ربع قرن من الإنتاج العلمي في انتظار «مستغلين»

 

يمر اليوم ربع قرن أي 25 سنة  على إنشاء مركز البحث في الأنثروبولوجيا الإجتماعية والثقافية بوهران لترسم عقدين من البحث والدراسات في قضايا المجتمع وفي ثقافته، ربع قرن من الإنتاج الفكري العلمي ورصيد خبرة في البحث في مختلف المجالات يبحث اليوم في إطار فلسفة المركز الجديدة عن من يستغل تلك الخبرة والمنتوج وفق قاعدة «رابح-رابح» وفي سياق البحث السوسيو- إقتصادي الرامي لتطوير التنمية المحلية وترقية نشاط مختلف القطاعات التي يفتح الكراسك أبوابه لها ويضع خبرته تحت تصرفها.

الإجتماعية والثقافية بموجب المرسوم التنفيذي 92-215 الصادر في 23 ماي 1992، وهو نتيجة سبع سنوات عمل لوحدة البحث في الأنثروبولوجيا الإجتماعية والثقافية، وجاء هذا التحول لمواكبة التطورات المجتمعية ونتيجة وعي بضرورة الاعتماد على الأفكار والدراسات التي تنتجها الأبحاث العلمية لفهم الواقع وتسطير البرامج المناسبة للحياة اليومية للمواطن وقد تعاقب عليه أربعة مدراء وهم الوزيرة الحالية للتربية الوطنية نورية بن غبريط، ثم جيلالي بوسماحة وبلقاسم بن زنين وعبد القادر شربال المدير الحالي للمركز منذ أشهر. و قد سطر المركز برنامجا خماسيا جديدا يتماشى والتحولات السوسيو-إقتصادية الحالية وفق محاور لدراسات وبحوث لغاية آفاق 2020. في مبنى يفوح بعبق التاريخ والتراث ويحاكي أنثروبولوجيا المجتمع عبر حقب زمنية وثقافات تركت وقعها في يوميات الجزائريين، مبنى صممت هندسته لتعكس خصوصية مركز البحث في الأنثروبولوجيا الإجتماعية والثقافية «كراسك»، خصوصية جعلته يحتل مراكز عالمية مرموقة حيث احتل المركز 737 عالميا من ضمن 10 آلاف مركز بحث وهذا في دراسة أجراها مركز «بيومتريك» الإسباني قبل ثلاث سنوات، ويشكل 88 باحثا دائما به خلية نحل نشطة أنتجت أعمالا فكرية ساهمت في العديد من المرات في حل أزمات المجتمع، وهذا تحت إشراف وتسيير إدارة تطبعها الصرامة، فرغم تغير المدراء ظل نظام التسيير متواصلا وفق القانون الذي يضبط تسيير المؤسسات البحثية ولكن أيضا وفق قانون معنوي يتأقلم معه الجميع لتوفير الجو الملائم لأداء المهام الأساسية وهي البحث العلمي، فحتى نظافة المكان تساهم في هذه المنظومة التي تعود عليها زوار المركز، منهم الأجانب الذين لم يجدوا فرقا بين «كراسك» وهران ومراكز البحث العالمية التي يتعاملون معها وهذا بشهاداتهم في كل مرة يشاركون فيها في الندوات أو الملتقيات وغيرها من الأنشطة المتواصلة للمركز. ولكن هذا لا ينفي وجود بعض النقائص وأبرزها قلة التسويق للمنتوج  للجمهور العريض، ويبدو أنه ما عدا مشاركة الكراسك في «صالون الجزائر الدولي للكتاب» والذي يعد الفرصة الوحيدة لعرض هذا المنتوج للجمهور العريض مباشرة، ليبقى الفضاء الإفتراضي حاليا هو الحامل لجزء كبير من المؤلفات والدراسات والأعمال العلمية التي ينجزها الباحثون والتي يمكن الحصول عليها من الموقع الرسمي للمركز أو من صفحته على شبكة التواصل الإجتماعي فايسبوك.
