تنحية الخطاب الصوفي، ونظرا لظروف حضارية وثقافية لوحظت حركة كبيرة لاستعادة التصوف نصا وتجربة، في الأدب فانتقل التفاعل إلى المسرح الشعري عند صلاح عبد الصبور في مأساة الحلاج ثم في الرواية العربية، بحثا عن البطل المخلص أو النموذج المضحي، أو هربا به إلى نوع من الغيبوبة الحلمية، نتيجة الظروف التي مر بها المبدع العربي وخاصة بعد هزيمة حزيران. غير أننا لاحظنا تحولا من نوع آخر في التعامل مع التصوف بدءا من تسعينيات القرن الماضي وانفتاح الشعراء والروائيين على عوالم أخرى، فتم اللجوء إلى توظيف التصوف في كتاباتهم، استلهموا خلالهرموز التصوف الكبرى كالمرأة والخمرة،ثم تحوّل الاستلهام إلى استعادة لتاريخ التصوف شخصيات وأحداث، وأصبحنا أمام كتابة أدعت لنفسها أن تكون صوفية، الأمر الذي جعل الكُتاب والنُقاد يتوهّمون أن ما يُكتب هو أدب صوفي، وأغرق البعض وأجهدوا أنفسهم في البحث في النصوص الصوفية لاجترارها أو تحويلها أو محاكاتها، واقتفاء أثر الكتابة الصوفية معجما وتركيبا ورموزا، وأعانتهم بعض الرؤى الإيديولوجية كالوجودية والعبثية والرمزية في تبني ما يشبه الرؤية الصوفية، بل أصبح الاستغراق في حب امرأة أو في السياسة أو في الخمرة أو في الإيديولوجيا تصوفا، وشهدنا في أواخر الألفية الثانية نوعا من التمييع الذي غابت فيه الرؤية الواضحة التي تبين طبيعة التفاعل بين التصوف كتجربة روحية وسلوكية إيمانية هدفها الارتقاء بالنفس إلى حالة من الصفاء والوفاق مع الله، والكتابة الصوفية التي تلتقي كما قلنا سابقا مع الإبداع من حيث أنهما ينبعان من إدراك متشابه للوجود وللذات، وهو الإدراك الشعري المجازي القائم على الوعي الكليّ.
هذه التجربة مع التصوف عشناها في الجزائر، وإن كانت بحدة أقل نظرا لهيمنة الإيديولوجي على الفن الروائي، أما الشعراء، فقد شهدنا موجة من التوجه نحو التصوف واستدعاء رموزه وطريقة الكتابة الصوفية، فسقط بعضهم ممن اعتقد أنه بإمكانه أن يكون شاعرا صوفيا عندما يستدعي التجربة واللغة،  وتعثّر البعض الآخر من اعتقدوا أنهم بإغراق قصائدهم بمصطلحات التصوف سيصلون إلى كتابة قصيدة صوفية، أما القليل من الذين فقهوا التجربة الصوفية واستلهموا منها القدرة على عطف القلوب على القيم بإدراك مجازي للأشياء وللوجود، ففي اعتقادي هم فقط من يستحقون تسميتهم بشعراء الروح في الجزائر أمثال عبد الله العشي وياسين بن عبيد.، الأول فهم التجربة الصوفية ومنطق الكتابة الصوفية، والثاني عاش التجربة الصوفية وفهم منطق الكتابة الصوفية، فكتبا شعرا فيه من التخلق والتحقق ما يجعل منه شعرا صوفيا معاصرا.إن جاز تسميته بذلك، لأن ليمن المبررات ما يجعلني أتحفظ على إلحاق التصوف بالأدب أو بالأدباء، لأنه ليس كل أدب يستعمل المصطلحات الصوفية يعد تصوفا، أو نعدّ صاحبه متصوفا وذلك انطلاقا من الاعتبارات التالية: - انطلاقا من مبدأ التحول الذي يقضي أنه ما من تيار أدبي أو فكري إلاّ وهو معرض مع التطور الزماني لأن تحدث فيه تغيرات وتطرأ عليه تلوينات تبتعد كثيرا أو قليلا عن أصوله.
- انطلاقا من مبدأ الدور الذي يقضي بأنه ما من تيار أو جنس إلا وله عمر افتراضي يتجدد ثم يصيبه الجمود والموت، وإذا بعث يكون بشكل مغاير تماما.
- انطلاقا من أن التصوف كان تجربة فرضتها ظروف ثقافية معينة وأن لكل مرحلة ظروفها حتى وإن حصل تشابه.
فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تستعاد التجربة نفسها ولا الكتابة نفسها، وعلى الذي يعتقد أنه يمارس تجربة صوفية أن يستوعب أولا أنها لا تشبه تجارب المتصوفة، وينبغي أن يخلق لها لغة واصفة خاصة بها، وما دام الأديب العربي يعاني اليوم أزمة كبيرة مع الإبداع ومع اللغة، فعليه أن يبحث عن معايير جديدة تعبّر عن مشكلته مع الإبداع، لأن التصوف جاء ليحل مشكلة المتصوفة في عصورهم ولن يكون كتجربة في الكتابة حلا صالحا لكل إشكاليات المبدعين مع الإبداع في كل العصور.
أخيرا لا بد من الإشارة إلى ما يشبه المفارقة والمتعلقة بظهور فئة من النقاد والباحثين الأكاديمين في الجزائر الذي تخصصوا في دراسة الخطاب الصوفي، وهم في اعتقادي من أقوى التيارات الأكاديمية في البحث العلمي الجامعي، عاينوا الخطاب الصوفي بمناهج متنوعة وبوعي نقدي كبير أذكر من بينهم: حميدي خميسي،ياسين بن عبيد، عبد الحميد هيمة، سفيان زدادقة، أحمد بوزيان، عبد الله شطاح، محمد كعوان، فريدة مولى، سامية بن عكوش.

