الفنانة باية لم تكن أمية والصحافة الاستعمارية روجت حولها الأساطير
أكدت الباحثة والمؤرخة أنيسة بوعياد في حوار خصت به النصر، بأن الفنانة الجزائرية الراحلة فاطمة حداد، المعروفة فنيا باسم “باية” لم تكن أمية، بل كانت تجيد الكتابة والقراءة بعكس الفكرة التي ظلت راسخة في أذهان الكثيرين حولها، كما تحدثت أيضا عن الأساطير والخرافات التي روجتها الصحافة الاستعمارية حول حياتها، بعد ظهورها في الساحة الفنية الفرنسية خلال أربعينيات القرن الماضي كظاهرة خاصة لم تشهد الجزائر لها مثيلا ، ما جعلها محط اهتمام من الكثير من النقاد والكتاب الكبار، على غرار أندري بريتون وبيكاسو وألبير كامي وجان سيناك وغيرهم. النصر التقت بالمؤرخة أنيسة بوعياد، التي تعمل بمركز البحث في العلوم الاجتماعية الخاصة بالعوالم الإفريقية والأمريكية والآسيوية بجامعة ديدرو بباريس، على هامش الندوة المنظمة بجامعة عبد الحميد مهري بقسنطينة حول النساء الجزائريات الرائدات، حيث تطرقت الباحثة إلى عدة عناصر من المشوار الفني والخاص لباية، وخصوصا إلى سعيها لتحطيم التصورات النمطية التي ظلت تلاحق فاطمة حداد والنابعة من فكرة أنها لم تكن ناضجة فنيا.  

_النصر: كيف انطلقت في بحثك حول الفنانة فاطمة حداد؟
_أنيسة بوعياد: لقد انطلقت في بحثي من وثائق أرشيفية منحها الأشخاص الذين قاموا برعاية باية منذ اليوم الأول الذي استقبلوها فيه، وأهم هؤلاء مارغريت كامينا، أمها بالتبني التي كتبت لها باية الكثير من الرسائل وبفضلها هي اليوم موجودة. هنالك رسائل أخرى موجهة إلى ميريل دوميزونسول، ابنة أخت مارغريت كامينا وزوجة جان دوميزونسول، الذي ظل على رأس متحف الفنون الجميلة بالجزائر، منذ الاستقلال إلى غاية تقاعده في سنة 1976.
وشكل هؤلاء الأشخاص المحيط الذي عاشت فيه باية داخل عائلة بديلة، وبما أنهم كانوا مثقفين جدا ومنخرطين في مجال الفنون الجميلة، فقد قدموا دعما مقربا ومباشرا لها، وهم من قاموا أيضا بإيداع هذا الأرشيف المهم الذي يضم كل ما له علاقة بباية. أنا لم أطلع إلا على الجزء المتاح منه فقط.


_إذن فباية لم تكن أمية كما يقال؟
_لا أبدا، كما أنه من المؤثر جدا قراءة تلك الرسائل، بعد أن روج كثيرا لهذه الفكرة الخاطئة، فضلا عن أنها ستسمح لنا بإعادة بناء مسار حياتها بشكل أفضل، خصوصا إذا ما استعنا بجميع الوثائق الأخرى التي تخصها، على غرار المقالات الصحفية التي جمعتها مارغريت كامينا ورتبتها بشكل احترافي بفضل تخصصها في مجال التوثيق، كما أنها تابعت كل ما يقال أو يُكتب عن باية.
ومن خلال كل هذا قررت العمل على “أسطورة باية”، أي كل الأكاذيب والقصص الخرافية التي حيكت حولها وحول حياتها. لكن هنالك بعض العناصر الأخرى التي ما زلت أحتاج إليها.
_ما هي -في نظرك- الخلفية وراء الترويج لما أسميته بـ”أسطورة باية” من طرف وسائل الإعلام الاستعمارية، بما فيها التي كانت محسوبة على التيار التقدمي؟
_تعكس أسطورة باية إرادة لإظهار أنها ظاهرة خاصة، ومروجوها سعوا إلى خلق صورة الشخص الذي يخرج من الطبقة المعدمة إلى النور مباشرة، خصوصا وأن باية لم تكن تملك أي رصيد ثقافي مسبق، لذلك اعتُبرت موهبتها أمرا إعجازيا، وأنا أعتقد بأنه من المهم جدا أخذ الظروف التاريخية التي عاشت فيها الفنانة منذ سنة 1942 بعين الاعتبار، لأنها المرحلة التي سبقت مباشرة ظهور ما يعرف بـ”موجة إنهاء الاستعمار”.
ومصطلح إنهاء الاستعمار متداول كثيرا في فرنسا كما في الجزائر، ولكن التخلص من الاستعمار لم يتم في الجزائر بشكل سلمي، فقد عاش سكان هذا البلد حربا تحريرية استمرت سبع سنوات. رغم ذلك يمكننا ملاحظة بوادر التحرك نحو التخلص من الاستعمار بين سنتي 1942 و1943، ما سمح لأشخاص أكثر تفتحا مقارنة ببقية المستعمرين بالتفكير بأن الجزائريين الذي يعيشون هنا يمكن أن يمتلكوا هم أيضا مواهب إبداعية في مجالات مختلفة بالاعتماد على موروثهم الثقافي، واستغلال الفنون الشعبية والتقليدية وأنواع أخرى من الممارسات الخاصة بهم، التي لا ينقصها الجانب الإبداعي وهي غنية أيضا، على غرار الوشم.