و يرتقب المركز وفق البرنامج الخماسي، فتح أربع وحدات بحث جديدة موضوعاتية في كل من تيزي وزو لتختص بالعادات والتقاليد، ووحدة بحث بأدرار حول المخطوطات، بينما سيكون موضوع البحث في وحدة غرداية حول المجتمع فيما ستكون وحدة البحث في تلمسان تتعلق بموضوع الفن، وستضاف هذه الوحدات للوحدات الأربع المتفرعة حاليا عن المركز، وهي وحدة الثقافة، الإتصال، الفنون واللغات وكذا وحدة الترجمة والمصطلحات ومقرهما حاليا بالمقر السابق للمركز ببلدية السانيا، أما الوحدة الثالثة فموجودة في جامعة البليدة ومتخصصة في أنظمة التسميات بينما تختص الوحدة الرابعة الموجودة بجامعة قسنطينة بالأقاليم الناشئة والمجتمعات، ومن شأن هذه الوحدات البحثية أن تواصل مسيرة المثابرة التي أنتجت 250 مشروعا بحثيا على مدار عقدين، وإضافة للوحدات ينقسم المركز لأربع دوائر بحث تختص كل واحدة منها بمجال معين، حيث تبحث الدائرة الأولى في الأنثروبولوجيا الإجتماعية والتاريخ والذاكرة أما الدائرة الثانية فمحاورها تتعلق بالمدن والأقاليم، كما تختص الدائرة الثالثة بأنثروبولوجيا التربية ونظم التكوين وتأتي الرابعة لتتمحور حول المخيال الأنثروبولوجي و دلائل الممارسات. ومن بين المشاريع البحثية المبرمجة نجد مشروعا عن الحركة المرورية داخل المدن وهو عبارة عن دراسة ميدانية إنطلقت سنة 2015 ومن المنتظر أن تعرض نتائجها خلال العام الجاري. وفي الآفاق أيضا برنامج مميز صودق عليه مؤخرا ويشمل «ملتقى حول العلوم الإجتماعية ودورها في التنمية المحلية»، وهناك عدة كتب ومؤلفات هي قيد النشر لتضاف للإصدارات التي تعود عليها كراسك.
ويبرمج المركز خلال السداسي الأول من السنة الجارية  أكثر من 30 ندوة ومحاضرة لمناقشة وطرح الدراسات ونتائج البحوث وكذا مناقشة دراسات يقدمها أجانب في إطار الإتفاقيات التي تربط الكراسك بعدة مؤسسات علمية أكاديمية من عدة دول سواء أوروبية أو عربية، ويضم المركز 88باحثا دائما وكذا 283 باحثا مشاركا من عدة جامعات وطنية، ويهتم بعقد شراكات مع مؤسسات مختلفة منها جامعية وبحثية حتى وزارات، ولعل أبرز شراكة ستكون مع مركز الدوحة للأبحاث والدراسات السياسية.
أبواب المركز لا تفتح فقط لأبنائه الباحثين الدائمين والمشاركين، بل حتى لكل طالبي العلم والبحث في العلوم الإجتماعية والإنسانية عن طريق الفضاء المكتبي المتمثل في مركز الإعلام العلمي والتوثيق الذي  يوفر جوا من الهدوء مساعدا جدا للتركيز وإنجاز البحوث العلمية، ويتكون هذا الفضاء من طابقين وبه قاعتين للمطالعة مزودتين بأجهزة إعلام آلي، ويوفر كل طابق أماكن للطلبة الباحثين ويزودهم بقاعدة معلوماتية للبيانات لتسهيل مهمة البحث عن المراجع. ويضم الفضاء المكتبي أكثر من 30 ألف دراسة على شكل مؤلفات ومذكرات تخرج وأكثر من 90 مجلة. وتوجد كذلك مكاتب للسمعي البصري مزودة بتقنيات حديثة للبحث والإطلاع على الوثائق الرقمية  في مختلف الحقول المعرفية، ومزودة بمنصة للبوابة الوطنية للتوثيق الإلكتروني.

