النقد الأكاديمي تراجع في الجزائر والنقد الصحفي تطغى عليه المجاملات
في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والروائي والناقد والمترجم الدكتور السعيد بوطاجين، عن النقد الأكاديمي والصحفي، و يرى أنهما يتماسان أحيانا ويختلفان. كما يتحدث عن علاقة الناقد بالإبداع، وعن غياب المجلات الثقافية والأدبية في الجزائر، وعن واقع الترجمة، ومخابر البحث في الجامعات الجزائرية. للكاتب العديد من المؤلفات في النقد والأدب والترجمة، ففي النقد مثلا، نذكر: «السرد ووهم المرجع/ مقاربات في النص السردي الجزائري الحديث»، «الترجمة والمصطلح/ دراسة في إشكالية ترجمة المصطلح النقدي الجديد». وفي الأدب: «ما حدث لي غدا»، «وفاة الرجل الميت»، «اللعنة عليكم جميعا»، «حذائي وجواربي وأنتم»، «أعوذ بالله». وفي الترجمات: «الانطباع الأخير» لمالك حداد، «نجمة» لكاتب ياسين، «أدين بكلّ شيء للنسيان» لمليكة مقدم، وغيرها من الكُتب في النقد والأدب والترجمة.

هل هناك نقد أدبي أكاديمي في الجزائر؟ وما خصوصياته ومستويات تلقيه، وتداوله وحضوره في تماسه مع النص الإبداعي الجزائري؟

السعيد بوطاجين: النقد الصحفي والأكاديمي يتماسان أحيانا ويختلفان، وهذا لا يضر بالممارسة النقدية بقدر ما يثريها. ربما اختلفت الأدوات الإجرائية وطبيعة المقاربات لأسباب لها مسوغاتها المرجعية وغائياتها. بيد أن وجودهما ضروري رغم تأسيسهما على مقاصد مختلفة. وقد تكون غير علمية وغير منزهة من الزلل إن ارتبطت بالظرف وعملت على تكريس موقف لا علاقة له بالقضايا الفنية. وذاك ما يحصل في السنين الأخيرة. لقد تبوأت الآراء الذاتية وتراجع النقد الأكاديمي بمفهومه الجامعي.

لوبيهات أدبية تقنن الساحة الثقافية الجزائرية


لا يمكن المغامرة بتقديم موقف علمي تفاديا لمتاعب التهميش والتكتلات، وتلك حقيقة مغيبة، مع أنّها كاسحة. هناك نُقاد انسحبوا من المشهد أو أصبحوا يهتمون أكثر بالآداب الوافدة. أو أنهم لجأوا إلى القراءات الواصفة التي تتوقف عند عتبة العرض، ليس إلا. أما التقييم، بمستوياته المركبة فقد أوشك على الإنمحاء الكلي بفعل هيمنة مجموعة من اللوبيهات الأدبية التي تقنن الساحة الثقافية الجزائرية. وقد يسهم هذا الواقع في ترسيخ نوع من المرجعيات الزائفة التي ستكون المعيار الفني الوحيد الذي وجب تزكيته. ذاك ما حققناه في العشرية الأخيرة.

