تأثر الرحالة و الكُتاب و الفنانين الفرنسيين بالجزائر   كان كبيرا و واضحا في أعمالهم

• المجتمع الجزائري كانت له ثقافته الخاصة والاستعمار الفرنسي  تسبب في إشاعة التجهيل

في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والباحث حسن دواس، عن كتابه الجديد «ديابوراما رحلية للجزائر الثقافية في القرن التاسع عشر»، الصادر حديثا عن منشورات دار الوطن اليوم. والذي رصد فيه جوانب مختلفة من تاريخ الجزائر الثقافي في هذه الفترة، وهذا من خلال الكِتابات الرحلية الفرنسية، وقد تطرق فيه إلى شتى أنواع وصنوف الثقافة والفنون التي سادت في تِلك الحِقبة. الدكتور حسن دواس، شاعر ومترجم وباحث أكاديمي، ومدير دار أمواج للنشر، ومُشرف على سلسلة «المرايا الذهبية» الخاصة بالترجمة. صدرت له العديد من الكُتب في تخصصات مختلفة. في الشعر: «سفر على أجنحة ملائكية» 1998، «أمواج وشظايا» 2002. وفي أدب الطفل: «أهازيج الفرح/ أناشيد للأطفال» 2000. في الترجمة: «تباريح الحلم الأخضر» للشاعر يوسف وغليسي، ترجمه إلى الإنجليزية. «يا امرأة من ورق التوت» للشاعر الدكتور عبد الله حمادي، ترجمه إلى الإنجليزية. «حكايا السمراء» مختارات من الحكاية الشعبية الأفريقية، منشورات وزارة الثقافة/ الجزائر 2009. كما ترجم بعض الأعمال القصصية للكاتبة والرحالة إيزابيل إبرهاردت من الفرنسية إلى العربية، هي على التوالي: «ياسمينة»، «نحيب اللوز»، منشورات مؤسسة الأروقة للطباعة والنشر والترجمة القاهرة/ مصر 2011. «أميرة الرمل/ مسيرة رحالة ثائرة»، دار أمواج للنشر 2008. وفي الدراسات: «الجزائر في عيون الرحالة الفرنسيين» دراسة سوسيو ثقافية، منشورات البيت 2008.

كتابك «ديابوراما رحلية» الصادر في الآونة الأخيرة، جاء ليقوم بعملية استقراء لثقافة المجتمع الجزائري في فترة وحقبة زمنية بعينها. ما الذي يمكن أن تقوله عن هذا الكتاب/البحث الذي استغرق الكثير من الوقت والجهد؟
حسن دواس: إنّ هذه الديابوراما الثقافية للمجتمع الجزائري من خلال كِتابات الرحالة الفرنسيين، ما هي إلا محاولة للكشف عن بعض مظاهر المجتمع الجزائري، الثقافية والحضارية، من خلالها نستطيع أن ندرك أن المجتمع الجزائري له خلفياته الثقافية وتاريخه وتراثه الحضاري. والمُتصفح لهذه الدراسة البحثية التي بين طيات الكتاب، يمكنه أن يستنتج أن المجتمع الجزائري في تلك الحِقبة كانت له من الإمكانات الذاتية الروحية والعقلية ما يؤهله للنهوض والتطور في جميع مجالات الحياة وهذا باعتراف الكثير من الرحالة الفرنسيين أنفسهم، وأورد هنا ما نقله «ثيري مياغ THIERY-MIEG» في كتابه «ستة أسابيع بإفريقيا» الذي صدر عام 1861، حيث يقول: «لقد أعطيت إشارة الانطلاق، فعالمنا الشائخ والضجِر في حاجة إلى التجدد لتجديد فنونه، وليفعل ذلك فهو بحاجة إلى الشرق. حتى الصناعة التي تسارع إلى أخذ ما يلائمها بدأت في تقليد المنسوجات التونسية والزرابي الجزائرية. ولقد استغلت الموضة البرنوس العربي الذي يستعمل الآن في زينة الفرنسيين والفرنسيات على حد سواء، ومن خلالهم سينتشر في العالم المتحضر. وفي وقت ليس ببعيد سوف لن تأتي آخر الموضات من بريطانيا ولكن من الجزائر. وسيترك العمران العربي بصماته على الفن الفرنسي. هناك منجم لا ينضب من الأصالة والتجديد، والتي ستعمل على إذكاء وإنعاش مخيلتنا المهتلكة، والمعتمة بسبب سمائنا الرمادية وغبار مدننا».