الباحث عمار محند عامر


«وجدت ضالتي في المركز والمطلوب تحرير الباحثين من الوظيفة»

قال الأستاذ الباحث عمار محند عامر المختص في تاريخ الجزائر المعاصر، أن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي واعية اليوم بأن تحقيق مردود علمي وفكري يخدم المجتمع والتنمية في البلاد لن يكون إلا بتحرير الباحثين في المراكز البحثية من قيود الوظيفة، أي أن لا يتقيد الباحث الدائم في مركز بحث بقوانين تجعل منه موظفا مرتبطا بممارسات إدارية، مثمنا في الوقت نفسه الحرية الكبيرة التي يتمتع بها الباحث في الكراسك من الناحية الأكاديمية أي إنجاز البحوث والتطرق للمواضيع ومعالجتها حيث لا يقيده هنا سوى الضوابط العلمية، موضحا  أن مركز البحث في الأنثروبولوجيا الإجتماعية والثقافية  «كراسك» وهران هومؤسسة أكاديمية تسعى للعالمية ليس بالإعتماد على الشهرة أو العلاقات، بل بإرتكازها على المعايير العالمية المعمول بها في المؤسسات البحثية الرائدة. مضيفا أن المركز يسير وفق إستراتيجيات وقناعة بأن البحث العلمي هو مصدر الأفكار والحلول التي تخرج البلاد من الأزمات، وهذا بفضل الإمكانيات التي يوفرها الكراسك لتكوين الباحثين وفق المقاييس المعتمدة دوليا مبرزا في هذا الإطار «لدينا في الجزائر جيوش من الأساتذة ولكن عدد قليل فقط من الباحثين»، وبناء على هذه الخصائص التي يتميز بها الكراسك قال الأستاذ محند أنه كان وجهته العلمية التي اختارها قبل عودته للجزائر وهذا مباشرة بعد تحصله على شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة باريس 7، مشيرا أن اختياره بني على أسس صنعتها سمعة المركز في فرنسا من خلال العديد من الأعمال التي لها رواج كبير في أوروبا والتي أنجزها باحثون جزائريون لهم كذلك صيت في الضفة المقابلة للمتوسط، وهذا ما أعطى دفعا قويا للأستاذ عمار محند عامر للإنضمام لأسرة الباحثين في تاريخ الجزائر من خلال بوابة الكراسك التي دخل منها للمركز في سنة 2010 ليجد فيه ضالته وهي القيام بالبحوث التاريخية وفق أسس علمية على خلاف ما يقوم به بعض الباحثين بالإعتماد على أمور قد لا تقربهم من الحقائق، وتميز دخول الأستاذ محند للكراسك بخضوعه لشرط معادلة الشهادة الذي استمر لسنة كاملة. وأضاف المتحدث أنه رغم خضوعه لهذا الشرط وجد تسهيلات من طرف إدارة المركز للمشاركة والإنضمام الفعلي لفريق الباحثين خاصة المهتمين بالتاريخ الذي ليس في الأساس مشربا للكراسك ولكن بفضل فريق البحث أصبحت البحوث التاريخية ضمن أولويات برنامج المركز ويعد ملتقى
«62، عالم» الذي جرت فعالياته سنة 2012، من أبرز المحطات التي رسخت البحوث العلمية التاريخية في المركز وأعطتها نفسا جديدا مستندا على الأسس العلمية لدراسة الوقائع التاريخية ووفق هذا النسق يحضر الأستاذ عمار محند لكتاب حول «أزمة 1962» ويقول أنه استفاد لإنجازه من شبكة علاقاته التي نسجها بفضل تواجده في الكراسك، إلى جانب بعض المقالات العلمية التاريخية التي سيتفرغ لإتمامها قريبا.

