نجاح يتمزق بين ضفتين

محمد رابحي
نجحت رواية الفرنكوغرافي كمال داود "مورسو: تحقيق مضاد" في فرنسا وكانت قد طرحت قبلا في المكتبة الجزائرية دون أن تلفت أي اهتمام.هذا الإخفاق لا يعد غريبا أو مستهجنا، طالما هو من طبيعة الأمور عندنا. لكن نجاحها هناك هو الجدير بتسطيره. ذلك لأنه يبدو أصيلا، بل أكثر من ذلك يبدو أدبيا إلى حد ما. على خلاف نجاحات أدبائنا في الفرنسية التي تحكمها عادة السياسة.
على أنه يتوجب التنبيه إلى أن "القراءة الفرنسية" تظل مرتبطة إلى حد كبير بما نسميه التاريخ المشترك ولقاء/صدام الثقافتين الفرنسية والجزائرية. فالأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية منذ ظهوره إلى غاية هذه الرواية تتم قراءته بعيون استشراقية. أي يتم التفاعل معه عبر أقنية محدودة.وتحقيق داود أكدت هذا المنحى لأنها اشتغلت على موروث فرنسي لكن من زاوية مضادة. لابد لها أن تثير اهتمام الفرنسيين الذين سيتابعون رجلا من الشرق يخلخل "ثوابتهم".
كتابان وصراع
تتوسل رواية كمال داود "مورسو: تحقيق مضاد" في منطلقها "رأينا" كجزائريين حول "العربي المقتول" برواية كامو. واحساسنا بأنه قد وقع عليه ظلم وتحقير، وتعامل معه النص وكذلك كاتبه كفرد دون مستوى الإنسان. لذلك تغوص رواية داود في تفاصيل تحاول أن تبني ما استغنت عنه "الغريب" أو تعالت عليه. ويرى (الكاتب داود/البطل زوج) بالتالي أنه عالم به ومحيط به ويعرف تفاصيله ويجدر لذلك أن يعلن عنه ويقدمه للناس ويفضح به مورسو الفرنسي المعمر المتغطرس القاتل.
إن "مورسو: تحقيق مضاد" لا تسرد قصة ولكن تصور لحظة أو حالة مشحونة بجو واحساس يدور حول مشهد قتل العربي في رواية الغريب، تمطيط وبحث وتعرية هذا المشهد المقتضب والملتبس.. حالة تحاول تعريف "عربي" كما يسمي المعمرون الجزائريين. فيعطيه داود ما يحق لكل بني آدم: اسم وهوية وأسرة ويوميات.. ويضعه على خلفية تجزم أن له حياة قائمة بذاتها هي حياة شعب بأكمله هم سكان أصليون يتم تغييبهم قصدا.
يبدو كمال داود،الكاتب الصحفي بالأساس، وافدا على فن الرواية فموضوعه على جرأته لم يجد بنية فنية مميزة ترتفع به. لكنه سبر التجربة بحساسيته ونباهته التي حققت منجزا أدبيا لابأس به. منحه بعده "الاستشراقي" الذي أشرنا إليه سالفا والذي من شأنه أن يحرك لا محالة حاسة القراءة الفرنسية والغربية عموما.
ونجحت هذه الرواية أيضا لأنها بنت الألفية الثالثة (ربما كاتبها لا يعلم بذلك) بمعنى أنه ألفها دون أن يدري بأنها تلتقي بفن جديد وليد التكنولوجيا والتواصل الافتراضي يطلق عليه "الفان فيكشن" أدب طور من أداء القارئ العادي ومكنه من إبداء رأيه بشكل مباشر ودون قيود، بل وجعل منه كاتبا جديدا من نوع آخر. حيث صار باستطاعته أن يؤلف كتبا مستوحاة من كتب شهيرة، ويكتب حول شخصيات خيالية أحبها فيقترح لها حكايات جديدة ومغامرات ومصائر مختلفة.
وفقا لذلك وجدت رواية داود لها طريقا ممهدا إلى القارئ الفرنسي من جيل التكنولوجيا. إذ وجدت لديه الخلفية الثقافية التي تسوغها وتعطيها أبعادها الضرورية حتى يتلقاها ايجابيا.
إن داود لم يكتب رواية. ويمكنني أن أشرح هذا بكونها ليست عمله الروائي الأول ولكن روايته المفترضة. فلقد ولدها الكاتب من رواية أخرى أصل هي "الغريب". قد تكون تتمة لها أو فصلا منها أو هي هوامشها المنسية. لا يمكن قراءتها دون أن تقرأ الأولى/الأصل. هي بمعنى آخر أكثر تطرفا قراءة في رواية كامو حتى أنها في كثير من الفقرات والسياقات تبدو "جافة" كقراءة نقدية لعمل أدبي..