لا يمكن تقديم الدعم الكامل
لفريق لا يعرف أبجديات كرة القدم وإغفال العقل


هل صحيح ما يقوله أهل الإبداع من أن النُقاد غير آبهين بتحولات النص الإبداعي الجزائري، وغير منتبهين له؟. وإذا كان هذا صحيحا، لماذا هذا التعالي من النُقاد على المنتوج الأدبي؟
السعيد بوطاجين: لا أعتقد أن النقد سيسترجع سلطته بالنظر إلى ما يحصل حاليا. من هنا وجب التمييز بين استعلائية النقد وبين انسحابه من المشهد. هناك في البلد كفاءات عالية لا تريد المغامرة في حقل غير محمود العواقب، وهي إذ تتخذ هذا الموقف الذي يبدو انهزاميا، فلأنه، بالنسبة إليها، المنقذ الوحيد من البؤر المتأزمة. لا يمكن القفز في النار بغباء، بروح دونكيشوتية لا تعرف مكونات الحاضر النقدي والأدبي. ثمة دائما حدود للمغامرة، مهما كانت أهدافها العلمية. هناك من يقرأون كثيرا ويمتنعون عن الكتابة، سواء بالإيجاب أم بالسلب، وقد يكونون محقين في جهة ما. لا يوجد مناخ للتعبير عن المواقف الأكاديمية العارفة بشؤون الفن. وإذا حدث ذلك لاحقا فإنّه سيتسبب في تخريب عدة صور ومعايير، لكن الأمر يبدو متعذرا الآن، إن لم يكن مستحيلا. الظاهر أن النقد المحترف سيتراجع أكثر فأكثر أمام الممنوعات الجديدة. هناك طابوهات تتكاثر، وليس من السهل الإشارة إليها. قد يبدو الأمر سرياليا، لكنه حادث. إنني أنظر إلى الآفاق النقدية بكثير من التشاؤم المبني على معاينات وحيثيات، وأكاد أجزم بأن النقد غير ضروري لأعمالنا الإبداعية من حيث إنّها مكتفية بذاتها، وبما يكتب عنها من مجاملات، رغم أن هناك أعمالا مهمة تستحق التنويه بقيمتها الكبيرة التي تُشرف أدبنا، وحتى في هذه الحال فإن الناقد لا يضمن شيئا أمام خطر التكتلات المبرمجة. وتلك مشكلة حقيقية لا يمكن تخطيها إلا بتصويب جذري للعلاقة الافتراضية بين النقد والأدب.

 


كيف ترى علاقة الناقد بالإبداع في السنوات الأخيرة، خاصة وأن هناك الكثير من النقد الذي يتناول شخص الكاتب بعيدا عن النص كمتن إبداعي قابل للنقد والمقاربة. فهل انحرف النقد عن مهمته ورسالته وسكته؟

الترجمة في الجزائر.. جهد أفراد
لا تتبناه المؤسسات


السعيد بوطاجين: علاقة الناقد بالإبداع، كما في الأعراف، لا تتعدى المنجز الذي يتعامل معه، في بناه وتراكيبه ونحوه ومعجمه وجمالياته، وكيف قال ما قاله. أما مهمته الأساسية فتكمن في ترقية هذا الإبداع بالتنبيه إلى خصوصياته، إيجابية كانت أم سلبية. ما عدا إن تعاملنا مع المقاربات اللسانية البنيوية التي تؤسس على الوصف، دون أي تقييم للمادة السردية أو الشعرية، بالنظر إلى القيود التي وضعتها بعض المناهج الجديدة التي وجب مراجعتها. في حين قد يهتم الإبداع بمسار الأشخاص والشخصيات، كواقع أو كمتخيل، كما في القصيدة الهجائية، وكما في النثر الذي يُعنى بالتاريخ، وبالواقع كذلك، سواء في إطار رمزي أو تقريري. وقد حدث في بعض النصوص أن نقل الكتَاب حياة أفراد وجماعات وأحزاب.
أما أن يهتم النقد بالأشخاص فذاك تجاوز لحدوده من حيث إن الكاتب ليس نصا، شأنه شأن الشاعر والمسرحي والرسام، وإذا حدث أن وقع أمر كهذا، وقد حصل فعلا، سواء في السبعينيات أو بعدها، فمعناه أن هناك خللا في فهم وظيفة النقد برمتها. أي أننا نكون قد انتقلنا من جغرافية النقد الأكاديمي إلى حقل آخر لا علاقة له بالنقد المتعارف عليه عالميا.
لا توجد أكاديميات في هذا الشأن، وليس من تقاليدها الخروج عن الحدود المرسومة لها من قِبل المناهج مجتمعة، التحليل النفسي أو الاجتماعي أو الدلالي أو الأسلوبي أو غيرها من المناهج. مع الإشارة إلى بعض التجاوزات التي حصلت في التحليل النفسي للنصوص، أو في التحليل الاجتماعي، أو في مقاربات انطلقت من الانطباعات والمواقف الأيديولوجية والدينية.  قد تحصل خروقات ليست لها مسوَغات علمية، ومن ثم ضرورة تجاوزها، لأنها لا تنتمي إلى النقد، بل إنها تحط من قيمته وأخلاقه. حتى النص الذي نتعامل معه نقديا يجب أن نحترمه لأنه جهد له مبرراته، أما النقد الموجه له فليس سوى تنبيه إلى الزلل، من تموقع عيني وفي سياق حصري. ذلك أن المواقف متغيرة، كما الذائقة، ما عدا ما ارتبط بمسائل لا يمكن أن تكون إلا كذلك. مع ذلك يجب أن نشير إلى تجاوزات الكتاب في حق النقاد، وليس في حق النقد كآلية علمية، ويمكننا مراجعة ما ينشر أحيانا على صفحات التواصل الاجتماعي من تعليقات فجة مليئة بالأخطاء النحوية والإملائية، وبمطبات بنائية وأسلوبية غير مقبولة. خاصة عندما تأتي من كتَاب مكرسين وطنيا وعربيا. وما يمكن قراءته على صفحات التواصل الاجتماعي هو ما يتم تداوله في الشارع.
أعتقد أنه من المهم أن يلتزم كل منهما حدوده.

