قراءة في مجموعة “ الزرّ الهارب من بزّة الجنرال”

1 -  الأنا الشعري
تبدأ مجموعة «الزرّ الهارب من بزّة الجنرال» لأمال رقايق بتقديم الأنا الشعري، بوصفه رؤيا، عن طريق رسم حدود تموقعها اللغوي في عالم الكتابة. إنّها اجتهاد البدء من حيث لم يحدث قبله بدءٌ، الولادة من التفاصيل التي تكاد تكون العملة الأولى الأخيرة للتجربة. إذ تصير التفاصيل المهملة في نسيج الحياة، ميكانيزمَ تنامي الخطاب، وتشكّله، ضمن لعبة الظهور والتواري لإمكانات الدلالة. فالنّص «cv، أو ما أهمل كلاوديو بوتساني» يضعنا قبالة ما يماثل العتبة لما أسمّيه الأنا الشعريّ، ليس بمفهوم السيميّائيات لمفهوم العتبة، وإن كان كذلك، ولكن بالمعنى الإحداثيّ لمنطقة العبور إلى هذا الأنا الشعريّ. لا أقول إنّ لغة النّص تتماهى مع نص كلاوديو بوتساني «شيءٌ من كلّ شيء»، أو تتناصّ، وإن كان ذلك يحدث فعلا، ولكن يمكن القول بأنّه يبدأ من حيث انتهى كلاوديو بوتساني. يستعير، المصباح التقني لعبارة كلاوديو، تشاكليّا: «أنا المستبعد، الخارج عن القانون..الخ»1، ليفتتح له أناه الخاصّة، شيء شبيه باستعارة مصباح ديوجين، فلسفيا، ليس للبحث عن نموذج ما في عالم الآخرين، ولكن للنزول إلى قبو الأنا ذاتها، كما تتمرأى في التداعي الفجائيّ للصور عبر سطور القصيدة:
«أنا شلاّلٌ موقوف/أنا لدغةٌ مضيئة/ أنا مرجٌ قاحل يحلمُ بقطرة ندى/تؤنسُ عشبته الوحيدة» ص7.
وحدها طاقة التخييل توقف شلاّلا لتتأمّله، بوصفه معادلا رمزيّا لانفلاتيّة هذا الأنا الشعريّ. وبوصفه أيضا، إخراجا للغة عن طورها التواصلي، بغية الوصول بالكلام إلى أقاصيه، الكلام الذي ليس يتشكّل إلاّ من عجينة الحيرة.
من أيّة شجرة استثنائيّةٍ تلك، تقطف الشاعرة فاكهة العبارة، إذ تولد كلّ جملة بمذاق مختلف، كلّ صورة تحمل في جعبة المسكوت فيها، نصّا آخر ممكنا، في حراثة التأويل. كلّ جملةٍ تصلح عنوانا للمجموعة. بما يشبه نيابة الورقة الواحدة عن شجرة التجربة، ونيابة القطرة عن البحر، وحبّة الرمل عن الرّمل.
لا يترابط الشتات الفجائيّ لومضات الصور، بالاعتماد على تيمة واحدة ممكنة. بل بإرجاع الكلّ إلى شجرة الأنا الشعري بوصفها رؤيا تتكون من مادّة المختلف، والمنفلت، والمُهمل، والمجهول القريب، الكامن تحت قشرة ما يبدو بداهة. ولذا نستطيع القول، إنّ النصوص لا تتمحور حول الموضوع، بقدر ما تنبني وفق المنظور. أي أنّها تتشكّل بوصفها خطابا، وبوصفها كيفيّة نظر إلى الأشياء، بفلسفة تولد من منطق التجربة ذاتها. والتي نكاد نلمس بعض مشاربها الخفيّة، أو أنساغها الداخلية المنتجة لتك الصور التي تحمل بعض سمات السخرية الدفينة، والانزياح عن أنساق ثقافة الآخرين، في النظر إلى العالم وإلى الذات. نصغي للقصائد، في صمتها المدوّي، ومتاهها التصويري، وكأننا نصغي لما لم نسمعه من قبل، ولما يفاجئ. شيءٌ شبيه بالحكمة الاستثنائيّة التي تخرج من برميل ديوجين. من تموقعٍ يسمح للأنا بمكاشفة أناها، بالدخول في العزلة المضيئة، كما قال نيتشه. وبقراءة الخارج عبر قراءة الداخل، نفسيا وجسديا، وأنطولوجيا. فلسفة ديوجين، لا تحضر في نصوص أمال رقايق، بوصفها مقولات هنا وهناك، كشراشف معلّقة فوق حبال سطوح النصوص، كما يشيع في كتابات أخرى. بل تحضر بوصفها نسغاً، ممتزجا مع أنساغ أخرى. ولتصير مكوّنا خطابيا محرّكا للكتابة في «الزرّ الهارب من بزّة الجنرال».
