سوق الفن.. لوحة لم تكتمل في الجزائر
عادت في السنوات الأخيرة معارض الفنون و اللوحات التشكيلية إلى أروقة العرض، و عاد معها الحديث عن واقع الفنانين و عن مشروع سوق الفن في الجزائر، سوق أكد الكثيرون من أصحاب الريشة، بأنها لا تختلف كثيرا عن سوق الماس العالمية، يتحكم فيها لوبي قوي، له في الفن ما له في السياسة، فضلا عن ذلك فإن نجاح مشروع بهذا الطموح، لن يكتمل دون تدخل الدولة، في ظل غياب ثقافة الاستثمار الفني في أوساط رجال المال و إقصاء المواطن البسيط، من نشاط تتحدث بورصته لغة الملايين. في سنة 2015 و تحديدا في الذكرى الثلاثين لرحيل الفنان أحمد إسياخم، أعلن وزير الثقافة عز الدين ميهوبي من غليزان، أنه سيتم إنشاء سوق لبيع اللوحات الفنية التشكيلية، هي الأولى من نوعها بالجزائر، موضحا أن هذه السوق التي سيتم استحداثها في إطار الاستثمار الثقافي، ستكون أول فضاء للفنانين التشكيليين الجزائريين، لعرض لوحاتهم الزيتية للبيع كغيرهم من الفنانين بالخارج، على أن تكون هذه السوق جماعية مفتوحة تستمر شهرا أو شهرين في السنة. اليوم لا يزال السؤال مطروحا حول فعلية و جود سوق للفن التشكيلي في بلادنا، و مدى حقيقة القول بأن الفن لم يرتق من هواية إلى مهنة، أسئلة أجاب عن جانب منها، فنانون تشكيليون أجمعوا على أن مشروع سوق الفن، لوحة لم ترسم بعد، و أن المجال أعقد بكثير من مجرد ريشة و ألوان.
نور الهدى طابي
الفنان موفق رشيد
لا توجد سوق فنية و المصالح المالية عوضت الفنانين بمقاولات البناء
“في الجزائر يوجد فن نوعي و راق لكن لا سوق له، نادرون جدا هم الفنانون الذين يبيعون أو يسوقون أعمالهم غالبيتهم يتواجدون بالعاصمة، و زبائنهم عموما هم مثقفون و زملاء لهم في مجال الفن، أما فنانو المدن الداخلية، فمصيرهم العزلة.
مشكل الفن في الجزائر، هو مشكل ثقافة لا يوجد من يتذوق الإبداع و يقيمه حق قيمته، عن نفسي لي في مجال الفن 45 سنة، لا أذكر أنني بعت فيها منحوتة واحدة أو لوحة، لسببين الأول هو أنه لا يوجد زبائن للفن و الثاني هو أنني أفضل الاحتفاظ بأعمالي، على التخلي عنها مقابل مبالغ رمزية أو منحها لمن يقدر قيمتها الجمالية العالية.عندما أقول أنه لا يوجد من يتذوق الفن في بلادنا، فأنا هنا أستثني فئة قليلة من عشاق الجمال أو الفنانين في تخصصاتهم، لكنهم عادة أشخاص بسطاء الدخل و يصعب عليهم شراء لوحة فنية، قد تتراوح قيمتها بين 5 ملايين و 80 مليون سنتيم وقد تتعدى ذلك إلى 100 مليون سنتيم أحيانا، و قد تصل إلى مليار سنتيم، إذا كانت موقعة بأسماء باية أو خدة أو إسياخم أو حكار،  و تباع لوحاتهم في الداخل و الخارج.خلاف ذلك، لا نتعامل في الجزائر مع الفن بالاحترام الذي يحظى به في دول العالم المتقدم، التي حولته إلى صناعة ضخمة بعدما عرفت قيمته، بل العكس يهمش المبدع في المحطات التي يفترض أن يكون رجل الموقف فيها، فحتى البلديات و الهيئات الإدارية العمومية، تلجأ إلى الاستعانة بمقاولات بناء، بدلا من فنانين، لإنجاز التماثيل و النصب التذكارية و تزيين القاعات الشرفية و المؤسسات الثقافية، ضاربة عرض الحائط بالقيمة الفنية و الجمالية و حتى التاريخية و الحضارية لهذه النصب، وذلك لأنها تغلب مصلحتها المادية أولا، فالعديد من هذه الهيئات تستغل في مثل هكذا صفقات، لتحقيق ربح هامشي و الاستفادة من نسب مالية توجه لجيوب البعض،  وذلك بالتواطؤ مع المقاولة المنجزة، وهو واقع لا يمكن لأحد إنكاره.”