الباحث نوار فؤاد


«باحثو  كراسك يتطلعون لمطابقة وضعيتهم الاجتماعية مع باحثي الجامعة»


أوضح الباحث نوار فؤاد أن سمعة الكراسك التي جاءت بناء على جدية ومصداقية المشاريع البحثية التي أنجزها الباحثون على مدار ربع قرن، بحاجة للإنتقال لمرحلة أخرى منها أن تتقرب الوزارات والمؤسسات من المركز من أجل إنجاز مشاريع مشتركة تعود بالفائدة على الطرفين وفق قاعدة «رابح- رابح»، ولكن حسبه لا يجب أن يعتبر المركز مكتبا للخبرة بل هو فضاء للبحث العلمي. وأضاف فؤاد نوار أنه يجب إعادة النظر في بعض القوانين من أجل السماح للباحثين بالدراسات المقارنة التي ينتقل فيها الباحث لبلدان أخرى لتوسيع نطاق بحثه وعدم حصره فقط داخل الوطن، كما تطرق المتحدث لضرورة إعادة النظر في الوضعية الإجتماعية للباحثين في مراكز البحث التي تختلف عن وضعية الأساتذة الباحثين في الجامعات، مثل إمتيازات الحصول على سكن وظيفي يوفر الإستقرار فالكراسك يقصده الباحثون من الغرب الجزائري ومن ولايات أخرى ويتطلب هذا التنقل توفر السكن للسماح للباحث بالتركيز في مشاريعه و التفكير في تأجير السكن أو في التنقل اليومي بين وهران والولايات المجاورة كما أن الباحث في كراسك مطالب بالعمل 8 ساعات يوميا وليس أسبوعيا مثل باحث الجامعة الذي بدوره يستفيد من العطل الفصلية والسنوية عكس باحث المركز، ومن بين المطالب التي يمكن طرحها أيضا هي ضرورة وجود قوانين تسمح للباحث الجزائري بالمشاركة في المشاريع البحثية الدولية، وقال الباحث أن السلطات العمومية قررت رفع ميزانية البحث العلمي لـ 1 بالمائة من الناتج الوطني الخام وهي ميزانية ضخمة ولكن الخشية من التوزيع التفاضلي لهذه الأموال لأن البحوث التكنولوجية والإقتصادية في مخيال العون العمومي هي التي يجب أن تحظى بأكبر حصة بينما البحوث الإجتماعية حسب المتحدث هي أيضا الركيزة الأساسية لفهم المجتمع وتسطير البرامج التنموية وترشيد القرار العمومي. وعن قصة إلتحاقه بالكراسك، قال الباحث نوار فؤاد أنه كان مخيرا سنة 2004 بين الإلتحاق بالجامعة ليكون أستاذا أو بمركز كراسك ليشق طريقه كباحث، فاختار الطرح الثاني لأنه كان يعتبر أن البحث العلمي هو العمل الميداني الذي يصقل الإمكانيات ويطورها، وهو الخيار الذي جعله يرسم اليوم مسارا أكاديميا في البحث العلمي مدته 13 سنة، أنجز خلاله العديد من البحوث واكتسب خبرة كبيرة في اختيار المواضيع والنزول بها للميدان وتحليل نتائجها واستخلاص عصارتها، والبداية كانت مباشرة مع مشروع بحث حول «المواطنة في الجزائر» واختار أن يتناول مسألة ترتيب الأقسام والتلاميذ في الثانويات لتكوين أجيال تنعم بالمواطنة، ثم جاء مشروع آخر حول «الممارسة الإنتخابية» وكان متزامنا والإنتخابات التشريعية لسنة 2007، وكانت الفرضيات التي انطلق منها البحث هي أن الفئات المهمشة في المجتمع هي الأكثر عزوفا عن أداء واجب الإنتخاب، ليتبين في النتائج أن العزوف كان يمس الفئة المهمشة بنفس النسب التي مس بها الفئات العاملة والموظفة المؤمنة إجتماعيا، وهذا كون الأحزاب السياسية أصبحت عبارة عن مؤسسات توفر إطارا قانونيا للترشح يمكن عن طريقها الوصول لمناصب عليا وولوج المجالس التشريعية وغيرها من العوامل التي جعلت العزوف عن الإنتخاب يشكل ظاهرة بنيوية وليست ظرفية، وأضاف الباحث أن الفريق لم يتوقف هنا بل رافق الإنتخابات المحلية أيضا التي جرت في نفس السنة، لمعرفة الإختلافات عن التشريعيات، مبرزا أن النتائج أظهرت  بأن البلديات مقر الولاية التي يرتفع فيها عدد الهيئة الإنتخابية هي التي بها أقل عدد من القوائم الحزبية عكس باقي بلديات الولاية التي تقل فيها الهيئة الإنتخابية وترتفع فيها القوائم وهذا بعد دراسة شملت 30 بلدية عبر أربع ولايات بالغرب الجزائري، حيث تشابهت النتائج لتدل على عدم وجود مقاييس محددة للفصل في النتائج. ولعل أهم بحث كان مفصليا في تجربة الأستاذ نوار هو الخاص بواقع «المرأة، الأسرة والعمل» والذي كان عبارة عن تحقيق وطني بطلب من وزارة التضامن والأسرة وكان فريق البحث تحت إشراف السيدة نورية بن غبريط وزيرة التربية حاليا ومديرة مركز كراسك سابقا، وهو بحث شمل 13755 إمرأة من 26 ولاية و60 بلدية. وقال المتحدث أنه بعد هذا الإنجاز الذي حقق نجاحا بفضل نتائجه التي كانت متنوعة وقيمة، شحن فريق البحث طاقاته وقرر الإنطلاق بأول مشروع بحث خاص به و التوجه للجنوب الجزائري من أجل توسيع المجال وإكتشاف المجتمع والأنثروبولوجيا هناك، وتزامنت أول خرجة علمية مع أحداث غرداية لسنة 2008، حيث حاول الباحثون تقصي الأسباب السوسيو أنثروبولوجية  للوضع في بريان عن طريق مشروع «الجماعة والمجتمع في غرداية « وخلصت النتائج بأن المنطقة أمام رهانات من شأنها ضبط الأستقرار ومنها رهان الإقليم والذاكرة ونظام المصاهرة.