محمد كعوان/ كاتب وأكاديمي-جامعة قسنطينة

التجربة الصوفية المعاصرة تتأسس على أسلبة اللغة

تعد ظاهرة التصوف الفني المعاصر –الكتابة بشتى أشكالها-ظاهرة لافتة للأنظار،فقد زاد الاهتمام باللغة وعلاماتها وأساليبها اتجاه الشعراء المعاصرين إلى التجارب الصوفية، والتي هي تجارب خلجات عميقة موغلة في الغموض، تتقصى الذات الشاعرة خلالها أعماقها الدفينة لأجل السمو بها إلى مصاف الكائنات النورية. انطلاقا من كون التجربة الصوفية المعاصرة فتنة للعصر بامتياز، حيث يتجه الوعي خلالها في حركة نزوحية من الخارج إلى الداخل، أو من الكثافة إلى اللطافة، مستعينا بحواس جديدة استنهضها خصيصا لتلك الرحلة، كما أنها سعي حثيث نحو الكمال في أسمى مظاهره، ومحاولة للتمايس مع الأسرار الإلهية المودعة في الحرف والكلمة والشكل والعدد. وإذا كانت التجربة الصوفية القديمة قد تماهت مع المطلق قاصدة بذلك تعرية الباطن وصوغ علاقة مع الذات الإلهية، فإن التجربة الصوفية المعاصرة هي محاولة لتحقيق الكمال الفني، عن طريق اللغة، كما أنها مجازفة شعورية تتقصى أعماق الكائن والوجود في آن واحد لأجل العثور على أماكن الإثارة والمفارقة. وتتأسس هذه التجربة الأدبية الصوفية المعاصرة على أسلبة اللغة، وجعلها المعشوق ذاته. وهذه الأسلبة الخاصة منوطة بخلق برازخ دلالية تبنى وفقها التجربة الصوفية بما أنها تجربة لغوية قبل كل شيء.
إن محاولة التشبث بالتصوف كمفهوم فلسفي وفكري وإبداعي في خطابنا الشعري/الأدبي العربي المعاصر هي محاولة واعية للعودة إلى الذات، واستكناه مواطن القوة في فكرنا وعقيدتنا، وجماليات القول الفني، بعد عقود كان فيها الأدب شعرا ونثرا موظفا لخدمة قضايا اجتماعية وسياسية حتى تحول إلى خطاب باهت، لا حركة فيه ولا روح، وقد طواه النسيان والضياع جراء ذلك بمجرد انتفاء الظروف التي أدت إلى ظهوره، لأن الخطاب الذي ينتج بمزية ظرفية ومناسباتية لا محالة من زواله وانقراضه.
ولما كانت حاجتنا ملحاحة إلى أدب ينبع من عمق تجاربنا الروحية والوجدانية، أدب يتشح بوشاح الذات في غموضها وفردانيتها، ويكشف عمقها اللامتناهي، ويسبر أغوارها وأسرارها، أدب يحاول التعبير عن الحقيقة المغيبة، الحقيقة التي لا يستقر على كشفها خطاب بعينه، أدى ذلك بشعرائنا إلى العودة إلى التراث، محاولين سبر مواطن الجدة فيه، والبحث عن إجابات لأسئلة وجودية ضيعتنا قرونا طوالا، أسئلة تقف على حافة الوجود، لتحاول تبرير علاقة الكائن البشري بالمكان والزمان والأزل والمطلق و...إلخ. إنها أسئلة ترضع من ثدي الحقيقة الأزلية، وتحاول العودة بالإنسان إلى الحياة البرزخية.
