المثقف الذي لم تسرقه السياسة من الكتابة
يعتبر الدكتور محمد العربي ولد خليفة، واحدا من أبرز المفكرين والمشتغلين في حقل الأدب والفكر واللغة والبحث التربوي والفلسفة واللسانيات والهوية في الجزائر، وقد أسهم بشكل كبير في إثراء الفكر التربوي الجزائري، وكان يطالب دائماً بضرورة رفع أداء المنظومة التربوية في المدرسة والجامعة، ويشدد على ضرورة دعم اللغة العربية في مختلف هياكل ومنظمات المجتمع المدني باعتبارها اللغة التي تجمع جميع الجزائريين، مع الحرص على عدم إغفال تعليم اللغات الأخرى والعمل من أجل تحرير العقول. ولهذا ورغم شغله لأكثر من منصب سياسيّ في الدولة، إلاّ أنّه ظلّ يُعرف على أنّه من رواد اللغة العربية، أكثر مما يُعرف عنه ممارسة السياسة ومناصبها التي تقلدها في مختلف مراحل مسيرته المهنية والعُمرية.
نوّارة لحــرش
فهو المجاهد، السياسيّ، البرلمانيّ، الأكاديميّ، وهو اللغويّ، وهو المؤلف والباحث، لكنّه ظلّ على مسافة قريبة وحميمة من إشتغالاته الفكرية والأدبية رغم غوصه الكبير في السياسة وشؤونها، ورغم تقلده لمناصب حساسة على رأس أكثر من قطاع في الدولة، إلاّ أنّ الرجل المثقف الموسوعي لم يَحِد عن جادة الفكر والأدب واللغة.
مسار أكاديـمي ومناصب عليا
صاحب كِتاب «التنمية والديموقراطية في الجزائر والمنطقة العربية»، ولد في 24 ديسمبر 1938، وتابع تعليمه الابتدائي والثانوي بالجزائر وتونس. وبعدها نال شهادة البكالوريا في شعبة العلوم بدرجة جيّد. الطالب المجتهد الذي ظلّ ينظر للتعليم كنافذة واسعة تنفتح على أفاق أرحب وأجمل، واصل بنفس الوتيرة ، وهذا ما جعله العام 1963، يحوز على شهادة ليسانس في الفلسفة والعلوم الاجتماعية من جامعة مصر ، بعدها نال دكتوراه في اختصاص علم النفس الاجتماعي بدرجة جيّد جدا، لتليها شهادات علمية أخرى كثيرة، من بينها: دبلوم في مناهج البحث الاجتماعي من جامعة لندن عام 1974.
الرجل المشغوف بالأدب، كان عضو اتحاد الكتّاب الجزائريين منذ 1965. ومنذ تلك الفترة وهو يتدرج في عدة مناصب إدارية وعلمية، من بينها: أستاذ مساعد عام 1969، ثم أستاذ مناهج البحث في جامعة الجزائر 1975. ورئيس قسم عِلم النفس وعلوم التربية ومخبر علم النفس الفزيولوجي بين عامي 1971/1972. مدير الدراسات العليا بمعهد العلوم الاجتماعية من 1974 إلى 1977. أمين عام المجمع الجزائري للّغة العربية 1998. عضو في مؤسسة الأمير عبد القادر((AFA. عضو مؤسس لجمعية العلاقات الدولية (ARI) وكذا عضو منتخب في مجمع اللغة العربية في دمشق 2003.
كلّ هذه المهام التي تقلدها الدكتور ولد خليفة، فتحت له أفاقا أخرى لتقلد أحد المناصب المهمة في قطاع مهم من القطاعات الرسمية الحساسة في الجزائر، إذ تمَّ تعيينه عام 2001 لتقلد منصب رئيس المجلس الأعلى للغة العربية.
