في هجاء أخلاق القرية!
ولدت من رحم جبال عذراء بين القل وسكيكدة رواية جديدة للأديب عمر بوذيبة بشخوصها وأشخاصها، حاملة اسم (عبق الأنثى.. رائحة الأرض)؛لتخترق الأرض والنفس والاجتماع، من خلال قصة بطل تائه تلقفته المدينة لاجئا عاطفيا من مأساة ريف عبث بحياة والديه وأحلام شبابه، قبل أن يعود إليه ليشق ترابه ويخترق قلوب عذرائه !، وفي ثنايا ذلك يسوق صورة حية عن باطن مجتمع ريفي غارق في تناقضاته وتضارب مصالح علاقاته الاجتماعية، فعلى الرغم مما يبدي للناظرين من حسن الطبيعة وعذريتها، ونقاوة الضمير وصفاء القلوب ونبل السريرة، إلا أن باطنه تختلجه تناقضات وتتشابك في منعطفاته مضادات وتلتهب في بوتقته نار الحقد والغيرة والحسد والكبرياء والمكر والغدر، تلك الصفات التي أبى الروائي إلا أن يلزم أهل الريف بالاعتراف بها علنا في مشهد شبيه باعترافات سانت أوغسطين والمعري وغايشا وجان جاك روسو، موجهين رسائل غفران، وعلى مرأى مشهد الغفران كان فريد يقف متعجبا، وذهنه شارد بين مدينتين وعطرين ودمين!
عبد الرحمن خلفة
(عبق الأنثى..رائحة الأرض) رواية لبطل واحد دونت على مساحة مائتي صفحة مأساة شاب ينحدر من مجتمع ريفي فلاحي قروي؛ حاول عبثا الهروب نحو المدينة؛ بحثا عن مستقر جديد؛ لكنه برغم طول البقاء وتعاقب السنين جاءه نداء الباطن وصوت الأنا الأعلى ليذكره بأصله الطيني ويلهمه الرجوع إليه؛ بعيدا عن لذات المدينة، وبلاطها، وإسفلت شوارعها ونور مصابيحها المتلألئة في الأرصفة والأحياء؛ ودور سينيماها وفضاءاتها الخضراء وساحاتها العمومية، أصل كان مهده ومرح طفولته بالقوة والفعل، قد لا يجد في الفضاء القديم المتجدد ما سيتركه على عتبات المدينة ولياليها، لكنه فضاء حتمي لا محيد عنه، ففي بوتقته تختصر الأحلام وينغلق فلك القلب على حب مصفح واحد، وإن اعتراه بعض ما يعكر صفوه ويعيق نموه من عواصف ستهب من ذكريات الماضي؛ لأن فريدا عاد مثقلا بماضيين لحاضر واحد،ليبدأ ملحمة تراجيدية يجد فيها نفسه محاصرا في مناخ عسير بين الحب والخيانة، الألم والأمل، الشوق والإحباط، العرق والعطر، الدم والتراب، المدينة والريف، الشرف والندالة، الماضي والحاضر،، ثنائيات في زخم المعاناة تلاقت على قلب شريد وفؤاد طريد معلق بين تربتين، وفتاتين وقتلين.
على غير ما سار عليه مندفعا بنزوات الشباب وأحلام الفتوة يعود فريد أدراجه إلى مسقط رأسه حيث مرتع الطفولة، باحثا عن حضن جده؛ الملاذ الحي الوحيد من بين الأحضان التي تداولت عليه رضيعا وصبيا، لكن روح الجد التي انتظرت قدومه طويلا عجلت بالرحيل قبل اللقاء الأخير، مبقية له أثر جسد كانت تسكنه لما كان اسمه الجد عمار، وجهه غير المألوف حرمه من تلقي تعازي المشيعين لجثمان جده، قبل أن يخترق بعض محياه جدار صمت الوجوه، التي أقبلت عليه بعدئذ، وبإقبالها فتحت له باب الاندماج مجددا في مجتمعه القديم فانخرط في نسيجه يحرث الأرض ويبلل ندى التراب بعرق الجبين، سالكا دروب الأرض التي سلكها جده عمار من قبله؛ وفي ثنايا العلاقة اليومية مع الأرض ينبش كل شبر منها في ذاكرته المتخمة بالجراح؛ فيستحضر مآسيه التي واكبت طفولته؛ لعل أبرزها مشهد وفاة والديه غرقا في بئر القرية على مرأى منه؛ حيث سقطت الأم قبل أن يتبعها الأب محاولا عبثا إنقاذها؛ كل شبر في تلك الأرض يذكرها بمآس دفعت به إلى الفرار والهجرة بعيدا؛ لكن تلك الأرض التي كانت طاردة، هي اليوم أرض مستقطبة لوريث شرعي وحيد لمكية الأجداد ومآثرهم، فريد الذي سار في الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ والعمران البشري، فارتد عن المدينة للريف حاول أن يخلق لنفسه مجتمعا اللذة الذي تركه في مدينة وهران، وقبل تشييد هذا النسيج الاجتماعي الجديد في مجتمع محافظ جعل من أحلام الماضي ومراسلات لالا أم الخير التيميمونية السمراء التي ترك قلبه بين يديها هناك في أزقة وهران ومقاهيها، متنفسا وشرفة ترفيه؛ لقد كانت رسائلها وذكراها ملاذا خياليا يلجأ إليه فريد منتشيا بعطر قادم عبر حروف مكتوبة وأوراق بللتها دموع الشوق والحنين، لكن حياة المخيال لم تدم طويلا، فقد انفتحت عيناه على وجه جديد يعوضه عما فقده هناك في مجتمع المدينة، إنها الألفة التي سرعان ما تتحول إلى حب قروي لوجه من وجوه العذارى التي لم تلطخها مساحيق التمدن المصطنع، والقلوب الطاهرة التي لم تلوثها تجارب العابثين بالمشاعر، العابرين دون اهتمام ذات سمر، وذات سرير.