وإذا كان هم الفلسفات الغربية اليوم يتجه إلى هذه العوالم الباطنية في الذات الإنسانية، وقد تجلى ذلك في جل الجوانب الفكرية والإبداعية، فإن حاجتنا نحن أشد إلحاحا خاصة وأن فكرنا الديني والأدبي يكتنزان ما نحن في شغف إلى الاستزادة منه، وما الاهتمام المتزايد بالظاهرة الصوفية ورمزيتها في الخطاب الشعري المعاصر، إلا تجل لهذه الرغبة المتزايدة.
ونحن نرى بأن الفكر الصوفي والنصوص الصوفية القديمة هي مرتكزات فنية وفلسفية لذائقتنا الإبداعية المعاصرة. كما أن تلك النصوص مغرية بالقراءة، والمزية في ذلك أن شبابها لا يزول وسنظل بدورنا نخطب ودها، ونهفو إلى نسائمها العذبة لأجل بعثها من جديد، وبثوب يليق بالحداثة التي نعيشها اليوم لغة وفكرا.
إن الصلة بين الأدب والتصوف وثيقة بشكل كبير، كما أن علاقة التصوف بالفلسفة هي علاقة قربى، بل هي علاقة سببية، فكل منهما بحاجة لأنفاس الآخر، فغايتهما واحدة، وهي البحث عن الحقيقة المطلقة.
ويتجاوز الأدب التصوف الفلسفي في كونه يسعى إلى صوغ تجربة مع المطلق، فهو لا يكتفي بمجرد البحث والتقصي، لأنه معرفة ذوقية وحدسية تتجاوز مقاييس الفلسفة ومنطلقاتها التحليلية، فهذه الثلاثية: الفلسفة، والأدب، والتصوف يجمع بينها رابط قوي، لأن التصوف حلق بجناحين، أحدهما الفلسفة، والثاني الأدب، ويؤكد عبد القادر محمود هذه الصلة ووثاقتها بين التصوف والأدب، حتى إنه يمكن القول بأن التصوف أقرب إلى الأدب منه إلى الفلسفة، وهو يرد بذلك على تلك النظرة التي اعتبرت التصوف موصولا بالفلسفة فقط، مع أن نشأة الفلسفة لم تكن إلا نتيجة معاناة الإنسان مع الوجود ككل، لا مع عنصر من عناصره، ولا مع شكل من أشكاله، وأنماط ظواهره.
إن الميل إلى الكتابة الصوفية عند الشعراء الجزائريين المعاصرين لم يكن وليد اجترار لكتابات سابقة بقدر ما هو ميل إلى ضرورة المعايشة الحسية والوجدانية، التي ظلت مطلب كثير من الشعراء الصوفية، فالنصوص الشعرية غدت كونا يستعير وجوده من تأمل الذات الشاعرة في الحقائق الكونية، وفي خفاء الأشياء ووجودها، بل إن الشاعر يحاول أن يصوغ تجربة وجدية مع الكون واللغة، موازية لتلك التجربة التي يعيشها الصوفي مع المطلق، فاللغة غدت محبوبا له أسراره وخفاياه، فهي غامضة ومبهمة بقدر غموض المطلق وخفائه.
كما أن الصوفية تركز اهتماما كبيرا على اللغة باعتبارها وسيلة من وسائل العروج والمعرفة، ومن ثم جعلت اللغة بحروفها وأشكالها كائنات ومخلوقات رمزية لها كيانها.