استمر الدكتور على رأس المجلس إلى غاية العام 2012. وقد شهدت فترة رئاسته حِراكا ثقافيا لم يشهده المجلس من قبل فالرجل وبخبرته الطويلة في مجالات وميادين الثقافة والفكر والأدب، نشّط وفعّل المجلس، وفتح أبوابه ورزنامات مواعيده على الكثير من النشاطات الفكرية والأدبية. وقد عملت هيئة المجلس تحت إشرافه وفق منهجية تجمع بين العمل الميداني لترقية ونشر العربية في المجتمع ومؤسسات الدولة، وبين الاعتماد على الخبراء من النخبة الجزائرية ومن الأقطار العربية وحتى الأجنبية في ندواته وحلقاته الدراسية ومنابره التي خصصت للحوار بين أهل الفكر والمختصين في التكنولوجيا والعلوم الدقيقة، بهدف تصحيح بعض المفاهيم والأحكام المسبقة على لغة الضاد. وقد أولى المجلس في عهدته عناية كبيرة للجوانب العلمية والتكنولوجية، وعقد عددا من الندوات الوطنية والدولية لتكنولوجيا المعلومات والعربية في الإدارة الالكترونية.
و في عهدته أصدر المجلس في بداية 2012 دليلا مفصلا للمعلوماتية بثلاث لغات (العربية الانكليزية والفرنسية) بالتعاون مع المعاهد المتخصصة ووزارة تكنولوجيات المعلومات موجّه للمستعملين وللباحثين والمتكونين في هذا الميدان. وغيرها من الأدلة للمصطلحات التربوية. يضاف إلى كلّ هذا خمسة أدلّة أخرى متعلّقة بمصطلحات الإعلام والاتصال والإدارة والماليّة والمحاسبة والمحادثة الطبيّة والوسائل العامّة. كما أصدر بالإضافة إلى عمله الميداني حوالي 136 مدونة وثّقت مختلف نشاطاته. إضافة إلى جائزة اللغة العربية التي تنظم كلّ سنتين في عدة مجالات من بينها الطب والصيدلة وعلوم العربية والاقتصاد والبرمجيات والتاريخ، وبالإضافة إلى المكافأة المادية، يتكفل المجلس بنشر الأعمال الفائزة، كما أنّ لهيئة المجلس الأعلى للغة العربية، مجلة نصف دورية مُحكّمة بعنوان «اللغة العربية»، وهي تُعنى باللغة والفكر والأدب. ومجلة أخرى «معالم» وهي متخصصة في ترجمة مستجدات الفكر والعلوم والإبداع من مختلف اللغات العالمية. وقد أصدر المجلس قبل أن يغادره الدكتور ولد خليفة إلى رئاسة المجلس الشعبي الوطني، دليله الثالث للتعريف بإصداراته حتى 2011.
هذا الحضور الفكريّ واللغويّ والاجتماعيّ الموسوعي، رسم خارطة تواجد لافتة للرجل، فلا يمكن أن يمر اسمه في سياقات اللغة والتأليف والفكر دون أن يتم تثمين هذا التواجد الثريّ والإشادة به وبعطاءاته في هذه المجالات.
مسارٌ سياسيٌ حافلٌ لم يسرقه من حدائق الفكر واللغة
تَعدُد وتنوع مساره الفكري والثقافي، يوازيه بشكل كبير تعدّد وتنوع مساره السياسي والدبلوماسي، فمنذ بدايات شبابه البِكر، التحق بالمنظّمة السريّة لجبهة وجيش التحرير الوطني ، وبعد الاستقلال شَغَل منصب مستشار للشؤون الثقافية والاجتماعية في حزب جبهة التحرير الوطني من 1965 إلى 1979. كما كان عضو اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني 1979/1984، وفي نفس الوقت عضو في الأمانة الدائمة لجبهة التحرير الوطني 1979/ 1980.