آخر إصدارات «كراسك»


لأول مرة معجم ماضي الجزائر منذ ما قبل التاريخ لغاية1962

أصدر مركز البحث في الأنثروبولوجيا الإجتماعية الثقافية مؤخرا، معجما يسرد أبرز أعلام وأحداث تاريخية وأنثروبولوجية تصنع  تاريخ الجزائر منذ ما قبل التاريخ لغاية الإستقلال، ويعد هذا المؤلف المهم مرجعا للباحثين والإعلاميين وكل المهتمين، حيث يجد المتصفح للمؤلف الواقع في 630 صفحة، تعريفات وشرحا ومعلومات ل145 إشارة ما بين شخصية ومكان وحادث وغيرها من الإشارات التي رسمت تاريخ الجزائر، كما يجد  المهتم أكثر من 1600 مرجع لباحثين ومؤلفات تسمح للمهتمين بالعودة إليها لتعميق معارفهم، وإعتمد الباحثون على 600 مصدر بيوغرافي وتوثيقي. ويأتي هذا العمل الذي أشرف عليه الأستاذ الباحث في التاريخ الإجتماعي حسن رمعون، بمشاركة 7 باحثين أساسيين وبمساهمة أكثر من 20 أستاذا باحثا، في إطار أعمال البرنامج الوطني للبحث المندرج ضمن مخطط «الكراسك»، إعتمد فيه كل مساهم على قاعدة تكوينه الأكاديمي بمعنى كل باحث غاص في مجال معين لإستخراج هذه العصارة، التي إعتبرها الأستاذ حسن رمعون غير كافية لتشمل كل من صنعوا تاريخ الجزائر عبر العصور، مضيفا في مقدمة المعجم أن الفريق يسعى لتمكين شريحة كبيرة من المهتمين من الإطلاع على العمل وكذا ترجمته للغة العربية.