الكتابة تصير هنا حاملة لقوّة الشعريّ المنفلت انفلات هذا الزرّ، في مواجهة العالم الخارجي المحكوم بنظامٍ من الأنساق، السائدة، اجتماعيا، وسياسيا، ولاهوتيا. الأنا الشعريّ، بمختلف معادلاته اللغوية، من الزرّ، إلى شجرة البرتقال، إلى الكرّاسة السائلة، يصبح تمثيلا لما لا تمثّله تلك الأنساق، ولما هو يفلت منها أصلا، بل لما لا يمكنه إلاّ أن يفلت، بوصفه تجربةً تولد من تربة الفردي، وخصوصيّتها، وثرائها في تجاوزها ذاتها إبداعيا. وفي تعدّدها، وتجلّيها الجسدي واللغوي المنزاح عن لغة التواصل. تلك هي أنا تجربة الخروج، بكلّ ما في هذه التجربة من جينات التمرّد، والتحرّر، والتحرير لطاقات الذات، وبكلّ ما فيها أيضا من إحالات ضمنيّة، تناصيّة متعدّدة من شعريّة الشنفرى، إلى انفلاتية النفري صوفيا، إلى مغامرة الأنا لدى رامبو في خروجها عن الأنا الديكارتي، إلى سخريّة ديوجين، والمعرّي من موقع عزلة تضئ ثقوب العالم، وشروخه ومفارقاته. وغير ذاك كثير من تجارب الفكر الخلاّق كتابة وسلوكا.
الظاهرة الأخرى التي يمكن رصدها في لغة القصيدة، هي الانزياح عن النمط الاستعاري المألوف في الشّعر الراهن، بالاشتغال الكثيف للمجاز داخل العبارة الواحدة. فالنص كله يمسي استعارة كبرى، مبنية على انزياح دلاليّ بين الأنا، المتكلّم في النص، بمفهوم نظرية التلفّظ لبنفينست، وبين ما يتمّ إسناده إليها مجازياًّ، على مستوى كلّ سطر، من صور العالم الخارجي، ومشاهد وأشياء، بينها وبين الأنا مسافة توتّر، وتنافر. إنّ الأنا وهي تتآلف مع كلّ مختلف، بفاعليّة الاستعارة كما وصفها عبد القاهر الجرجانيّ: شدّة الائتلاف في شدّة الاختلاف. هي إستراتيجية كتابة تصف ما يفلت من الوصف، وتتحرّك في أفق ما يهرب من قبضة الوعي واللغة التواصليّة. حيث يصير وصف الداخل بأشياء الخارج، لا يتمّ إلا بالإشارة المجازية، التي لا تتّسع لها العبارة: «أنا فضيحة رجال الحرب/ الثقبُ في جورب المحتال/ الدّمُ الذي يهبط مع الجنين/ جبلٌ مقلوبٌ تؤلمهُ قمّتُه/ أنا التلميذ الذي يكره المربّية/ الضيف الذي يبزغ في يوم عائليّ مدقع والعاشقان المنهكان في يومٍ قائظ، البدويّ المحرج أمام نادل مثقّف/أنا.. ركلةُ الجزاء المصيريّة، أنا مأزق الخادمة» ص 8 و9.
هذه الملاحقة للقبض على الأنا، عبر تعدّدية الصور الخارجية، والمواقف الحياتيّة، والمشاهد البشريّة الاستثنائيّة هي المنظور الشعري لمفهوم الأنا. الأنا هنا لا تتكرّر، بقدر ما تتعدّد، هي في كل لحظة أنا أخرى، في كلّ صورة هي أناها وليست أناها، هي التنوّع، هي الشلال الموقوف، في كل لحظة، وفي كل لحظة ماء الشلال هو نفسه، وليس هو نفسه. الأنا ها هنا، هي ما هو ها هنا، وليس هنا. هي الانفلات أصلا، وبامتياز.