سامية بن عكوش/ كاتبة وباحثة أكاديمية جامعة جيجل

الأدب الصوفيّ الجزائريّ لازال ينتظر مقاربات جديدة

القسم الأكبر من التراث الأدبيّ في الجزائر، ينتمي إلى التصوّف. وقد عرف ازدهارا كبيرا، خاصة في فترتي الموحدين والمرابطين. وإنّ غِنى وثراء هذا التراث يتجلى في المخطوطات الكثيرة، خاصة في زوايا بجنوب الجزائرالتي تنتظر محقّقين مختصين لإخراجها إلى الوجود، قبل أن تتلف. ومنها الشفهيّ أيضا، في شكل شعر ملحون.
وبحكم إطّلاعي على الدراسات في هذا الجانب، فإنّها لازالت -في معظمها- تدرس قضايا تقليدية  كالخصائص الأسلوبية مثل الرّمز الشّعريّ مثلا، أو الإشارة إلى المقامات والأحوال. ما يحتاجه هذا التراث الضحم هو تجديد طريقة الدّراسة، بأن تتجاوز الدراسة مستوى التفسير السّطحيّ البسيط إلى مستوى اشتغال الدلالة، وهو ما تسمّيه جوليا كريستيفا «البنية العميقة». وفي مستوى البنية العميقة، ستتغيّر النّظرة إلى طبيعة النّص الصوفيّ، فلن يكون مجرد محتويات ومضامين، ولن يكون مجرد وعاء إيديولوجيّ. ولن يكون مجرد آلية لاستنباط الحقيقة الصوفية، واختلافها عن الشّريعة. سيكون النّص وفق البنية العميقة، حقل إنتاج لممارسة دالة، يتقاطع فيه الشّعريّ والفلسفيّ، اللّغويّ والأنطولوجيّ، البلاغيّ والتفكيكيّ. وتوجد عدّة نصوص في التراث الصوفيّ الجزائريّ، تتواءم مع النّظرة العميقة للنّص، وأذكر أبا مدين الغوث، الذي يسمّيه ابن عربي معلم المعلمّين، وتأثر بمنهجه في التصوّف، وذكره لقاءه الروحيّ لا الجسميّ  في أكثر من كتاب. كما أذكر أيضا عفيف الدّين التلمسانيّ الذي ولد بتلمسان (1213 – م1291م)، ومات بدمشق. اتّبع طريقة ابن عربي في التصوف. له ديوان شعريّ يتمحور حول تصوّره عن وحدة الوجود. وكذا شروحات عن أدباء صوفيين: شرح مواقف النّفريّ، شرح فصوص الحكم لابن عربيّ، شرح التائية الكبرى لابن الفارض. يمكن دراسة العلاقة بين النّصوص الشّارحة والنّصوص المشروحة، وفق المناهج المعاصرة (التناص)، كما أنّ المنظومة المفهومية لعفيف الدّين التلمسانيّ مهمة، إن درست من خلال شروحه.  
يمكن دراسة هذا الأدب، خصوصا في فترة الموحدين والمرابطين، كخطابات تظهر فيها تأثيرات القوة أو السّلطة، لأنّ النّصوص كما يقول نيتشه «عناصر قوة لا عناصر تكافؤ». فبالإمكان استثمار هذه النّصوص في النّقد الثقافيّ، لإبراز العلاقات الاجتماعية والظروف السياسية والاقتصادية الثقافية التي أنتجت النّصوص، وعبّرت عنها النّصوص في نفس الوقت، وبالتالي نعيد النّظر في الرّأي الشّائع عن ابتعاد النّص الصوفيّ عن الممارسة السّياسية، فداخل النّصوص توجد القوة والسّلطة، وإنّ تحوّل الثقافة في تلك الفترة إلى طابع صوفيّ روحيّ، لا ينفي تورّطها مع السياسة.
يحتاج التراث الأدبيّ الصوفيّ إلى ورشات عمل أكبر، ومجموعات عمل أكبر، ومعاول نقدية أكثر  حدّة ونجاعة، كي لا يتحوّل الأدب الصوفيّ إلى مجرد نصوص مكتنزة، في رفوف مكتباتنا، وفي جنبات زوايانا.