تشتغل أيضا في حقل الترجمة. كيف هو واقع وحال وحركة الترجمة في الجزائر؟، في ظل غياب إستراتيجية ثقافية ومؤسساتية في هذا الشأن، وأيضا غياب مؤسسات مهتمة ترعى الترجمة وتدفع بها إلى الحركية والتطور والاحترافية أكثـر؟
السعيد بوطاجين: سؤال الترجمة يظلّ، من منظوري، قابلا لأن يطرح من زوايا متباينة، ومنها المقصدية التي يجب أن تتبوّأ الأسئلة مجتمعة. لم يعد من المهمّ تناول الفكرة معزولة عن المعرفة برمّتها، وما يعلق بهذه المعرفة من تراكمات وعلاقات. يمكننا الإشارة، على سبيل التمثيل، إلى فكرتي التجسير والمثاقفة، وهما قضيتان مطروحتان في النظريات الثقافية الجديدة بشكل لافت. أجد المسألة شائكة أحيانا بالنظر إلى طبيعة رؤيتنا للترجمة وفهمنا لها في غياب شبه كلّي لمنظومة واضحة المعالم. إنّنا نستورد حاليا ترجمات بمقدورنا إنجازها بأقلّ تكلفة ممكنة، بيد أنّ مؤسساتنا لا تملك بُعد النظر، وقد تملك هذا البعد ولكنّها لا تبادر لأسباب مركبة. ومنها التقاليد الترجمية، وهي مرتبطة بالكفاءة والنشر والمبادرة والتسيير، أي بالفعل الثقافي في نهاية الأمر، وبالأموال كذلك.من العبث إذن عزل الترجمة عن الفعل الثقافي. إذ كلّما تمّت تقوية الثقافة تمّ تأثيثها بمعارف محلية أو غيرية. وعادة ما يحتاج منتوج الآخر إلى لغة ثانية أو ثالثة. وهذا أمر بديهيّ تماما. وحتّى يتمّ تحقيق ذلك وجب إشراك عدّة جهات معنية. إنّه لمن الخطأ الاعتقاد بأنّ وزارة الثقافة هيّ الجهة الوحيدة التي بمقدورها إنجاز المهمة. ثمّة وزارات كثيرة يمكن أن تسهم في ذلك. كلّ الوزارات والشركات والمؤسسات ودور النشر ورئاسة الحكومة. لا يمكن تقديم الدعم الكامل لفريق لا يعرف أبجديات كرة القدم ونغفل العقل. أو كلّ ما له علاقة بالفعل الحضاري.
إنّ لاعبا محترفا يتقاضى في السنة الواحدة ما لا يتقاضاه باحث في ثلاثة قرون وعشر سنوات. وتلك حقيقة. أمّا الترجمة في الجزائر فتأتي في المرتبة ما بعد الأخيرة. ولذا لا يهتمّ بها المعنيون. ما عدا تلك الجهود المبذولة من قِبل أفراد لهم قناعاتهم وهواياتهم.