إنّ دخول الفرنسيين للجزائر كان سببا في تدمير البُنى التحتية للمجتمع الجزائري، وبالتالي كان سببا في توطين التخلف والجهل وقد اعترف بهذه الحقيقة الكثير من الدارسين والمفكرين الفرنسيين، فقد صرّح الكاتب «أليكسيس دي توكفيل» أمام المجلس الوطني الفرنسي سنة 1847 بأنّه كان للجزائر حضارتها الخاصة، رغم تخلفها، واعترف قائلا: «إنّنا قد جعلنا المجتمع الإسلامي (الجزائري) أكثر شقاءً وأكثر بربرية مما كان عليه قبل وجودنا».
إنّ تأثر الفرنسيين طبعا، رحالة وكُتابا وفنانين كان كبيرا بالجزائر طبيعة ومجتمعا، أرضا وسماء، وأن هذا التأثر واضح في أعمالهم التي تزخر بنصوص منبهرة بجمال وتفرد هذا البلد. وقد تجلّى هذا بشكل كبير في لوحات الفنانين (دولاكروا، دي لاروش، هوراس وفارني) الذين تأثروا بسحر الجزائر، واستلهموا لوحاتهم منها، بعد أن كانوا يقصدون روما للاستلهام منها. كما إن الكثير من كُتب الرحالة الفرنسيين وغير الفرنسيين تزخر بشذرات رائعة من الأدب الجزائري شِعرا وحكاية وقصة، وعلى الدارسين التنقيب على هذه النصوص التي تُعبـر عن حِقبة مهمة من تاريخنا الثقافي.
من جهة أخرى لم تخلو الدراسات الإثنوغرافية التي خصها الفرنسيون لدراسة المجتمع الجزائري ووصف عاداته وثقافته في القرن التاسع عشر، من الاهتمام بفنون المجتمع الجزائري، كالموسيقى، الرقص، اللباس، الرسم والأدب. وقد تطرقتَ لهذا الموضوع في كتابك. كيف وجدت هذا التناول الأثنوغرافي في هذه الدراسات؟
حسن دواس: هذا صحيح. ومثلما يُعتبر اللباس، أو الرسم والأدب من المظاهر الثقافية التي كثيرا ما يعتمد عليها علماء الأنثروبولوجيا للحكم على الخلفيات الفكرية والعقائدية للمجتمعات. فالموسيقى أيضا، من المظاهر الفكرية والفنية التي تناولتها دراسات الكثير من الرحالة الفرنسيين وبفضلها تعرفوا على المجتمع الجزائري، وهذا ما جاء في الكثير من كتبهم الرحلية.


ولقد أشار مثلا، هودا Houdas في كتابه: «إثنوغرافيا الجزائر» إلى أن الجزائريين لهم إمكانات ضخمة في مجال الإبداع والفن، وبأنّ هذه الفنون ستعرف تطورا مُذهلا في المستقبل، إذ يقول: «الجزائريون بخيالهم المتقد، وذكائهم المتفتح لهم استعدادات هائلة للفنون، خاصة منها الموسيقى والرسم، وستعرف الجزائر في وقت قصير تطورا مذهلا في هذه الفنون التي لا تحتاج إلى كثير من التفكير والدراسات التطبيقية كما هو الحال بالنسبة للنحت والعمران. وهذا النزوع في رؤية الأشياء من خلال الخيال تظهر في كلّ أعمال الجزائريين. وحدود الخيال لديهم لا متناهية حتى أنّه يصعب على الشخص الهادئ والمتزن فهم الأفكار الأصيلة المبتكرة التي تنبع من أذهان الجزائريين».