الفنان التشكيلي أحمد بن يحيى
لا يسوق أعماله إلا من فهم ثنائية الفن و السياسة
«سوق الفن ضعيف يتمركز في العاصمة، زبائنه هم مثقفون و بعض رجال الأعمال، وحتى جامعيون و فنانون أيضا، فهموا أهمية غذاء الروح، هم عموما نادرون ، بمعنى أنها سوق صغيرة لفئة محدودة من الطبقة المتوسطة، تشمل السفارات الأجنبية و الأجانب وهم عموما تجار فن يجوبون العالم، بحثا عن المبدعين. الفن عموما في الجزائر، لا يعتبر باب للرزق، ولا يمكن للفنان أن يعيش منه، عن نفسي اخترت التخصص في الفلاحة لأمول فني، سابقا كانت الدولة تشتري أعمال المبدعين من خلال تمويل المتاحف، و ذلك خلال المناسبات و المعارض لكن في الواقع، لا توجد مؤسسة متخصصة في متابعة سوق الفن التشكيلي، فضلا عن أن المتاحف لا تملك الاستقلالية المالية لتشتري، وحتى المطارات و البنوك و الإدارات كانت من أكثر المهتمين بشراء اللوحات، لكنها عزفت عن هذه الممارسة قي السنوات الأخيرة، لذلك فالسوق راكدة، لا أذكر أنني  بعت  طيلة مسيرتي لوحة واحدة لمتحف جزائري، اللوحة الوحيدة التي بعتها هي لمتحف باريس، إضافة إلى 50 منمنمة صغيرة، بعتها لجامعيين سنة 1977، و لم تحظ فعلا بحقها.المشكل هو أننا لا نملك طبقة بورجوازية مهتمة بالفن، كما في الخارج، و لا يمكننا الاعتماد على أي مؤسسة، أو هيئة تابعة للدولة تدعم الفنانين، علما بأن الوضع لا يقتصر فقط على الجزائر، بقدر ما هو واقع عربي، فالفن في ثقافتنا هو معطى ثانوي. و من جهة ثانية، فإن العديد من الأنظمة تدرك قيمة الفن و الثقافة في التربية و تكوين فرد راشد، لذلك تتعمد دفنه، لأنها بغنى عن وعي اجتماعي يهز سلطتها، لا أحد ينكر بأنه في الجزائر، كما في دول عربية أخرى، الفنانون الذين يعيشون من الفن، و من يحظون بالامتياز للمشاركة في المعارض الدولية في الخارج، و تباع لوحاتهم و يروج لأعمالهم، هم فنانون فهموا جيدا معادلة الثقافة و السياسة، غالبيتهم محسوبين على تيارات معينة وهم واجهة لأنظمتهم.بعبارة أوضح، فإن الفنان مطالب بالانغلاق على أفكاره، و السباحة مع التيار السياسي و تقبل المجتمع بكل تناقضاته، أي أن يكون فنانا رسميا، ليتمكن من العمل و النجاح في مجتمعات مماثلة، أين لا يحتكم الفن لأية معايير جمالية.هذا هو واقع سوق الفن في العالم. إن أشهر الأسماء الجزائرية في الفن التشكيلي هما عطية و عبد الصمد، فنانان  مغتربان تباع لوحاتهما بالملايير و يعرضان في كل دول العالم، صنعا شهرتهما بفضل فنهما، لكن أيضا لأنهما قبلا العرض في إسرائيل، بالنسبة إلي عرضت في إحدى المرات لوحة فلسطين بأروقة دار  بيار كاردان بفرنسا وقد تسبب الأمر في مشكلة حقيقية للدار و الأمثلة عديدة. بالعودة للحديث عن سوق الفن، فإن الحديث عن تأسيسها بعيد عن الواقع، لأن قواعدها غير متوفرة بعد، بما في ذلك النقد المتخصص الذي يسمح بتحديد قيمة الأعمال، و ما هو موجود هي أسعار تحددها أسماء أصحابها، تتراوح بين 150 و 200 مليون، هي لوحات إسياخم و خدة و علي خوجة ، أما الزبائن فهم أجانب عموما، و بعض الأثرياء الذين انفتحوا نوعا ما، على فكر الاستثمار في الفن لقيمته المستقبلية».

التشكيلية ميمية ليشاني
تجار يتحكمون في المعارض و الصالونات  و يختارون من يعرض في الخارج و من يبيع
“عموما الوضع غير مشجع، لا يوجد إقبال من قبل المواطنين على المعارض ولا يوجد جامعو لوحات، نشاط أروقة العرض محدود، تحرك مؤخرا بفضل الاستثمار الخاص، مع ذلك تبقى هذه السوق راكدة، فحتى من يرغبون في الشراء يصطدمون بالأسعار لأنهم يعجزون عن تقييم الفن، و السبب هو انعدام ثقافة يفترض أنها تكتسب من المدرسة في المراحل الأولى، لتكوين شخصية الفرد و تحديد اهتماماته، بمعنى أنها إشكالية مجتمع و علاقته بالثقافة عموما.
بالنسبة للفنانين تكمن معضلتهم الأساسية، في أن من يتحكمون في هذه السوق هم تجار دخلاء على الفن و الإبداع، يسيطرون على صالات و أروقة العرض، لديهم السلطة و القوة التي تخولهم لاختيار من يشارك في المعارض بالخارج و وحدهم يعرفون زبائن الفن، و يقترحون عليهم من يروق لهم من الأسماء، مقابل نسبة معينة من سعر اللوحة، لذلك فنفس الأسماء هي من تعرض في الخارج و هي نفسها من تبيع أعمالها و تتحدث باسم الفنانين و الفن عموما.