توالد الصور بتلك الحمّى الإبداعيّة، دليل على أنّ «الأنا» هي ما يكمن في كلّ شيء، ويختلف عنه في آن، كأنْ ليس كمثلها شيء، كلّ ما يخطر ببال المخيّلة، هي بخلافه. هي ذاتٌ تتجاوز ذاتها أبدا. تتحدّد باللاتحدّد. كلّ شيء قد يدلّ عليها، دون أن يستنفدها. وهي أيضا ليست أنا للتوازن الأمثل، أو لحالة من النيرفانا، أو الزان المتصافي مع كينونته ومع الأشياء، ليست الأنا النموذج، بل الأنا/ التجربة الحيّة، إذ نراها تتخلّق من رحم اللحظة الحرجة، أنا تحمل وجودها بوصفه مأزقا، ليس منه فكاك، أنا للحضور القلق والمتوتّر والمحيّر، والمتحيّر معاً:
 «أنا.. مدينةٌ نائمةٌ على خطّ زلزالي/ الوريثُ المعاقُ ذهنيّاً/ شجرة البرتقال العقيمةُ في بستان البخيل» ص9.
يأبى النص إلا أن يكون أكثر من مجرّد اشتغال ذكيّ على الكثافة، إذ تصير كل صورة بمفردها كثافة نوويّة، مشحونة بانفجار دلاليّ مفتوح. ويصير السياق العامّ، نوعا من التكثيف الأقصى المهيّأ للتأويل الأقصى. يدعونا الشعر من ها هنا للإشتغال على الأقاصي، وعلى تجاوز الحدّ الذي يفرضه اللوغوس على الميتوس. استدراج القراءة إلى فخاخ الحيرة إثر الحيرة. كلّ دلالةٍ ممكنة، هي دلالةٌ أخرى ممكنة. حتّى إنّ العمل الشعري نفسه، يحمل في أواخر سطوره إشارة شبه صريحة إلى المأزق الشعري للقراءة الناقدة:
«تفتّشُ كناقد عن نقطة ضعفي/ تريد اكتشافا؟ أنظر في المرآة» ص111.
وهو مأزق تأمّل الذات للهاوية التي هي ذاتها. فكلّ ذات تقرأ ما تكتبه ذات أخرى، هي تقرأ ذاتها بصورة من الصور. ممّا يقدم الأنا الشعري، خارج كونه أنا تتكلم في النص فقط، ليصير أيضا أنا تقرأ. هي أنا تنشأ من لحظة التشارك العميق للذوات المتعددة في النص الواحد. وها هنا لا يصبح النص بناء منطويا على قاع عميق مليء بالمعاني، بقدر ما يغدو اشتغالا على الفراغ، على إمكان الملء بما يمكن أن يتمرأى للقارئ، عبر تأويل العلامة، باعتبار ألاّ عمق غير العمق الذي يفتحه القارئ في مهاوي تحيّره وتأمّله، عبر تشكّلات الخطاب. باعتبار إنّ العمق هو لعبة السطح اللغوي، باعتبار أنّ السطح اللغوي هو لعبة العمق.
يقدّم الشعر نفسه، في النص، باعتباره، استثناءً تعبيريا، يفلت من الاستعمال التداولي للغة، وباعتباره أيضا، اللّحظة المختلفة، والناشزة، والمارقة، في نسيج الوعي بالعالم:
«أنا الكنز المخبّأ تحت بيت الفقير/ غراب في سرب يمام/ الصوت الناشز في معزوفة رسميّة» ص 10.
في التوالدِ لممكنات التصوير، توالدٌ للرؤى. اغترافٌ من أقصى ما تنطوي عليه الذات من إمكان إبداعيّ، بصورة تحوّل الشعر من مجرّد تعبير عن النّفس، إلى خلقٍ لها، وانتقال مما هو تصوير لمشاعر تعاش، إلى إنتاج لمشاعر جديدة، في العلاقة بأنفسنا وباللغة، وبالعالم.
الذات المبدعة، ذات لا يمكن أن تكون كذلك إلاّ من حيث كونها ذاتا مانحةً في الكتابة. كأن كلّما اغترفت من ذاتها لتنقلها خارجها بالكتابة، كلّما اتسعت، وامتلأت بالرؤى، وفاضت كأسها بما يتجاوزها. كلّما توغلت في العتمة شعّ وميضها. كلّما احتكّت بما يناقضها تحرّرت أكثر من قيد التشابه والتماثل: «أنا الظبية المغرمة بذئب/ الجنازةُ في يوم عاصف/ النجم الذي تنكّرت له الجماهير» ص 10.
2 -  الفعل الشعري
يأبى الشعر إلاّ أن يكون فعلا، يحرّك عمليّة الكتابة، ليس فقط في مغامرة السبر لأغوار الذات، بل أيضا، في مغامرة البناء لهذه الذات، البناء من لبنةِ ما هو جوهريّ من أشياء الوجود، بحسّ النحلة التي تجمع في سفرها رحيق المتاه، لبناء خليّة الداخل. إنّه فعل الحبّ، لا كما تكرّس في خطاب العاشق والمعشوق لدى الآخرين. ولكن كما ينتجه النص ضمن الرؤيا العامّة لمجموعة الزرّ الهارب: «أحبّ الدودة المتعثّرة في تربة مبلّلة/ والزهرة العالقة على حافّة عالية/ والشجرة المنسيّة في عمق الغابة/ أحبّ الطفل الذي يسأل: لماذا لا يحبّني أحد» ص 26.