مجتمع القرية: التمدن الصعب والاختراق الممكن
في ثنايا مسيرة القلب الجديدة سيقف فريد على الواقع المعيش بالريف، بتناقضاته وتشابك علاقاته وتعاقب أحداثه، فالريف ليس بريئا بالضرورة وإن بدا كذلك، وأهله ليسوا طيبين بالدرجة التي تسوق عنهم، ففوق تربة هذه القرية الصغيرة بين القل وسكيكدة، تبين أن جده عمار لم يمت حتف أنفه كما ظل يتوهم بل قتل غدرا في ليلة باردة، تلك الجريمة التي ستكتشف خيوطها بعد سنوات غداة مقتل القبقب في ظروف مشابهة، فوق هذه التربة الريفية البئيسة سيظهر الحسد بين الشقيقات، والدسيسة والربا والظلم والمكر والجشع.إنها أخلاقيات المجتمعات الريفية الزراعية، فقد تبدو طيبة بشكل غير واقعي لكن أصحابها مستعدون منذ الأزل على التقاتل من أجل شبر أرض أو شبر قلب، أليست خطيئة ابني آدم من أجل فتاة وسيمة وزرع بهيج؟
فريد الذي وظف معلوماته في فنون الهندسة الفلاحية ليجعل من مزرعة جده الأنموذج الساحر بين مزارع القرية، ويكون نعم الوريث لشجرة العائلة المتناثرة، فشل في تمدين الريف؛ لأنه لم يندمج كثيرا في المدينة ولم يتماه وصيرورتها، فقد ظل يعيش على مظاهرها؛ بل إنه كثيرا ما ضاق بتراتبيتها؛ لذلك حرص على الحفاظ على نمط حياة الريف والاندماج في أنساقه؛لكن ذلك لم يمنعه من اختراق بعض عاداته وتكسيرها دون ضجيج أو ارتدادات؛ فقد كسر تراتبية الزواج في المجتمعات القروية التي تأبى تزويج الصغيرة مهما أحبت وخطبت حتى تزف الأكبر منها وإن طال الزمن عليها وزحفت العنوسة على سنينها ! بل إن الحب الممنوع هناك أضحى مباحا متاحا، كما نجح في إزاحة الستار الوهمي الذي ظل المجتمع القروي يغطي به خطيئته التي ترتكب في صمت تحت جنح الظلام، ليحافظ على نسق شكلي للعادات والأعراف، فتعرى الكل تحت أشعة الشمس وفي تلال الربوة عن الوجه الآخر الذي سقط عنه القناع في ساحة الغفران وجلسات الاعتراف.
نهاية مفتوحة في طريق دائرة مغلقة!
أبى الروائي بوذيبة إلا أن يبقي روايته مفتوحة على القراءة والتوقع للقارئ والمتلقي؛ فالبطل فريد الذي شق طريق حب في قلب جديد فاجأه الحب الأول قادما على غير موعد، محدثا زلزلا شديدا بهزته وارتداداته، لم يكن حضور لالا الخير ببشرتها السوداء منتظرا، ليس فقط بسبب بعد المسافة وتباين الجهات، ولكن لأن أخبارها انقطعت منذ زمن، ولم تعد رائحتها تعبق في المحيط الجديد الذي انفتحت فيه أزهار جديدة، لقد كانت مفاجأة حقا؛ طبيعي أن يندفع القلب مجددا لاشعوريا لحبيبه الأول متناسيا مستجدات محيطه العاطفي، فالطبع يغلب التطبع عادة، لكنه اندفاع الرمق اللأخير لحب بدأ يحتضر منذ ظهور مريم بأنوثتها وشبابها وواقعيتها في سوق العشق والصباب، لم يكشف الروائي عما دار من حوار بين فريد ومريم في لقائهما الخير بالمستشفى؛ لكن كلماتها تلك أعادت فؤاده لواقعيته الجغرافية والاجتماعية والعاطفية؛ فليس بالضرورة أن تختار من تحب بقدر ما يجب أن تحرص على اختيار من تحبك، وليست العبرة في ارتباط عاطفي عابر قد تلفظه مقتضيات الاجتماع ومنعرجات خارطة المكان؛ ولكن العبرة بارتباط يحقق الاستقرار ويديم العلاقة ويسهم في استمرار الحياة وتوريث تراث الجداد وأملاكهم، فالمدينة التي حلم بها وهاجر إليها ردته على أعقابه إلى حيث أصله ومحيطه الذي يليق به في الحياة، هناك حيث التراب والعرق والحرية والانطلاق بعيدا عن رتابة المدينة وضيق أفقها، ولما لم يكن ممكنا في عادة الريف منذ الأزل الجمع بين الحليب والقهوة ؛ لأن الأول فطري أصيل والثانية مكتسبة دخيلة؛ فلا مناص من الاختيار؛ لذلك ما لبث فريد أن وضع يده على كتف أم الخير وقال لها (لقد اخترت) !  
ع/خ

الرجوع إلى الأعلى