محمد الأمين بحري/أستاذ محاضر وباحث أكاديمي جامعة بسكرة

الخطاب الصوفي في الأدب الجزائري الإشكالات  وتحديث المسارات

من وجهة نظر أدبية يبدو الخطاب الصوفي مفهوماً إشكالياً بحق وذلك لتعدد مرجعياته وغاياته المتعالقة مع الخطاب الأدبي، وكذا التباس الرؤى الفنية والدينية حين تكون إحداهما منطلقاً للنص. فتؤثر حتماُ على تحليلاته المنهجية ووجهته التأويلية وتخريجاته الجمالية. فمن انطلق من عالم التصوف وجاء إلى عالم الأدب يختلف فناً وخطاباً ومرجعاً ودلالة عمن يمتهن الأدب واستعار الرؤيا الصوفية لتكون أداة تعبيرية في نصوصه.
ولنا في الأدب الجزائري أمثلة وضاءة عن الخطاب الصوفي الذي يلتحف رؤيا المبدعين في فنون أدبية شتى. فكما أن هناك متصوفة عبروا عن رؤاهم وتجلياتهم النورانية ذات البعد الصوفي بفنون أدبية كالشعر مثلاً. في صورة أبي مدين شعيب التلمساني، والأخضر بن خلوف، ممن انقطعوا إلى محبة الخالق عن دنيا المخلوق، فصفت قلوبهم وارتقوا في سلم التصوف مقامات لا يمكن قراءة نصوصهم خارجها، فإن هناك من الأدباء من استعار في رؤياه الفنية خطابات صوفية تمنح لنصه تجليات وأبعاد ميتانصية وميتالغوية، يضطلع فيها الرمز الصوفي بالمركز والأولوية في القراءة والتحليل.
وهؤلاء في الأدب الجزائري قسمان: الأول واكب الاستعمار فطعّم الرمز الصوفي في أدبه بروح الجهاد ومحاربة المستعمر،وهو ما نجده عند  شعراء الفترة الاستعمارية ممن حلّقت نصوصهم الأدبية بجناحي الجهاد والتصوف، فمن الشعراء نجد أمثال الأمير عبد القادر. ومصطفى بن التهامي، ومحمد بن قيطون، والشيخ السماتي على سبيل المثال لا الحصر.
ومن الروائيين: من انطلق من الأدب إلى التصوف بمعناه الفني دون الديني، كمحمد ديب الذي يميل تصوف خطابه إلى المفهوم الحضاري الغربي، أكثر منه إلى بعده العربي الإسلامي، وقد عرف أسلوبه الصوفي في الكتابة بما يسمى: [le liseron épineux]، أي اللبلاب المتسلق الشائك. وهو منحى تصوفي متسامٍ في الكتابة يترقى فيه الخطاب المتسامي من التجسيد إلى التجريد متخذاً منحى دورانياً تصاعدياً حيث يمد مجساته في الفضاء ممسكاً بأية ذؤابة ليجعلها مرتكزاً في دربه المتسامي، وهي نفس العملية التي يتبعها نبات اللبلاب الشائك الذي يتخذ مساره التصاعدي اللامتناهي في الفضاء بفضل مجساته المتيقظة المسكونة بروح التعالي.
وازدادت أشكال حضور الخطاب الصوفي تعدداً وتنوعاً لدى أدباء الجزائر المحدثين، والشعراء خاصة، فنجده ينداح للغربة والاغتراب في قصائد محمد بلقاسم خمار، وهو التزام و وفاء للثوابت والارتقاء بها عند الشاعر: محمد بن صالح ناصر، وهو فلسفة وجودية توحيدية لرؤى الكون والإنسان لدى الشاعر مصطفى الغماري، أما عند عثمان لوصيف، فتتوحد الرؤيا الصوفية في تيمة الألم الذي يعينه سلطاناً يحكم الروح البشرية من آدم إلى آخر البرية، ويمنح للحب هوية وللشمس ضوءاً وللطبيعة صوتاً، وللشاعر بوحاً.. أما في السرد الحديث فلنا أمثلة متعددة لعل أوضحها المجموعة القصصية «الأشعة السبعة» لعبد الحميد بن هدوقة، أين نشهد مزجاً متفرداً بين الخطاب الصوفي، والخطاب الإيديولوجي، حيث تسير القراءة في هذا العمل في الطريقين دونما تناقض.
ويمكن باختصار أن نقول بأن الخطاب الصوفي في الأدب الجزائري، بدأ دينياً ملتزماً حينما كان التصوف الديني هو الغاية والأدب هو الوسيلة، ثم وطنياً ثائراً، فكانت الرسالة هي الغاية، والخطابين الأدبي والصوفي هما الوسيلة إلى بلوغها. أما في العصر الحديث، فإن الخطاب الأدبي فنياً وجمالياً هو الغاية، فيما اتخذ الخطاب الصوفي موقع الوسيلة إلى كشف الرؤى، إلى جانب الخطاب الفلسفي الذي صار في الأزمنة المعاصرة لصيقاً بالخطاب الصوفي في نصوص الأدب الجزائري، شعراً ونثراً.