_يمكن القول إذن بأن لعائلتها بالتبني فضل كبير في صقل موهبتها؟
_نعم إلى حد ما، فباية تعتبر وريثة لهذه الثقافة الجزائرية، لكنها تمكنت من تقديم مجموعة أعمال فنية عصرية، لأنها حظيت بفرصة التواجد داخل محيط يعطي قيمة للفن المعاصر. وربما كانت لتكون مجرد عاملة نظافة أو صانعة حلي أو لتمارس أي عمل آخر، لو عاشت مع عائلة أوروبية أخرى، وربما ما كانت لتطور موهبتها الطبيعية أبدا. لذلك أرى بأنها حظيت بفرصة جيدة مع العائلة الجديدة التي قامت بتبنيها، كما أنها عرفت كيف تسايرهم في نفس المنحى، فقد كانوا مرشدين لها أيضا.
_لكن هل يعني كلامك بأن هذه العائلة كانت تسير باية وتملي عليها أعمالها الفنية؟
_في الحقيقة، ذهب الكثير من النقاد إلى القول –بسبب هذا الإرشاد الذي وجدته من العائلة المذكورة- بأن باية لم تكن تملك هامشا كبيرا للمناورة وكانت مسيرة من طرفهم في ما تقوم به، وهم يسمون هذا بـ”الفن المسير”، ويعتبرون بأنها لم تكن هي من تقوم بخلق لوحاتها، ولكني لا أؤيد طرحهم، فلو كان ما يقولونه صحيحا، لما كانت فاطمة حداد هي باية التي عرفناها إلى غاية وفاتها، ولما كانت تلك المرأة التي عادت إلى المجال الفني مع نهاية سنة 1961 بعد انقطاع لمدة عشر سنوات، لتثبت بأن الفن يمثل بالنسبة لها مجالا مهما جدا في حياتها.
_ألا يعود توقفها عن العطاء الفني إلى زواجها بمؤدي الموسيقى الأندلسية محي الدين؟
_لا يمكنني أن أتحدث إلا من خلال ما وجدته في الأرشيف. لكن المؤكد أنها توقفت عن الإبداع لمدة عشر سنوات، وأنجبت أطفالا خلال هذه المرحلة، كما عاشت في محيط يوجد فيه أطفال آخرون وزوجتان، وبعلها كان موسيقيا يحظى باحترام وحب الجميع، كما كان يملك دكانا بجانب منزله، ويمكن أن نتخيل هذا الجو العائلي الذي عاشت فيه، وهو في الحقيقة لم يكن جوا مشجعا على الإبداع.
ويجب التنبيه أيضا بأن مرحلة دخولها الحياة الزوجية تزامنت مع حرب التحرير، ولا أريد أن أبدو وكأني أقول بأنها كانت مناضلة، فهي لم تكن يوما كذلك، ولكنها مع ذلك انخرطت في الحس العام بما يحدث في تلك المرحلة، من خلال موقعها كأم، وربما تكون كذلك قد توقفت لفقدانها الإحساس بالدعم فضلا عن عدم قدرتها على تقديم إنتاج جمالي في ظل الحرب، فالتواصل مع الفنانين أصبح صعبا جدا آنذاك، كما أن جميع فاعلي الساحة الفنية الذين قدموا لها المساعدة لم يعودوا موجودين، ولهذا لم تجد من تعتمد عليهم.

وأنا أرى أيضا بأنه يجب أن أتوجه إلى عائلتها من أجل مطابقة الأرشيف، فباية ربطت الاتصال بعائلة مارغريت مجددا بعد أن قررت العودة إلى الرسم، وهم من قاموا بتوفير أدوات الرسم لها، بعدما لم تكن متوفرة في الجزائر مع نهاية حرب التحرير، فالمطابع لم تعد تعمل.
ولذلك أقول بأنها كانت فنانة مستقلة بذاتها، فهي كانت تريد أن تعرض لوحاتها وتستعمل دائما في رسائلها فعل “أعمل”، وهذا الأمر ليس ثانويا بالنسبة لها، فقد كانت تسعى دائما لأن أن تحيا من خلال فنها.