كما تقلد أيضا منصب كاتب الدّولة للثقافة والفنون الشعبية من 1980 إلى 1982، وكاتب الدّولة للتعليم الثانوي والتقني من 1982 إلى 1984. وكان للدبلوماسية نصيبها في مسيرته، إذا كان سفير الجزائر في اليمن من 1985 إلى 1988. وسفير الجزائر في إيران من 1988 إلى 1991. والنائب الأوّل للجنة الوطنية للانتخابات الرئاسية، ثم رئيسها المؤقت (ديسمبر 1998/أفريل 1999).هذا التنقل في المهام والمسؤوليات، لم يمنع الدكتور ولد خليفة يوما من ممارسة نشاطاته الفكرية والأدبية، إذ كان إلى جانب التأليف، يحضر ويشارك في العديد والكثير من الملتقيات والمؤتمرات العربية والإفريقيّة والأوروبيّة والأمريكيّة، فقد دُعيّ ، لإلقاء محاضرات في الصّين وإسبانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإيران وعدد من البلدان العربية، منها: المغرب، موريتانيا، مصر (الجامعة العربية)، الكويت، العراق، الأردن، سوريا، تونس وليبيا... وغيرها من البلدان.الدكتور محمد العربي ولد خليفة، عضو دائم في حزب جبهة التحرير الوطني، وقد انتخب نائبا بالمجلس الشعبي الوطني عن قائمة ولاية الجزائر للفترة التشريعية السابعة. وانتخب بعد ذلك رئيسا للمجلس الشعبي الوطني لولاية بخمس سنوات، ومنذ عام 2012، وهو يشغل منصب رئيس المجلس الشعبي الوطني.
التأليف والبحث شاغله الشاغل
للدكتور دراسات وأبحاث عديدة في مجالات الثقافة والمجتمع والتربية وعلم الاجتماع المقارن والسياسة والتاريخ، ناقشت وتناولت قضايا وإشكالات فكرية شائكة من جوهر المجتمع الجزائري بأبعاده العربية والإسلامية والأمازيغية والإقليمية، وهي منشورة في حوليات جامعة الجزائر، ومجلات ودوريات جزائرية وعربية وأوروبية. كما له أكثر من 18 كتابا في تخصصات مختلفة، منها: كتاب بعنوان «الثورة الجزائرية: معطيات وتحديات» 1978، عن منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. «المجاهد معطوب حرب التحرير/ دراسة سِمات الشخصية عند جنود جيش التحرير» عام 1971. «قضايا فكرية في ليلة عربية» عن منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع 1984. «المهام الحضارية للمدرسة والجامعة الجزائرية» عن منشورات ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر عام 1986، وهو عبارة عن دراسة نقدية مطوّلة ومستفيضة لنظام التربية والتكوين والبحث العلمي في الجزائر. وعن ديوان المطبوعات الجامعية دائما، صدر له أيضا: «التنمية والديموقراطية في الجزائر والمنطقة العربية»، عام 1989. «النظام العالمي ماذا تغيّر فيه؟ وأين نحن من مستجداته؟» عام 1997.
وفي عام 1999، وعن دار الأمة، أصدر الدكتور كتابا بعنوان «الأزمة المفروضة على الجزائر»، وعن نفس الدار صدر له في 2000 كتاب «الجزائر المفكرة والتاريخية: أبعاد ومعالم». والذي أكد فيه أن الجزائر تتمتع بمؤهلات مادية ومعنوية كبيرة، وأنّه لا يمكن تفعيلها بالاكتفاء بالاستنساخ، وأنّ النخب القيادية سواء فكرية أو سياسية لا يمكن أن تنجح في مهام البناء الحضاري والمؤسساتي وترقية العلوم والفنون والآداب إذا تناست حقوق وواجبات المواطنة، أو اعتبرت نفسها طائفة خارج المجتمع أو فوقه.
بعدها صدر له كتاب «الجزائر والعالم: ملامح قرن وأصداء ألفية». في طبعة مشتركة بين مؤسسة ثالة والمؤسسة الوطنية للفنون المطبعية 2001/2002.
تنوّعت اشتغالات واهتمامات ومؤلفات وكتابات الرجل في الثقافة وشؤونها وفي التاريخ ودروبه وفي الثورة وفلسفتها، وفي قضايا الهويات واللسانيات، إذ تطرق لهذا الموضوع في كتابه «المسألة الثقافية وقضايا اللسان والهوية» الصادر في 2003، في طبعة مشتركة بين ديوان المطبوعات الجامعية ومنشورات ثالة. وكان عبارة عن دراسة ملمة وعارفة خاضها الدكتور وتبّحر فيها في مسار الأفكار وعلاقتها باللسان والهوية ومتطلبات الحداثة والخصوصية والعولمة والعالمية.