ما يتقاضاه لاعب محترف  في سنة
لا يتقاضاه باحث  في ثلاثة قرون
وعشر سنوات


يمكننا الإشارة في هذا السياق إلى واجبات المترجم وحقوقه التي لا يرعاها أيّ قانون. خاصة عندما يتعلق الأمر بالذين لا يعرفون الميدان جيدا. دور النشر ليست دائما نزيهة في تعاملها، دون أية خلفيات، ودون تعميم بطبيعة الحال. وهي ذاتها تجد صعوبات في التمويل وفي شراء حقوق الترجمة، المكلفة في حالات كثيرة. أي أنّها تتفادى المغامرة تحسبا للخسارات، ولها كلّ الحق في ذلك ما دامت مرتبطة بمصالحها المادية. ومع ذلك فهناك مبادرات طيّبة هنا وهناك، ما يشبه القفز إلى الإفلاس طوعا.
لنتصارح ولو مرّة واحدة: يتقاضى بعض الفاشلين في كرة القدم ما قيمته خمسين مليونا في ساعة واحدة من اللعب. أمّا المترجم الذي ينقل كِتابا من لغة إلى أخرى في ظرف سنة فيتقاضى ما بين عشرة ملايين وعشرين مليونا، إن كان الكِتاب من مائتي إلى ثلاثمائة صفحة، على الأقل، وإن كان محظوظا مع الناشر الذي له حساباته وأخلاقه. وهذه صراحة جزئية يمكن أن تُضاف إلى أزمة الترجمة في البلد.
هل تكفي الجهود الفردية في غياب شبه كلّي للمؤسسات والمخابر المتخصصة؟ وهل من حلول لمعالجة القضية؟
السعيد بوطاجين: أزعم أنّ علينا معالجة القضية من عدة تموقعات، ومنها موقفنا من الثقافة في حدّ ذاتها. أتساءل عمّا إذا كانت المؤسسات وأشباه المؤسسات قادرة على تمويل مشاريع كروية تعيسة، في حين تدّعي القلّة والبؤس عندما يتعلق الأمر بدعم كِتاب واحد في السنة قد لا يكلّفها شيئا. الشيء ذاته بالنسبة للولايات ومديريات الثقافة والشركات المختلفة التي تتغذى بأموال الدولة الجزائرية. هذا الموقف العام من العقل هو الذي عرقل كلّ شيء، وليست الترجمة سوى ضحية من ضحاياه. أضف إلى هذا ما تعلق بالقراءة وبؤسها. نحن لا نقرأ ما هو مترجم، ولا ما كتب بلغتنا، في الجامعة وخارجها، لذا لا يمكن أن نتوقع من الناشرين القيام بمشاريع خاسرة مسبقا. ليس من العدل تحميلهم ما لا طاقة لهم به في غياب تقاليد القراءة والجدل. ثمة تعقيدات كثيرة وجب تفكيكها إن كنا بحاجة إلى الحديث عن الترجمة. هل هي مهمة أم لا؟ ماذا نترجم ولماذا وكيف؟ ماذا نريد من الترجمة؟ ما دور الأفراد والمخابر والمؤسسات والجامعات والوزارات ودور النشر والهيئات؟ مع ذلك فهناك بعض الجهود المحترمة التي يجب التنويه بها، وهي كثيرة وفاضلة وإستراتيجية، مع أنّها ليست كافية حاليا إن نحن قارنّا أعمالنا بأعمال الآخرين، لأنّ ما نترجمه حاليا لا يقارن أصلا بما تقوم به جامعة واحدة في بعض البلدان الأوروبية. الأمر لا يدعو إلى الانسحاب ما دامت هناك مبادرات من قِبل بعض الجهات التي ما زالت تهتمّ بالترجمة في حدود قدراتها، لكننا نطمح إلى الأفضل، خاصة عندما يصبح للمترجم دوره الواضح في المنظومة القانونية.
ما هو دور مخابر ومراكز ومؤسسات البحث العلمي على مستوى الجامعات في الجزائر، كيف هو واقعها ومستوى الأداء؟ وهل بالموازاة مع تزايد عددها الملحوظ كلّ عام، يمكن الإقرار بوجود تطور وجودة في ما تقوم به وما تقدمه للحياة البحثية والعلمية والإنسانية والثقافية وغيرها من مجالات الحياة والعلم والعلوم؟
السعيد بوطاجين: الحديث عن المخابر، مهما كانت، يتضمن بالضرورة الإشارة إلى البحث العلمي بمفهومه المتعارف عليه دوليا. من المفترض، منطقيا وموضوعيا، أن تكون مثل هذه الهيئات مؤطرة، ولها خطة ومقاصد ووسائل وكفاءات فاعلة تضمن استمراريتها، وقبل هذا جودتها.
والواقع أن كثيرا من المخابر لا تحمل هذه المواصفات من حيث إنها وجدت لتقوم بوظائف ترقيعية لا علاقة لها بالبحث. هناك غلبة، في كثير من الحالات، لخطاب غير أكاديمي، وذلك ما تنوي تحقيقه بعض الجهات لتغطية فراغات صادمة يمكن أن تعالج موضوعيا.
يجب الحديث، في هذا السياق، عن مسألة جوهرية يتعذر تجاوزها لأنها تثير عدة أسئلة: تتعلق هذه المسألة بالميزانية التي توفرها الوصاية. ما تحصل عليه بعض المخابر الجزائرية خلال سنة كاملة، حسب علمي، هو ما يحصل عليه لاعب واحد في فريق فاشل خلال نصف شهر. وعلينا أن نتصور أن المخبر الواحد قد يضم عدة فرق، وكلّ فرقة تضم عدة باحثين، ومنهم من هو بدرجة أستاذ التعليم العالي، أي بروفيسور.