من المظاهر الثقافية التي أفرزتها القدرات الفكرية والذهنية لدى المجتمع الجزائري، نجد الموسيقى بكلّ أنواعها، وهذا ما تطرقتَ له أيضا باستفاضة في كتابك. كيف ارتبطت الموسيقى عند المجتمع الجزائري، في تلك الحِقبة، وكيف كانت في نظر الرحالة الفرنسيين الذين تناولوها في كُتبهم؟
حسن دواس: لم ترتبط الموسيقى عند المجتمع الجزائري بخاصة الصحراوي بالترفيه والمتعة والرقص، فحسب، ولكنّها اقترنت بوظائف أخرى كذلك، فمثلا ترتبط ارتباطا وثيقا بنمط حياة المجتمع الصحراوي، الذي يعتبر الرحيل والسفر علامة متميزة في حياته البدوية، ومن هذه الوظائف؛ حث القوافل على السير؛ وقد أشار الرحالة «أوجين فرومونثان» في كتابه «صيف في الصحراء» إلى هذه النقطة بقوله: «لم تكن الموسيقى بالنسبة للبدو الرُحل مجرّد وسيلة للرقص وإنّما وسيلة للحث على السير أثناء الرحيل أيضا».
حتى الرحالة «بيار دولونكل Pierre DELONCLE» تحدث عن هذا في كتابه «حياة وعادات الجزائر»: «تعتبر الموسيقى لدى كلّ الجزائريين أحد المُتع التي يعتني بها أهالي شمال إفريقيا حضر، بدو، جبليون، بربر، كلّهم يعشقون الموسيقى والطرب».
أمّا الرحالة سوليي Soleillet فقد راح يثني على جمال إيقاعاتها التي لا يمكن للمرء أن يدرك سحرها من الوهلة الأولى، ليعقد مقارنة بين الموسيقى العربية الجزائرية والموسيقى الأوروبية والاختلاف الواضح بين النوعين، ليشير بأن الموسيقى العربية الجزائرية تعمل على عزل المستمع داخل أحاسيسه الشخصية؛ فيقول: “وأنا أستمع للموسيقى العربية التي أحب كثيرا، تذكرت أنّها بلا سحر عند سماعها للمرة الأولى؛ غير أنّه وبعد التعوّد والتعرف على الذهنية والحياة الشرقية، يكتشف المرء جمال ألحانها وسحر إيقاعاتها الرتيبة التي تدعوك للإبحار والحلم”.
إذا كان بعض الرحالة الفرنسيين قد أنصف فنون هذا الوطن وثقافته وموسيقاه فإن البعض الآخر استهان بها ولم ترق له نغماتها وألحانها معتبرا إياها موسيقى رتيبة مملة مثيرة للأعصاب؛ وأنّها موسيقى ضاحلة تتكون من بعض النوتات لا غير. فما قولك؟
 حسن دواس: هذا صحيح. فكما ذكرت ذلك السيدة لويس ريجيس، في كتابها «رحلة إلى قسنطينة»، إذ تقول ريجيس في هذا الشأن: «في نفس الوقت انبعثت الموسيقى، والمكونة من قصبة وطبل كبير وآخر أصغر، كانت القصبة تتمتم جملة موسيقية حادة جدا؛ كان الإيقاع المبني على وتيرة واحدة متكررة، وهذا ما يؤدي إلى إثارة الأعصاب».
والحقيقة، إن مثل هذه الآراء المتسرعة والأحكام كثيرة لدى الكُتاب الفرنسيين، وقد أشار الباحث عبد الباسط دردور إلى هذه النقطة في مؤلفه حول الأقطار المغاربية بقوله: «إن نظرة بعض الفرنسيين إلى الموسيقى الجزائرية نظرة خاطئة وكثيرا ما تجانب الصواب، إذ يلجأون إلى إطلاق الأحكام الجاهزة من خلال عينة أو عينتين دون دراسة علمية موضوعية دقيقة فالقول بأن الموسيقى الجزائرية ذات تواقيع رتيبة مملة قول أكد عدم صحته الفرنسيون أنفسهم». حيث أكدت (كما يقول الأستاذ عبد الباسط دردور في كتابه أقطار المغرب العربي وتحديات الغزو الثقافي الغربي) أبحاث فنية قام بها موسيقيون فرنسيون تؤكد غنى الموسيقى الجزائرية والمغاربية بتواقيعها وألحانها، وليس كما يظن الكثير بأنّها ترديد لتواقيع مملة. ويروي أحد الباحثين، أن إحدى شركات الحاكي الفرنسية أرسلت مهندسا صوتيا ليسجل لها بعض الأسطوانات لبعض الأغاني الشعبية الجزائرية البحتة، فذهب إلى أعالي جبال القبائل التي ليس لأهلها أية صلة بالأوروبيين ولا بالفنون الأوروبية، واستمع إلى أحد الفلاحين يغني لحنا، فإذا به يشبه الشارلستون، وكان من المؤكد أنّه لحن بربري عريق، وليس له أية صلة بالألحان الحديثة. وسمع موسيقي آخر بنات جزائريات يتغنين بلحن يشبه بعض ألحان موزار فتعجب مما سمع، وبعد الاستقصاء اكتشف بأنها ألحان أصيلة، تضرب بجذورها في أعماق الزمان والمكان.