عبد الحميد هيمة/ كاتب وناقد -كلية الآداب واللغات جامعة قاصدي مرباح ورقلة

بعض الأدباء وجدوا في التصوف مرتكزًا تراثيًا يتناسب مع الواقع

لا يخفى على أي باحث في الشعر العربي المعاصر هذه الصلة الموجودة بينه، وبين التجربة الصوفية في جوانبها والمعرفية، والإبداعية، وقد رأينا هذا الامتزاج بين تجربة التصوف وتجربة الشعر عند العديد من الشعراء المشارقة على رأسهم محمود حسن اسماعيل في الثلاثينيات، وأدونيس في السبعينيات، والثمانينيات من القرن العشرين، وهذا ما يقرره النقاد بدءًا بعلي عشري زايد، الذي يعد التراث الصوفي واحدًا من أهم المصادر التراثية التي استمد منها شاعرنا المعاصر شخصيات، وأصوات يعبر من خلالها عن تجربته بشتى جوانبها الفكرية والروحية وهذا الأمر ليس غريبًا، لأن الصلة بين التجربة الصوفية، والتجربة الشعرية صلة قوية مستحكمة تؤكدها تجارب محمود حسن اسماعيل، وصلاح عبد الصبور، والبياتي، ونازك الملائكة، وأخيرًا أدونيس.
وقد جذبت الصوفية أيضا أنظار الشعراء الجزائريين الذين تفطنوا إلى ما تزخر به التجربة الصوفية من طاقات إبداعية فراحوا يغرفون من ينبوعها الفياض، وكان من نتائج ذلك تغير نظرتهم للشعر الذي لم يعد كما كان في السابق عالمًا مسطحًا يتمكن منه القارئ دون عناء فقد غدا عالمًا سحريًا يموج بالحركة والألوان، عالمًا لا يعترف بالأبعاد والحدود، إنه عالم التخطي والتجاوز والسعي وراء المطلق، كما أنه لم يعد خطابًا قائمًا على التأثر والانفعال، إنه في حقيقته خطاب التساؤل المعرفي والتعدد الدلالي، والتنوع الرؤيوي، وهو تبعًا لذلك خطاب التأويل والتعدد الدلالي، خطاب القراءة المفتوحة الآفاق المتعددة الأبعاد.
وقد اكتسب الخطاب الشعري الجزائري هذه الصفات بفضل انفتاحه على قيم فنية جديدة حققت الكثير من التطور لهذه القصيدة، ففي العصر الحديث، وبفضل اطلاع الشعراء على التراث العربي القديم وجد البعض في التصوف مرتكزًا تراثيًا يتناسب مع الواقع العربي الذي كان مهيأ يومذاك للتأثر بالتصوف الإسلامي وبالمذاهب الغربية التي تعطي للخيال النصيب الأوفر في تجاربها وهذا نتيجة لظروف: القلق والقهر والتي عانى منها الإنسان العربي بشكل عام في تطور الوعي الثوري لدى هذا الشاعر فغدا ينظر إلى التصوف على أنه رمز للتسامي الروحي على الآلام والهموم الفردية.
وعلى هذا فإن العلاقة بين التصوف والشعر علاقة واضحة إنها تنبع من السعي إلى عالم يكون أكثر كمالا من عالم الواقع. والشاعر مثل الصوفي يسعى لإنهاء نقص العالم وعلى هذا فإن الصلة بين التصوف والشعر تنبثق من سعي كل منهما إلى تصور عالم أكثر كمالا من عالم الواقع، ومبعث هذا التصور هو الإحساس بفضاعة الواقع وشدة وطأته على النفس وصبوة الروح للتماس مع الحقيقة التي تعذب كيانه.