فعل الحبّ شعريّا هنا، هو نفسه الأنا الشعري، كما يقدمه نص: «ما أهمله كلاوديو». بحيث، يمكن، على مستوى التوزيع النحوي، استبدال الفعل أحبّ، بالاسم أنا، لنجد أنفسنا ضمن امتدادات النص السابق. وكأنه، نص واحد، يبدّل في رحلته بعض أدوات تحرّكه، وتناميه، مستكشفا إمكانات تشكّلاته الأخرى. بيد إنّ الفعل «أحبّ» في هذا النّص، يضيف، على الأنا، في النص الآخر، حركيّة، وقصدية تجاه الوجود، فلا تغدو الذات متاها داخليا للتأمّل المغلق، بل انفتاحا فاعلا تجاه خارجها الممكن. الذات المانحة، كما تمّ وصفها آنفا، في تأثيث الوجود بطينة الجوهري. إذ تنهض شعريّة النص، بانزياحها، رؤيويّاً بالأساس، عن خطاب الحبّ النمطي في الشعر العربي. لتصير دخولا في تجربة ما لم يُكتب من قبلُ. وليغدو معنى الإبداع، هو المجيء من حيث لم يذهب أحد. هو إنتاج العسل الشعري، من أدقّ، تفاصيل الحياة، وأكثرها انغمارا في ظلال الوعي، واللاوعي، وأشدّها حرجا، في علاقة الكائن بالوجود: «أحبّ الكتبَ التي لم يقرأها إلاّ صاحبها/ والفنّان الذي ترفضه المسارح/ والغبيّ الذي لا يستطيع أن ينجو من المدرسة/ أحبّ القبيح الذي يعشق فاتنة الشارع الخلفيّ/ والفقمة التي سيأكلها الدبّ بعد لحظات» ص27.
اللغة هنا عدسةُ رؤية، لما تهمله عدسة رؤية الآخرين، والتقاطٌ للبداهة التي تسقط من شبكة الوعي، الحقيقة في الهامش، بلاغة الصور المهملة. احتضان السرّ الذي ينطوي عليه المتناهي في الصغر: «أحبّ الجُرْمَ اليتيم، وحبّة القمح التي تحت الثلاّجة» ص 26.
ذلك هو معيار شبكة الصيد الشعري، صوت الكائن الذي يكاد يمّحي في الزحام، الكائن المطحون، المهمّش، والذي لا يكاد يُرى في كاميرا الخطاب السائد، بمختلف أنساقه. الانتباه إلى الثغرات الصغيرة في الجدار الكبير للمجتمع والحياة، هو فلسفة النظر الذي تتبطّن لغة أمال رقايق، بوصفها منظورا مكوّنا للنصوص، وخالقا لها، على أساس اكتشاف الثراء الشعريّ فيما يبدو سطحا خاليا تافها، إنّها فكرة رينيه ماريا ريلكه في رسائله إلى شاعر ناشئ، لا تتّهم يومك بالفقر، بل اتّهم نفسك بأنّك غير قادر على اكتشاف ثراء اليوميّ.2
الفعل «أحبّ» المتكرّر، على مستوى كلّ جملةٍ في النّص، ليس فقط فعلا تعبيريّاً، من حيث الوظيفة  اللغويّة، من منظور توصيفات رومان ياكبسون، بقدر ما هو فعل تأسيسيّ لشعريّة الحبّ، استنادا لما يلي الجملة، من حيث الدلالة التأويلية. وفي ذلك دعوة للقارئ لرؤية المجهول في المألوف، كما قال آرشيبالد ماكليش، في وصفه لمهمّة الشعر3. يمكن القول، من منطلق إجراءات التحليل السيميّائيّ للشعر، إنّ تكراريّة الفعل أحبّ هو تشاكل ينتظم الخطاب، إذ يضمن انسجاميّته. بيد إنّ الأمر يتجاوز هذا التوصيف لبنية السطح، إذ يصير الفعل، «أحبّ» ضمن تموقعه النصّي المتحرّك، فعلا وجوديّا، يفتح إمكان الكتابة، في أفق ما يُطلقُ عليه، بلانهائيّة الخطاب. هو فعل التوليد اللااستنفادي للممكن القولي. فمثلما قال ريلكة في مراثي دوينو: «ثمّة دائما ما يمكن أن يُرى» يقول لنا النص: ثمّة دائما ما يُمكن أن يُحبّ: «أحبّ الرجلَ الذي لا يملك الجرأة ليعبّر عن أسفه/ والهرمين الذين لا فرصة لهم لتصحيح مسودّات حياتهم/ أحبّ وأحبّ....وأحبّ.....» ص27.