خلاف لذلك هناك فئة قليلة من ملاك أروقة العرض، يتعاملون مع فنانين  معينين دون مزايدات، و يسعون لتسويق أعمالهم لدى زبائنهم الدائمين، طبعا لوحة أو لوحتين كأقصى تقدير، و ليس التشكيل ككل، وهؤلاء الزبائن هم أشخاص يمثلون الطبقة البورجوازية، أصبح اقتناء لوحة فنية،  يشكل “بريستيجا” اجتماعيا لهم، أي أنهم لا يقيمون العمل كفن، بل يبتاعون ما يمنحهم شعورا بالرضا عن مكانتهم الاجتماعية و يكرس لطبقيتهم، لذلك يميلون إلى اقتناء لوحات لفنانين مغاربة و تونسيين و أجانب، و يحتقرون أعمال الجزائريين، رغم أن مستواهم أعلى بكثير، أما جامعو اللوحات الحقيقيون المتخصصون فهم نادرون.
خلاصة القول، أن وضعية الفنان التشكيلي في الجزائر صعبة، لا يمكنه العيش من فنه، بل بالعكس يتوجب عليه التعامل معه كهواية و البحث بالمقابل عن وظيفة لتمويل أعماله، فالمشاركة في معرض بمدينة وهران أو العاصمة مثلا، يتطلب من الفنان إنفاق 10ملايين أو 18 مليون سنتيم على الأقل لتمويل فترة بقائه في الفندق، أو تكلفة نقل 10 أو 15 لوحة، ليعود في الأخير بنتيجة صفر، دون أن يبيع لوحة واحدة وهو أمر مرهق”.

عزوف المتاحف و المؤسسات عن اقتناء اللوحات عقد وضعية الفنانين
الفنانة جهيدة هوادف
ننتج و لا نبيع لأن أثرياء الجزائر يستثمرون في الرياضة و يحتقرون الفن
“نعمل، ننتج و نقدم فنا راقيا، لكن لا نبيع، ببساطة لأنه لا يوجد زبائن للفن في الجزائر، فحتى رجال الأعمال و الصناعيين و البرجوازيين يفضلون الاستثمار في الرياضة و تحديدا كرة القدم، على شراء لوحات فنان أو تمويل معارضه داخل الوطن و خارجه، لأنهم لا يعتقدون بوجود جدوى مالية أو اقتصادية من الفن، عكس الخارج، وسبق لي أن تقدمت بطلبات لتمويل معارضي من قبل رجال أعمال، لكنني لم أتلق أي رد يذكر من أية جهة .
وضعية الفنانة تعقدت كثيرا في السنوات الأخيرة، خصوصا بعد عزوف المتاحف و الهيئات الرسمية على اقتناء اللوحات الفنية، كما كانت تفعل سابقا، قد توقف نشاطها بشكل كامل، و بذلك فقد الفنان زبونه الوحيد، إن صح القول، لذلك فالحل يكمن في تدخل الدولة. لابد من تخصيص غلاف مالي لصالح المتاحف، لاقتناء أعمال المبدعين الجزائريين و تشجيع الفن، لأن الوضع الحالي لا يخدم المجال، و قد تسبب في توقف الكثير من التشكيليين عن العمل و هجرهم للريشة.أضف إلى ذلك، لابد من التعامل مع الفن كموروث حضاري، يتوجب علينا الحفاظ عليه و تثمينه و تجميعه، حتى لا نضطر للبحث عنه بعد سنوات من الآن، عندما ترتفع قيمته في الأسواق الخارجية، فبدون إنشاء بنك للمنتوج الفني الوطني، لا يمكن الحديث عن إنشاء سوق له.
بخصوص الحديث عن ارتفاع أسعار اللوحات الفنية، أرى بأن الفن لا يقدر بثمن، إضافة إلى أن قيمة الخامات و المواد المستعملة في صناعة اللوحة، هي ما يحدد سعرها وهي كلها ألوان و مواد مستوردة، فإعداد أطر أبسط تشكيلة مكونة من 50 لوحة، تكلف الفنان ما يتعدى 80 مليون سنتيم، دون الحديث عن الألوان المستخدمة و عن الخامات.مشكل آخر يطرح بشدة هو ورشات العمل أو الرسم، فالفنان لا يمكنه أن يبدع، في ظل غياب فضاءات خاصة، شخصيا اجتهدت كثيرا للحصول على ورشة رسم بالعاصمة، لكنني فشلت، لأن الفن، لا يعني شيئا للمسؤولين الجزائريين، و تمويله أو دعمه يعتبر آخر انشغالاتهم، لذلك يتعذر علي في بعض الأحيان حتى إيجاد مكان لحفظ و تخزين لوحاتي، على اعتبار أنني أنتج، لكن لا أبيع و بالتالي أعاني ركودا. علما بأن المشكل لا يمس الفنان وحده، بل حتى أروقة العرض تواجه عزوفا و غيابا شبه تام لزبائن الفن.

الرجوع إلى الأعلى