ثم إن هؤلاء الباحثين المفترضين المنتمين لهذه المخابر لا يتقاضون دينارا واحدا نظير ما يبذلونه من جهد، كالتحكيم والتنظيم والنشر وتقديم المحاضرات، وهذا واقع لا يحق لأي كان إغفاله، وهناك باحثون لا يستفيدون من أي تعويض، مهما كان نوعه، ماديا أو معنويا، بما في ذلك ما ارتبط بتنظيم الملتقيات والمحاضرات الوطنية والدولية، ما عدا ورقة مكتوب عليها: «شهادة مشاركة».
يبدو الأمر سرياليا، وضربا من العبث المعلن في ظل المفاضلات المهيمنة وطنيا. لا يمكن أن يعيش مخبر بفتات لا يؤهله للقيام بنشاطات متخصصة، كطبع المجلات وإصدار الكُتب واستضافة المحاضرين، وتكريمهم في حدود الإمكان. اللاعبون ليسوا أفضل من العقول عندما تخصص لهم ميزانية خرافية من أموال الريع. لقد ظللنا نخفي هذا الواقع بخطاب مبني على الاستغفال بحثا عن تحقيق مآرب لا علاقة لها بالأكاديميات، إلى درجة أصبح فيها هذا الخطاب جوهرا بحلوله محل البحث، أي بتغطية ما تعيشه المخابر الجزائرية من بؤس وفقر وفوضى.