في حين شهد كتابه «الاحتلال الاستيطاني للجزائر»، رواجا معتبرا، إذ صدر في ثلاث طبعات على التوالي: 2006/ 2008/ 2010. عن منشورات ثالة.
الدكتور ولد خليفة، لم يكتفِ بخوض مجالات التأليف في التاريخ واللغة وعلم الاجتماع، إنّما خاض في أمور وشؤون أخرى ذات صلة بالترجمة والنقد، ففي الترجمة قام بترجمة كِتاب «المجتمع الجزائري في مخبر الإيديولوجية الكولونيالية» من اللغة الفرنسية إلى العربية، والذي صدر في طبعته الأولى عن منشورات تالة العام 2000، وعن مطبوعات المنطقة العربية والإسلامية عام 2002 في طبعة ثانية. كما أصدر عام 2007، كتاب «مدخل إلى نقد الحاضر ومساءلة الآخر/حوارات ثقافية في رواق الدبلوماسية». و»معاينات في الواقع وماذا عن المأمول؟» الصادر عن  دار الأمل العام 2005. و»مقاربات نقدية» عن دار الخلدونية عام 2010.
عِشق اللغة والصلاة في محرابها  
يبقى ولد خليفة من أشد المنتصرين للغة العربية ومن أكثر المدافعين عنها، وهذا ما تجلى في معظم مؤلفاته وكذا من خلال فترة رئاسته للمجلس الأعلى للغة العربية، إذا حاول أن يقدم أكثر للغة العربية، فقد كان يعرف مدى غربة هذه اللغة في عقر دارها وعلى حافات ينابيعها، إذ هي في الغالب الأعم مظلومة، مهملة وغير مُعتنى بها، وقد كانت له تحاليله العميقة حول هذا الوضع الذي تعاني منه العربية، وفي هذا السياق قال في أحد حواراته: «لم تتمكن العربية من مواصلة تقدمها الحضاري وتحقيق التراكم العلمي والإبداعي في أوطانها وانتشارها خارج حدودها الثقافية، بعد أن كانت لغة العلم والتعليم في كثير من الجامعات والمعاهد في جنوب أوروبا، حيث كانت تتصدر مكتباتها مراجع في الطب والصيدلة والرياضيات والفلك بالعربية».
وأرجع الدكتور، عدم تقدم اللغة العربية، إلى تحالف ثلاثة عوامل ضدها، عطلت تقدمها وأضعفت إشعاعها، أوّلها ما حاق بأهلها من تخلف وجمود وفتن، والعامل الثاني يرجع إلى المدّ الكولونيالي الذي اجتاح المنطقة مشرقا ومغربا، واستفاد من حالة الضعف والتأخر السائدة فيها، فعمل على دفعها نحو مزيد من التفكك وغرس عقدة النقص والإحساس بالدونية بين شرائح من شعوبها ونخبها.أمّا ثالث العوامل -حسب الدكتور- فهو تخاذل أهلها وغفلة الكثير من نخبها وأولى الأمر في أوطانها عن تحريك النهضة وتوفير الشروط التي تمكّن بلداننا من اللّحاق بموكب المقدمة، ومن الثابت في تجارب الأمم القديمة والمعاصرة أن تحقيق التنمية والتقدم العلمي والتكنولوجي والحد من التبعية يتطلب استيعاب المعرفة وتوطينها باللغة الوطنية.ورغم ما تعانيه اللغة من بؤس وغربة في محيطها، إلاّ أن الدكتور، ظلّ يؤمن بأنّ العربية بحكم رصيدها التاريخي وقدرتها على استيعاب المعرفة بالإمكان أن تلتحق بركب التقدم وتتبوأ المرتبة التي تستحقها بين أهم اللغات الناقلة والمنتجة للإبداع في العلوم والفنون والآداب.

الرجوع إلى الأعلى