ومن جهة ظلّ الرقص في دائرة مغلقة من الأحكام والنظرة الضيقة في المجتمع الجزائري، عكس بعض المجتمعات التي انفتحت على كلّ الفنون بما فيها الرقص. ما رأيك؟
حسن دواس: الرقص مصطلح يطلق على لغة متميزة ومعقدة جدا هي لغة الجسد والحركة ويعتبر من بين أهم الفنون الشعبية الفلكلورية التي لا غِنى عنها بالنسبة لعالم الأنثروبولوجيا أو عالم الاجتماع في فهم خصوصية شعب من الشعوب التي يُراد دراستها وهو موروث شعبي ثقافي تـشترك فيه جُل المجتمعات على اختلاف ثقافاتها وتقاليدها وعاداتها وهو في البداية والنهاية وسيلة تعبير شعبية تنطلق من الذاكرة الجماعية للمجتمع وتصب في بحر طموحات هذا المجتمع وطريقة تفكيره.
وفي واحدة من أهم الدراسات الجادة عن الرقص الإفريقي يقول الدكتور «عز الدين إسماعيل» أن ثمة حقائق تاريخية لم يُثر حولها الجدل بين أساتذة علوم الموسيقى والرقص وهي أن الشعوب الإفريقية هي أوّل شعوب العالم معرفة بفنون الرقص والموسيقى، كما أنّها من أصدق الجماعات الإنسانية تعبيرا عن بيئتها الفنية لاسيما فن الرقص، حتى برع الإفريقي -في عصر الصيد- في محاكاة الحيوانات التي كان يصطادها في الغابة وتقليد حركاتها بطريقة تقليدية.
أما عن الرقص في الجزائر، فاختلفت الدراسات حوله، فنجد مثلا الرحالة أوجين فرومونتانFromentin Eugenne، يصف الرقص الجزائري فيقول: «إن الرقصة العربية على عكس، رقصة الجنوب، تعبر برشاقة حقيقية أكثر وبعفاف أكبر وفي لغة إيمائية أدبية للغاية، حكاية عاطفية، مليئة بالتقلبات المفاجئة الرقيقة. تكون الرقصة في البدء بطيئة محتشمة وكأن الحياء الذي يطبع المرأة الجزائرية، وهي تحاول الهرب من النظرات التي تلاحقها، لكن ومع تسارع الإيقاع الموسيقي، تصبح الراقصة أكثر انفعالا، فتتسارع خطواتها، وتشتد حركاتها؛ وتبتدئ تلك الحكاية الغرامية بينها وبين عشيقها غير المرئي، والذي يحدثها عن طريق نغمات الناي. كلّ هذه الحركات تستمر إلى غاية توقف الموسيقى التي تتعب قبل تعب الراقصة».
لكن من الملاحظ أن العربي لا يحبذ الرقص رغم حبّه له وذلك لذهنية العربي عموما، إذ يفضل أن يتمتع برقص الآخر على أن يرقص بنفسه، لأنه يعتقد أن الرقص ينقص من هيبة ووقار الشخص، وفي هذا الصدد تقول الكاتبة «بولين نوارفونتان»: «العرب لا يحبون ممارسة الرقص، إنّهم يحبون الرقص ولكنّهم لا يرقصون، فيجيؤون براقصين للرقص أمامهم، ويدفعون لهم ثمن رقصاتهم، وذلك لأنّهم يعتقدون بأنّ هذا أليق وانسب للحفاظ على وقارهم».

حاورته/نوارة لحرش

الرجوع إلى الأعلى