التوجّه الرؤيوي للكتابة

تحمل كلّ كتابةٍ معالم توجّهها الرؤيوي، ضمنيّا، بنائيّا، وتأويليّا أيضا. فاسم الفيلسوف «ديوجين»، على سبيل المثل، لا يحضر فقط في صيغة رمزٍ، منطوٍ على دلالة ممكنة في سياق نص بعينه. بقدر ما يصير معلما، أو سَنَنًا للرؤية الشعرية: «ديوجين وفّرْ لأجلي بعضَ الظلام/ أحبّ التوغّلَ في الحبرِ والهذيان».
مثله مثل اسم رامبو. تأسيسا للغة اللامرئيّ، وكذا اسم الشاعر رينيه ماريا ريلكه، الحامل لدلالة السفر في أعماق الفعل الشعريّ. كلّ ذلك ينصهر ضمن لغة واحدة، متدافعة لتقديم العالم بما يحيّرُ، لا بما يُشجي، وبما يستدرجُ إلى غرقٍ، لا بما يطفو من مباهجَ رمزيّةٍ على ورقٍ. لغةٍ تقطع صلةَ القارئ بما هو مقال، لتضعه حيالَ ما هو حال. يدخل ها هنا الشعر في لعبة الصمت المدوّي بأعماقه المعتمة، منزاحا عن لغة الضجيج البلاغي في اشتغالات السطح إيقاعا، وتقفيةً، وزخرفة لفظيةً، كما يشيع في بعض المألوف الشعري العربي. ينهض الشعر بوصفه صمتا عن قول شيء ما، ليغدو القول والمقول شيئا واحدا في تجربة التلقّي والتأويل.4 فالصور، هي أكثر من مهارات تخييلية اعتباطيّة، إذ تتوالد من مجاهيل الجسد، ودهاليز اللاوعي، وممّا يترسّب في قيعان النسيان، وتحت بشرة جلد الشعور، ومن كلّ الزوايا والتجاعيد الخفيّة، والثقوب اللامرئيّة في نسيج الوعي. وهي صورٌ، لا تصنع نصا بالتركيب التقني للغة، بل بالاندفاق الهذياني، ممّا يحرّرها من وصاية التوجيه المُسْبَق في تخلّقها، وتشكّلها. فالنص، كأنّما يولد عاريا من أغلفة كل بلاغة سابقة عليه، مثله، مثل قطرة ندى، لا تتغلّف إلاّ بمائها الأوّل الأخير:
«نغلّف قطرة الندى بمائها/ فيما السّفحُ يلتقط أساس السحابة/ ننهب حبّة الأرز/ ونسمّي البرقوقة موعداً يمكن إصلاحُه/ ونحن نجرف الحياة مع قمصاننا المخرومةِ/ نفكر قليلا بما يصعب ترويضُه: مشية السكّير مثلا، أو أصابع (محمّد كلاي) بالبالونات التي علّقناها بين كلّ القبل الفاسدة/ كأجراس من الحمّى والبرونز، حلمنا بالتّيه وسفكنا البندقيّةَ» ص 73.

إنّها لغة الانزياح عن نسق الآخرية ممثّلةً بالمدرسة، وهي أيضا لغة الانحياز إلى جهة عالم الطفل المتلصّص على العالم، لا تدثّره، سوى دهشته، ووقاحته الفاضحة مثل ضوء يشاكس نظاما معتما حوله. لغة الشعر في تجربة أمال رقايق، تمتلئ إلى حدّ كبير بأنفاس المخيال الطفوليّ، وأحلام الهواء الأوّل، إنّها الرؤية من موقع التّيه في مقابل المدرسة التي قد ترمزُ لنظام انتظام الكائن داخل النسق المجتمعي.
يمثّل التّيه مكانا شعريّا محتضنا لحمّى الكتابة، يحملها وتحملُه، ويحلُمُهَا وتحلمُه، في مقابل كلّ مكان للآخريّة التي ينتظمها النسق، وتُمَارسُ منها الوصاية على حريّة الفرد: «خرجتُ من وصاية المجموع- دخلتُ شعاب الكلام- خرجت إلى غابة التفكيك- دخلتُ نفسي عارية... المصلوبة في المرايا- ضاحكةً في كنّاشة الحلم -ضاحكةً وأكثر- كدمعة تغالط الندى السرّي-أسبرك من النقطة إلى القباب القرمزيّة أيّها المحيط» ص83.