لا يوجد مناخ للتعبير  عن المواقف  الأكاديمية  العارفة بشؤون الفن


أتصوّر أنّ هذه المخابر، بقضها وقضيضها، ليست سوى طريقة ذكية لها قدرة عجيبة على الاستخفاف بكلّ ما له علاقة بالعقل. كيف يمكن لفريق متخصص في إنتاج الفوضى والفشل والعنف والانحراف أن يحصل على أموال خرافية، في حين تعيش المخابر حالة من التعاسة.
لا يمكن أن نستسيغ، إن أردنا أن نكون واقعيين ومنطقيين، فكرة إغداق الفرق الفاشلة بالأموال والتكريمات وتوفير لها سكنات فاخرة، وكل ما تحتاج إليه من بذخ وبهرجة، ثم نجعل البحث العلمي في المرتبة ما بعد الأخيرة، شيئا زائدا لا يستحق الذكر إلا عندما نريد تسييس الفعل الأكاديمي البحت.
إن الميزانية التي تُمنح لكثير من المخابر قد تكون كافية لشراء الكراسي والطاولات والمكاتب والورق. ليس إلاَ. لكني أعرف مخابر لا تملك مقرات تضع فيها هذا الأثاث، وهناك مخابر استفادت من أقبية ومستودعات رطبة لا تليق بالمجرمين، هذا الأثاث وحده لا يفكر ولا ينتج بمعزل عن المحفزات الأخرى، وهي كثيرة كما ورد في نصوص وقرارات وزارة التعليم العالي.
قد تكون فكرة إنشاء المخابر على مستوى الجامعة أمرا مهمَا، وهي مبادرة تستحق كلّ الامتنان، بيد أن الظروف العامة المحيطة بالمخابر لا تساعد على النشاط لأنّها مهينة في أغلب الأحيان، وقاسية جدا. ثمة إشكالية يجب الإشارة إليها: عندما يبدأ التفكير في البحث يدخل البلد كله في ضائقة مالية، وعندما يبدأ الحديث عن كرة القدم تمطر السماء أموالا وتنبت الأرض عملة صعبة وتغدو البلاد في نعمة لا مثيل لها في تاريخ المجرات.ما بين المخابر والملاعب مسافة، وإذا ظللنا نحتكم إلى هذا المنطق فمن العبث الحديث عن بحث أكاديمي على كافة الأصعدة. التطوع وحده لا يخلق باحثين مكرسين يساهمون في ترقية الجامعة، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى أي تدليل كيما نثبت صحته. علينا أن نقارن، وهذا أضعف الأيمان.
الحديث عن مخابر البحث، يحيلنا إلى التساؤل عن غياب المجلات. لماذا برأيك تفتقر الجزائر إلى مجلات أدبية وثقافية وأكاديمية؟
السعيد بوطاجين: المجلات، من منظوري، سمة حضارية تعكس وجه البلد، ولو جزئيا، وهي ضرورية في حياتنا العلمية وفي الحياة العامة، وهذا أمر متفق عليه منذ عشرات السنين. ليس من المهم الحديث عن دورها في ترقية الثقافة والسلوك، لأنّ ذلك من باب التكرار وشرح الماء بالماء. أظنّ أنّ افتقارنا إلى هذه المجلات، وإلى جزء مهمّ من طرائق تكريس تقاليد المطالعة، يرجع إلى عوامل مركبة ومتداخلة، وقد يتعذر الفصل بينها بالنظر إلى تكاملها. إن لم تكن، في جوهرها، أمرا واحدا قابلا للتجزيء. هناك أوّلا مسألة المقروئية: يجب الإقرار بأن القراءة في البلد متدنية جدا، وللتمثيل على ذلك يمكن أن نأخذ الجامعة الجزائرية عينة مثالية تعكس الوجه الشاحب للكِتاب عامة، دون الحديث عن المجلات. «سكان الجامعة» غير معنيين بالمطالعة نظرا لأسباب كثيرة مرتبطة بالوضع العام، وبالجانب الذرائعي المباشر. حيث توجد المنفعة الآنية التي تفيد تحقيق شيء له علاقة بالشهادة أو بالرتبة، لا غير. وأتساءل في هذا السياق عن غياب الإحصائيات، ومن ثمّ الاستمرار في التأسيس للأحكام على الفراغ. إذا كان الطلبة غير مستعدين لقراءة مؤلف في المكتبة، ومجانا، فإنّ الاهتمام بشراء مجلة سيكون في المرتبة ما بعد الأخيرة من انشغالاتهم. لا يمكن في هذا الوضع المتردي الحديث عن التفكير في مجلات ما دمنا لا نقرأ الكُتب المجانية. تبدو المسألة منطقية من هذه الناحية. وليس من باب الحكمة تبديد الجهد من أجل تكديس مادة غير مرغوب فيها، ما عدا مجلات الطرب وكرة القدم، مع أني لا أملك شيئا دقيقا بشأنهما. مع ذلك فإن جامعاتنا تصدر مجلات أكاديمية راقية، لكنّها غير مقروءة في الغالب، إضافة إلى انحسارها في جهات محدودة بسبب الكمية، أو بسبب محدودية التوزيع في كل أرجاء الوطن. تضاف إليها المجلات الكثيرة ذات التخصصات المختلفة، وهي موجودة في أغلب الولايات. لكني لا أملك فكرة عن السحب والمبيعات. أمّا إن كنّا نقصد مجلات بحجم المجلات العربية المكرسة، فتلك مسألة ترتبط أساسا بعدة هيئات ومؤسسات، بداية بوزارة الثقافة، مرورا بالمخابر والشركات والجمعيات ومختلف الوزارات وما يمكن أن يقدمه رجال الأعمال، كما في المشرق والخليج، وهذا مستبعد في ظل الفهم الحالي للثقافة ودورها في تنشئة الأمة. تبدو المسألة ها هنا شبه سريالية، لأنّه من المستبعد أن يضحي الناس بأموالهم خدمة للأدب والفكر والدين، تلك آخر انشغالاتهم. ثمّ ماذا نفعل بمجلات لا تقرأ؟ ذلك هو السؤال.  

حاورته/ نــوّارة لحــرش

الرجوع إلى الأعلى