_وهل كانت سعيدة بحياتها الزوجية الجديدة؟
_كانت حياة باية الجديدة في بيت الزوجية محدودة مقارنة بشخص آخر، فهي لم تختر بشكل كلي ما تريده، لكنها مع كل ذلك، كانت تتحدث كثيرا في رسائلها عن أبنائها وعن رغبتها في تدليلهم. لذلك أعتقد بأنها كانت تريد أيضا أن تعيش حياة ربة الأسرة، وأرى بأن تمكنها من تحقيق ذلك مع فرض مكانتها كفنانة نابع من القوة الكبيرة لشخصيتها. ويعود مظهر الشخصية المهمشة الذي يبدو على باية إلى كونها قليلة الكلام، لكن يمكن لمس بعض التواضع الزائد في رسائلها إلى أمها بالتبني، حيث كانت تقول لها دائما “لولا وجودك في حياتي لما كنت باية”، فهي تعلم دائما بأن شيئا ما حدث بفضل محيطها وأشعل فتيل الموهبة.
_ ألم تكن -في نظركم- هذه الشخصية الصامتة وراء الأسطورة التي روجتها وسائل الإعلام الاستعمارية حولها؟
_لا أظن ذلك، لأن الصحافة الاستعمارية تصفها في إحدى المقالات وتقول بأن “باية نزلت من الطائرة وعلامات السعادة بادية عليها وهي تلوح بيديها”، لكن هذا الأمر لا أساس له من الصحة، فمارغريت كانت تدون كل تفاصيل حياتها وتقول بأن باية لم تكن يوما كما يصفونها، بل على العكس، تحاول دائما التهرب بسبب شخصيتها المتحفظة. وأنا أرى بأن لها شخصية انعزالية نوعا ما، بسبب البيئة المعزولة التي نشأت فيها، فهي من الريف وفقدت والديها في صغرها، وعاشت في منطقة القبائل بعد فقدانها لوالدتها قبل أن تعود مجددا إلى المكان الذي ولدت فيه.
وأعتقد أيضا بأنها حافظت على نظام دفاعي في شخصيتها بعد كل الظروف التي عاشتها، وهي طريقة للنجاة بالنسبة إليها، كما أنها رقابة ذاتية زائدة تمتعت بها. لكنهم في المجال الفني يحبون الفنانين الذين يتكلمون كثيرا، وحتى الفنانون الرجال الذين تزامن وجودهم في المرحلة التي ظهرت فيها اعتبروا بأنها ليست شخصية فنية قائمة بذاتها رغم اعترافهم بموهبتها، لأنها سليلة محيط شعبي مقارنة بهم، فضلا عن كونها امرأة.
ويمكنني أن أضيف بأن مصدر هذه الشخصية نابع أيضا من الأحداث المأساوية التي عاشتها هذه الفنانة خلال حياتها، واستطاعت النجاة بفضل قوة خيالها، كما أن لوحاتها تحمل بداخلها شحنة كبيرة من البهجة، وهي لم تكن من النوع الذي يستعيد قيمته الذاتية بالكلمات. كما أظن بأنها ظلت محافظة على شخصيتها إلى غاية نهاية حياتها.
_ولكن ما علاقة السياق الاستعماري بتلك الصورة الأسطورية المكونة حولها؟
_تكونت تلك الصورة الأسطورية حول باية خلال المرحلة الأولى من ظهورها كفنانة، أي قبل انقطاعها وعودتها إلى العطاء الفني، والسبب الكامن خلفها يتمثل في تزامن ميلاد باية الفنانة مع نهاية المرحلة الاستعمارية، كما أعتقد بأن ذلك يعود إلى الاستعماريين الذين كانوا يتعاملون بنوع من الأبوية تجاه من كانوا يسمونهم بـ”الأهالي” أو “السكان الأصليين” للجزائر، حيث كانت تتملكهم رغبة في أن يظهروا بأن باية شخصية إعجازية ولم تخرج إلى النور أبدا إلا من خلال احتكاكها بمثقفين فرنسيين.