هكذا ترسم التجربةُ جغرافيا مسارها، وتشكّلها، لا باعتبارها نصا، ولكن باعتبارها وعيا، خارج الوعي الجماعيّ، حيث الكلام هو ما لم يُقل بعد، هو شعاب للمغامرة، وليس طرقا مسلوكةً مرارا. هو غابة للتفكّك، بغية معرفة الأنا عاريةً. ولا يخفى ما في الموقف من تناص مع المسار الصوفي في رحلة البحث عن الذات، كما تقدمه كتابات الصوفيين، أو المتمثّلين للسفر الصوفيّ في آداب كثيرة: سيدارتا لهارمن هس، الخيميائي لباولو كويلو، حكاية علي الباحث عن الكنز في المثنوي لجلال الدين الرومي، رحلة الطير لفريد الدين العطار، وغيرها كثير.
الرحلة ها هنا هي رحلة الخروج الشعري، الانفلات عن القطيع، انفلات الزرّ من بزّة الجنرال، بوصف البزّة نظاما من الأنساق، بما فيها أنساق التعبير الشعري. وبما في تجربة الخروج من تأسيس لعوالم بديلة في فضاء الكتابة، وبما في ذلك أيضا من تناصّ خفيّ مع تجربة الصعاليك.
النفس العارية هي مبتغى الاشتغال الشعري، هي ما لا يفلت من تجربة الصَّلْب، وتجربة القمع، والقهر لما هو مختلف، وتجربة إفراد البعير المعبّد كما وصف ذلك طرفة بن العبد يوما. هي نفس عصيّة على الهضم في معدة مجتمع الجنرال. وهو مجتمع تعقّد إلى درجة أن يتحوّل فيه الألم ضحكا، أو ينقلب سخريّة من كلّ شيء، ومن لا جدوى كلّ شيء. وهي سخرية مغتبطة بكونها متحرّرة داخليا من سلطة الخارج، ومغتبطة  لكونها تعيش الكتابة حلما في الهامش المهمل. إنّه الشعر يولد من كنّاشة سريّة الفرد التي لا يطالها بطشُ العالم الخارجي. الحلم قوّة يصعب ردعها، قوة تمزّق الحجبَ، وتخترق الأسيجة والجدران. ولطالما كانت الأحلام الجديدة وستظلّ هي الديناميت المدسوس في أوصال الأنساق القديمة. كأنْ مِنْ دمعةِ الألم، تخرج فراشة الحلم. فراشة التحوّل ممّا هو مجرّد حزن وأسى ومعاناة، إلى ما هو عصارة للحقيقي وللجوهري مُمثّلا بالنّدى في النّص، ممثّلا بقوّة السبْر الشعريّ، بدءا من المتناهي في الصِغر، وانتهاء بالمتناهي في الكِبَر بلغة غاستون باشلار. في كشوفاته لشعريّة الأمكنة.
شعريّة النّسيان
يستضيف النص قارئه، في رحلة تداعيه تلك، لا ليصل به إلى مرفأ معنى ما، بل ليُغْرِقَه. نص عصبيّ، ومتوتّر، لا يكاد يستقرّ على توقّعات التلقّي، هنيهةً، حتّى ينجرف بالقراءة إلى أعماق أخرى. الغموض الذي يسم اللغة الشعريّة، ليس غموضَ صورٍ معقّدة التركيب، بقدر ما هو غموضُ حالٍ، وغموض سفرٍ عموديّ، وإن تحرّكتِ المشاهدُ أفقيًّا على مستوى سطح الكتابة. تقول الشاعرة في نهاية النص: «من يلاحق جملتي العصبيّة أعرفُه/ أتبنّاه زورقا للمعاني الخرساء...يَغرَقُ في تُؤدة» ص86.