لكل هذا فإننا نعتقد أن اللقاء بين التجربة الشعرية العربية عامة والجزائرية خاصة والخطاب الصوفي يمثل مظهرا هاما من مظاهر حداثة الخطاب الشعري العربي المعاصر، إذ نجد أن الكثير من نصوص هذه التجربة الشعرية تغترف من معين الصوفية مما يطبعها بطابع فني خاص، خاصة على مستوى اللغة ومن هنا فإن الخطاب الصوفي يعد وسيلة هامة لتشكيل جمالية الخطاب الشعري الجزائري المعاصر، وهذا ما نلحظه في عديد تجارب الشعرالجزائرية التي حاولت الاستفادة مما تتيحه اللغة الصوفية من طاقات إبداعية هائلة ولعل المحاولات الأولى في هذا المجال بدأت مع الشاعر محمد العيد آل خليفة تم تطورت مع الشعراء الجزائريين في مرحلة السبعينيات مع مصطفى محمد الغماري، وعبد الله حمادي، وفي مرحلة الثمانينيات شهدت التجربة الشعرية الجزائرية تحولات هامة، على مستوى توظيف التجربة الصوفية خاصة على يد الشاعر الجزائري الكبير عثمان لوصيف... الذي لا يقدم في نصوصه تجربة لغوية فحسب، وإنما يقدم لنا تجربة روحية تستمد مناخها من التصوف الإسلامي، إنها "مشروع شعري" كما يقول الشاعر نفسه، تتميز بالعمق الروحاني الذي يسعى إلى تمجيد كل ما هو طهراني نازع إلى البراءات في عرفانية شفيفة تترقى إلى الجليل من المعاني المتعارف عليها عند المتصوفة، ولكنها لا تقف عند المعاني الصوفية القديمة، وإنما تنخرط في أسئلة الواقع، وهمومه اليومية، وهي معادلة من الصعب أن يحققها كل الشعراء، ولكنها تحققت عند بعضهم، كما هو الشأن عند (عثمان لوصيف) الذي يعد من أكثر الشعراء امتلاء بالفيض الصوفي، ولعل ما يميز شعره هو بروز ظاهرة الاغتراب، والقلق، والرغبة في الانسحاب من الوجود لأنه مصدر ما يعانيه من شقاء، وتشتت، وخواء روحي، ولذلك نجده يبحث عن واقع أسمى، عن ملاذ روحي، عن وطن جديد، عن الجوهر المفقود، ويسعى لخلق وجود مواز في هذا العالم الشعري، وبذلك يغدو صاحب رؤية، ومعاناة ورسالة سامية لإنقاذ البشرية، فقد انتهى عصر النبوات -كما يقول- وعلى الشاعر أن يكون نبيّ العصر، ولذلك فالصوفية عنده ليست شطحًا أو دروشة، وليست انزواءً أو انطواءً بل هي ثورة شعرية لتغيير الواقع والسمو بالإنسان إلى منابع الروح، ولعل هذا ما يميز صوفية القرن العشرين، فهي ليست تجربة معرفية كصوفية ابن عربي، وغيره من المتصوفة، وإنما هي تجربة وجدانية تسعى إلى إحياء الجوهر الكامن في الإنسان، وخلق عالم روحي بديل على صعيد التجربة الفنية، وفي هذا تأكيد على دور الشعر في التغيير ومعانقة مبادئ التمرد، والثورة على الواقع الإنساني بوصفه ممارسة يومية روتينية خالية من التعبير الوجداني، وهذه الثورة لم تكن وليدة نزوة عابرة، بل وليدة أزمة روحية، وفكرية شكلت صدمة للواقع والإنسان، وحركت فيه بواعث الرغبة في التغيير، وتنقية الذات مما علق بها من شوائب، وما اختمر فيها من مبادئ ثابتة ومسلم بها وقد عبرت الصوفية قديمًا عن هذه الرغبة المتأججة على لسان (جلال الدين الرومي) الذي يقول: "إن الهواء الذي أنفخه في هذا الناي نار، وليس هواء وكل من ليس له هذه النار فليمت".

الرجوع إلى الأعلى