وقد سمح لهم هذا الخطاب أيضا بتجاهل الحديث عن كثير مما كانت عليه الجزائر آنذاك، وأعتقد بأن تلك الأسطورة ساعدت على ذلك، كما كان مروجوها يسعون إلى القول من خلال ذلك، بأن الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية قادرة على احتضان شخصيات فنية مماثلة من السكان المحليين.
لكني أرى بأن هذه الأسطورة لم تلاحقها في مشوارها، بقدر ما كان يقال عن كونها أمية ولا تجيد القراءة والكتابة، وهو ما جعل الأنظار توجه إليها دائما على أنها امرأة لم تنضج بعد، رغم أنها كانت ناضجة، والدليل على ذلك عودتها إلى مجال الفن وشروعها في تنظيم معارض بعد ذلك وتفاوضها حول الأسعار مع أصحاب الأروقة الفنية، فضلا عن أنها استطاعت التواصل مع  مثقفين وفنانين كبار، وحتى المشاركة معهم في معارض جماعية.
_وماذا عن الذين ساعدوها، هل كانوا يحملون نفس التصور عنها؟
_نعم حتى من قدموا لها العون -ولا أتحدث هنا عن والدتها بالتبني وشخصيات قليلة لم تكن تفكر بنفس الطريقة- لكن بعض الذين ساعدوها في باريس ومنهم صحفيون قاموا بكتابة مقالات حولها، ظلوا ينظرون إلى الأمور من هذا المنحى، فهم كانوا بحاجة إلى خلق هذه الأسطورة، خصوصا وأنه في نفس المرحلة كان هنالك فنانون يتخرجون من مدارس الفنون الجميلة في الجزائر آنذاك، على عكس باية التي لم تدخل تلك المدارس أبدا.
وأعتقد أن الصورة التي أنشئت حولها نتاج استعماري، وأؤكد بأن كلامي لا يعني بأن باية منتج استعماري، وقد وجدت في عدة مقالات صحفية آنذاك هذه الإدعاءات بأن باية كانت تقطن بأحياء الطبقة الهامشية في الجزائر العاصمة، وبعض الإدعاءات التي تمس بشرف والدتها وهي أكاذيب لا أساس لها من الصحة.
_هل كانت باية أول امرأة جزائرية تقتحم مجال الرسم في الجزائر؟
_توجد ربما نساء أخريات قمن بالرسم في تلك المرحلة. لا يمكنني تحديد ذلك، لكنها -حسب معلوماتي- المرأة الجزائرية الأولى التي تدخل مجال الفنون الجميلة كفنانة مستقلة بذاتها، وتقتحم الساحة الفنية المعاصرة محترمة نفس المعايير العصرية كأي فنان آخر، وقد استعملت نفس الوسائل وعرضت على غرار نظرائها من الفنانين. لكن توجد نساء أخريات –لا أتذكر أسماءهن- ولدن في الثلاثينيات واقتحمن هذا المجال بعد استقلال الجزائر، أي بعد باية.
و باية لم تكن تعكس مناخها الثقافي الجزائري بشكل محض ولكنها كانت تحوله وتعطيه لمستها الفنية الخاصة، بحيث يمكننا التعرف على لوحاتها بشكل منفرد. ولا يمكن خلطها مع لوحات فنانين آخرين، بالرغم من أن الكثيرين قاموا بتقليدها فيما بعد، فهي تخلق فضائها الفني الخاص في أعمالها. ومنذ القرن التاسع عشر أصبح على الفنانين أن يُظهروا أنهم يبدعون انطلاقا من خيالهم الداخلي، لتقديم عمل خاص بهم فقط. وباية من هذا النوع من الفنانين المُعاصرين، الذين لم يعودوا مجرد حرفيين، وإنما يجب عليهم أن يعملوا بشكل ذاتي.
_كيف تنعكس الثقافة الجزائرية في أعمال باية؟
_لم أبحث عن هذا الجانب في أعمال باية، لكن إن أردنا الخوض في التاريخ الثقافي، يمكننا القول بأن لدى باية أو غيرها من الفنانين الذين يعتبرون أقل تصويرية، قاعدة ثقافية في أعمالهم ستستخرج يوما ما. لذلك لا يمكننا تحديد العناصر ونسب كل منها إلى ثقافة معينة، كالقول بأن هذا يعبر عن الثقافة البربرية وهذا عن الثقافة العربية كما يفعل البعض، بل يجب أن نجد العلاقة بين الفضاء الفني الخاص والفضاء الشكلي الذي يعيش فيه الفنان.
وقد كانت باية معبرة جدا عن الفضاء، فيمكن ملاحظة إدماجها للآلات الموسيقية في أعمالها بعد تنقلها للعيش في المدينة رفقة زوجها الذي يؤدي الموسيقى الأندلسية، فهي كانت فنانة تستطيع أن تستغل العناصر المختلفة لبيئتها الثقافية. ويمكن القول أيضا بأن هذا هو سبب انضمامها إلى مجموعة “وشام” فيما بعد، فهم يقومون برصد الرابط بين الفنون الشعبية وبين العمل الفني، وأنا لم أجد أي وثيقة تحدثت فيها عن مجموعة “وشام”، لكنها شاركت مع أعضائها في تنظيم معارض مختلفة.                   

أجرى الحوار: سامي حباطي

الرجوع إلى الأعلى