كأنيّ به نصٌّ يصطفي قارئه، إذ لا يقدّم له ما يمكن أن يصبح معنىً ما بين يديّ التحليل، بقدر ما يريد إغراقه في ماء الحيرة على مهلٍ، في تأمّل ما يصعب تسميتُه، أو تحديده، أو تقييدُه في هذه الفكرةِ أو تلك. كأن روح الشعر، إذ نقرأه، هي أن نغرق فيما يتجاوز حدّ التناهي. هي أن نُستدرَجَ فيما وراء الحدّ، كما يقول موريس بلونشو.5 حيث أن نتكلم هو ليس أن نرى، وحيث الكلام يتجاوز حدود المرئيّ، ليدخل بنا فيما وراء ما لا تقف عنده الحواس. الكلام الشعري، على وجه أدقّ، خروج ممّا يُعرفُ، بالضرورة، ودخول في تجربةِ ما لا يُعرف. ومن ثَمَّ، لا يصير فهمُ الشعر، هو ما يحضرُ في قبضة الوعي، بقدر ما يغدو بالأساس، هو ما يغيب، وما يفلت. ولعلّ تربة النسيان هي أمثل مناطق استثمار الشعر لمادّته المنفلتة تلك. النسيان باعتباره أكبر المهاوي التي لا يحيط بها الوعي. والتي هي بدءٌ دائم لعمليّة التخلّق الشعري. تقول الشاعرة: «ولا أقصد بالشعر سوى ما نسيناه/ كلّ بمفرده عند العتبات النهريّة/ لا أقصد بالنسيان غير الشروع في ذاكرة لا تتّسع» ص 86.
النسيان أوسع من الذاكرة وأعمق، والشعر سفرٌ في النسيان، وإن انطلق من محطّة الذاكرة. الوعي بالعالم نسيج ممّا يسجّله الوعي، وممّا يسقط من ثقوب شبكة الوعي أيضا. ففي الكتابة الشعريّة لأمال رقايق، اشتغال على العتمات، أكثر من الاشتغال على الموثوق منه، والمسجّل بعناية في الذهن، والواضحِ الناتئ، والبارز ِبالخطِّ العريض في سبّورة الذاكرة.
الكتابةُ، في مسارها الشعريّ، افتتاحُ المتاه، حيث الكلام هو بدءٌ، لا منتهى، وحيث هو بدْءٌ لا ينتهي أيضا. توتيرُ الوجود، لا هدهدتُه بحثا عن التوازن والطمأنينة، والتآلف. القصيدة إذّاك ليست حركة في اتجاه الوصول إلى نقطةٍ ما، بقدر ما هي نسيج نقاط، لبدايات مفتوحة.6 إنّها تولد من محو ما هو قبلها، تولد من النسيان أصلا، حركةٌ مثمولةٌ في أفق ما يتوارى، وما ليس منتظرا. إنّها معرفة مشروطة بالنسيان، لا تتشكّل فقط بالتذكّر، بحسب أفلاطون، بل بتحويل ما يتمّ تذكّره إلى رؤى وكشوف في الإنتاج الجمالي.7
الوطنُ عذابٌ. دعني أنسى/ ص 105.
المفترض الخطابي في هذا التلفّظ، هو دعني أنسى لأعرف، لأعرف أعمق من مجرّد أنّ الوطن عذاب. في نص رتوشات، حيث تتوالد اللغة بصورة شذريّة، يتخلّلها البياض الصامتُ، والحامل للمكنات التي لا يحملها البياضُ الناطق. نقف على بناء حواريّ للأنا الشعري مع الآخرية: «الوطن عذاب. دعني أنسى/ الأرض خرائب... دعني أنسى/ الأرض وطن....دعني أتحطّم» ص 105.
في التمفصل بين الصوت والصوت، أو بين المكتوب، والمحجوب، تمفصل بين النسيان والمعرفة أيضا. ويستمرّ هذا التمفصل، بكيفيات متغايرة على طول النص، وبقفزات مفاجئة، ومستكشفة لما يتخفّى وراء لغة الآخرية، مّما لا يتمّ رؤيته إلا بلغة الأنا الشعريّ المختلف: «دعني أغنّي، أغلق أذنيك/ هاك المزلاج، ثبّته في حنجرتي» ص110.
أهي دعوةٌ ضمنيّة لتعطيل الحواس، بلغة رامبو، وبودلير، لسماع صوت الأعماق؟. الأعماق التي أحسبها مادة اللاوعي التي تبدو رأسمال الكتابة الشعرية، في مجموعة الزرّ الهارب.. هذا اللاوعي الشبيه بكيس العواصف في ملحمة أوديسيوس، هو ليس فقط منطقة نفسية لتراكم المكبوت، بقدر ما هو تمثّل لكلّ ما يمكن تسميته باللامفكّر فيه، والمنسيّ، والمعتم، والهامشي، وما تغفل عنه كاميرا العقل، أو تحجبه تحت سلطة النسق الاجتماعي والثقافي واللاهوتي وغيره.
رصد اللغة الشعرية لعوالم الباطن، رصد للتحوّلات الخفيّة أيضا، والمنفلتة من موازين الوعي. وهي تحوّلات دراماتيكيّة لحقيقة الكائن، من وضع أوّلٍ، طبيعي مُفترضٍ، إلى وضع مشوّه، عجائبي تحت شروط أنساق الانتماء للعوالم المشتركة مع الآخر. تقول الشاعرة: «ركضتُ كثيرا في قطرة ندى/ تحوّلتُ إذن لمنفضةٍ من زجاج.!» ص 111.