تاريخ من الشرق إلى الغرب
وبعيدا عن النجاح من منطلق الشكل السالف الذكر يجدر الحديث أيضا عن "معنى" النجاح. الذي أرى أنه تأتى في هذه التجربة من نواة هي غضبنا من أدب رفيع وخالد متورط في سلبيته وتعسفه تجاه الحق. وهي النواة التي ولدت رواية تناقش موقف مثقفي فرنسا، وليس سياسيوها وعسكرها كما اعتدنا، من الجزائر وثورتها.
عمل داود كنص هو بسيط لكنه ككتاب هو مثير. فالنص هو تفاصيل محدودة يعرضها علينا من عدة زوايا. الأم تبحث عن ميتها وتحكي عنه حكايات بطولية، أخوه يريد أن يؤلف عنه كتابا ينتقم به من الكتاب الذي هزأ به.. والعلاقة المتوافقة/المتنافرة في آن بين الأم وابنها الباقي أو الناجي... جاء النص في عمومه على وتيرة واحدة في مونولوج يصل في بعض أطرافه إلى ما يشبه الهذيان..
إن أهمية الرواية تتجمع في كونها موجهة إلى أهلها (الجزائريون/الفرنسيون). وفيكونها مكتوبة في زمنها المناسب الذي يشهد إعادة قراءة التاريخ بين البلدين بطريقة مختلفة عن السائد وأكثر موضوعية. ربما كانت أول رواية تراجع التاريخ المشترك بعيدا عن السياسة فلا سلاح أو جيوش ولا فلاقة أو جبل،، إنما هي تقرأه من داخل الثقافة والأدب. كتاب يحاكم الكاتب كامو والشخصية الروائية مورسو،، وهذا أمر على الرغم من أنه يعيد إلى السطح السياسة والحرب وتاريخ من اللا توافق،، إلا أنه يطرحها على نحو مختلف يميل أكثر إلى التحليل الفكري الأبستمولوجي.. ما يمنحنا على صعيد آخر فرصة للقول بأن أدبنا الفرنكوغرافي يشهد مع داود مرحلة جديدة. غير التي عرفت مع الرواد، وغير التي شهدناها مع كتاب الاستقلال إلى اليوم.. إنها زاوية جيل جديد على الضفتين علينا أن ننتبه هنا إلى وجوده.
الغريب للغريب نسيب
مع أن هم رواية كمال داود هو تصحيح نظرة خاطئة، أرخها كامو وجسدها بطله القاتل العابث،ومع أنها اجتهدت في تسجيل رفضها بصرامة وإلى أقصى حد وبلغة ناقمة وخطاب منتقم.. إلا أن خلاصتها وما تنتهي إليه يقول عكس ذلك. إذ لم يستطع هذا المبدأ أن يؤلف نصا مناقضا ومضادا لما تطرحه "الغريب" من أجل تشكيل وتثبيت الحقيقة التي أراد كشفها وتأكيدها.إن رفض داود ونضاله من خلال نصه "مورسو: تحقيق مضاد" لا يكتمل لآنه لا ينتبه مع امتداد السرد إلى أنه يكرر ما كتب كامو وما فعل مورسو..
إذ وفق اختياراته لم يجد داود إلا أن يتبع أسلوب العبث. ربما تأثرا وربما امتثالا للأصل "الغريب" حتى يضمن لنصه السياق ذاته والمناخ ذاته ليكون "فصله الجديد"أكثر اقناعا. لكنه في نهاية المطاف كان اقناعا منحصرا بالجانب الفني دون الجانب الرسالي.
إن خيار "العبث" صنع بطلا "عربيا" يشبه كثيرا "الغريب" نفسه وتحركه قناعات مرسو وكامو. يتجلى ذلك في علاقته بوالدته وحتى بأخيه المقتول. بل يصبح واقع الجزائر في الثلث الأخير من الرواية عربيا محضا،حيث تظهر جزائر ليست إلا لسكانها الأصليين، بينما يتحول مرسو إلى مجرد "فرنسي" أي فرنسي، والمعمرين ظلالا باهتة ضمن واقع غائم بعيد... ومن اليسير أن يلمس القارئ برغم انتقاد داود لكامو وروايته الشديد والقاسي، في بعض الأحيان، أنهما يلتقيان في العمق وفي الجوهر. ما قد يضع كمال داود في قفص الاتهام نفسه(على الأقل من قبل القارئ الفرنسي)فبطل داود لم يستعمل وسائل الحق لفرض الحقيقة وإنما وسائل الظلم والاستعباد. الأمر الذي سيدين "العربي" سيما من فرنسيي اليوم: فالرواية الجديدة تقتل فرنسي وتسميه "فرنسي". و تحت ذات الظروف والتبريرات، وتبدي وتقول الأشياء ذاتها التي وردت بالرواية الأصل. كأن الكاتب رد الضربة بعد أن قلب الوقائع بأن نقلها من "فرنسيتها" إلى "عربيتنا". وتاليا سيجد القارئ الفرنسي نفسه "الفرنسي" المجهول المظلوم ضحية للساكن الأصلي في الجزائر المستقلة. فيما سيرى القارئ الجزائري داود مراوغا/مخادعا، لا يرفض الغريب تماما. هو بالكاد يعترض على ما أتاه وأبداه وقاله.. سيجزم بأن كمال داود غريب شرقي، مورسو جزائري. قام بتعريف "العربي" وصنع له عالما وبلدا وأصلا لكن موحشا سوداويا كارثيا. ما قد يجعلنا نفضل الاكتفاء بما قدمته لنا رواية الغريب التي لم تزد على أن حقرتنا وعبثت بنا. وهذا قد يجعل بعضهم يلحق الكاتب بالقائمة السوداء الشهيرة التي تضم الفرنكوغرافيين الجزائريين الذين يطلبون النجومية بتشويه صورة البلد.

الرجوع إلى الأعلى