تشعّ هذه الصورة، مكتنزة بأجمل ما في التأمّل من إمكان، حتّى ليغدوَ كلّ تأويل لها، هو دونها، مهما بدا للمفسّر من أنّه انتقالٌ من الحيويّ والجوهريّ والطبيعي، إلى المتشيّئ، والمشوّه، والممسوخ. فبين الأنا وهي قطرة ندى، وبين أن تصير منفضة سجائر زجاجيّة مسافة توتّر، شعري، بلغة كمال أبو ديب، ومسافة تحوّل مأساوي للحياة، من الوضع الطبيعي، إلى الوضع الاصطناعي المتآكل. وهي صورة، تقترب كثيرا في معناها العميق، من صورة أخرى في المجموعة، تعبيرا عن هذا التحوّل من الطبيعي، إلى المتشيّئ. والذي قد يطال الكتابة نفسها، حين تنزل من كونها خلقا للجمال، إلى كونها بضاعة تحت سلطة الشرط الاقتصادي والاجتماعي. وما قد يحدث بموجب ذلك من تنازلات على حساب الجمالي والإنساني: «أرسم للقمر جديلةً/ أقصّها، وأبيعها» ص 94.
إنّ مجموعة نصوص «الزرّ الهارب من بزّة الجنرال»، في تنوّعها من البداية، حتّى السطور الأخيرة، تكاد تكون نفَسًا واحدا، يتدرّج من الهذياني إلى التأمّلي، ومن التدفّق الصاخب، إلى التشذّر الصامت، وإلى ما قد يتقطّر مثل حبّات ندى تجرح إمكان التلقّي. هي في نهاية المطاف، تشكّلاتُ كتابةٍ، تنشأ من سؤال المتاه. أقصد متاه المساحة الغامضة للأنا الشعري. ولذا فالنصوص ليست تتمحور حول تيمات، بقدر ما تنبثق من نسغٍ رؤيويّ، تمثّله مغامرة الكتابة الجديدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
 - شيءٌ من كلّ شيء
أنا المستبعد، الخارج على القانون،
الملعون الذي لا يستسلم !
أنا البطل الذي يموت في الصفحة الأولى !
أنا القطُّ الأعورُ الذي لا تريد أيّ عجوز أن تداعبه !
أنا الحيوان الخائف من رُهاب الماء
الذي يعضّ اليد الممدودة بالرحمة !
أنا سوء الفهم الذي يؤدّي إلي الشجار !!
أنا الشيطان الذي هرّب محبرة لوثر !
أنا شريط الفيلم الذي ينقطع في ذروة الحدث !
أنا الهدف الذي أدخل في مرماي في الثانية الأخيرة !
أنا الطفل الذي ينخر ردًّا على تعنيف الأمّ
أنا خوف العشب الذي على وشك أن يجزّوه
لست أدري ما إذا كان البحر يصنع الأمواج
أو يتحمّلها !
لست أدري ما إذا كنت أنا المفكّر
أم فكرة عارضة !!!
كلاوديو بوتساني - شاعر إيطالي. الشبكة.
[2] R.M. Rilke/ lettres à un jeune poète/ folio. P :11
[3] - آرشيبالد ماكليش. الشّعر والتجربة، ترجمة سلمى خضراء الجيوسي
[4] -Jean-Louis-Joubert ;la Poésie. série Critica. Le silence de la poésie. Armand colin1992.1997cérès éditions :94.
[5] - Maurice Blanchot. L’entretien infini. Gallimard. 1969. P :82.
[6]- عبد العزيز بومسهولي. الشعر، الوجود والزمان. إفريقيا الشرق. 2002. ص: 23.
[7] - برنار نويل. كتاب النسيان. ترجمة محمّد بنيس. دار توبقال.  ص: 15- النّسيان هو مسقط الرأس» بالنسبة للكاتب، إذ لا ميلاد له مع خضوعه لسطوة الذاكرة وهيْمنتها. وبعكس الاعتقاد السائد، لا بد من قول إنه لا شيء يضيع مع النّسيان. فما ننساه يظل موجوداً في مكان مَا من الجسد ثم يعود إلى الظهور في الكتابة لا كما كان ولا إلى ما كان، بل «ككلام لكلّ ما تمّ فُقدانُه»، يعودُ من المكان الأبْعد، المجهول، في كتابة لها حريةُ المتخيل وتعدديةُ المعنى.

الرجوع إلى الأعلى