إنسانيات»..20 سنة دون توقف


تعتبر مجلة «إنسانيات» التي يصدرها مركز البحث في الأنثروبولوجيا الإجتماعية والثقافية، من الإصدارات العلمية النادرة في إستمرارية الصدور دون توقف على مدار 20 سنة وللإشادة بهذا الإنجاز يرتقب أن ينظم يوم دراسي في أكتوبر القادم لإحياء هذه الذكرى والوقوف على الإنجازات والتفكير في المشاريع الإستشرافية للمستقبل، حيث يحرص طاقم «كراسك» على إصدار المجلة و نشر أهم الدراسات والأبحاث التي يقوم بها باحثو المركز لتعميم الفائدة ولتثمين المنجزات العلمية، ولغاية اليوم تعقد إجتماعات أسبوعية لأكثر من 4 ساعات من أجل ضبط مدى تقدم تحضير المجلة وإنتقاء المقالات المناسبة لكل عدد وغيرها من الأمور التي أصبحت تناقش من خلال هذا الإجتماع الذي أصبح راسخا وتقليدا يلتزم به كل وافد جديد ليواصل المشوار من أجل ترقية المنتوج العلمي. وقد صدر أول عدد من المجلة سنة 1997 بعنوان « العمل.. الأرقام والتمثيل» وتلاه العدد الثاني في نفس السنة بعنوان «المناطق المأهولة بالسكان» والعدد الثالث اختتم السنة وكان عنوانه «الذاكرة والتاريخ»، ومنذ ذلك الحين تواصل صدور المجلة لغاية اليوم حيث وصلت للعددين 67 و68 اللذين صدرا مؤخرا ونقدم ملخصا عن محتواهما.


فضاءات وطقوس جنائزية


تضمن العدد 68 من مجلة «إنسانيات» ملفا بحثيا أنثروبولوجيا اجتماعيا مميزا عنوانه «فضاءات وطقوس جنائزية» وهو عمل أنجزه 8 باحثين، ركزوا من خلال أعمالهم على الملامح المجتمعية المرتبطة بالمقابر بإعتبارها أماكن للذاكرة والإحتفاء، وكذا على تحليل الطقوس الجنائزية بوصفها ممارسات إجتماعية تتجلى في سلوكات تعبدية وإحتفالية، حيث تناولت المقالات مسألة المعتقدات والطقوس الخاصة بالأضرحة في الجزائر خلال الفترة العثمانية وهنا أخذت الباحثة نفيسة دويدة ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي بالعاصمة مثالا عن هذه الحقبة التي اعتبرت خلالها زيارة المقابر فرصة للتبرك والإلتقاء والتواصل بين الأحياء والأموات، ولكن بالنسبة للساسة العثمانيين فإن الأضرحة كانت مزارا مراقبا من طرفهم لتأطير السكان والتحكم في سلوكياتهم، إضافة لهذا تناول نشأة وإستمرارية الممارسات الجنائزية من فترة ما قبل التاريخ، وهنا حاول الباحث سليم دريسي الغوص في الحفريات والأبحاث الأركيولوجية للتعمق في دراسة الطقوس الجنائزية لدى سكان شمال إفريقيا، ويؤكد في مقاله أنه فعلا كانت هناك طقوس تدل عليها الحفريات ومنها ما تواصلت لغاية القرون القديمة. ليواصل الأستاذ صادق بن قادة دراسته حول المقابر والتوسع الحضري في الوضع الإستعماري وأخذ المقبرة الإسلامية إبان الإستعمار والتي تمت إزالتها ومن هنا يقول الباحث أن المقابر والطقوس الجنائزية لم تكن أبدا بعيدة عن السياسة بل تعتبر في أغلب الأحيان محركا لها، كما طرح الباحث ريجيس برتراند مسألة أصول ومميزات المقبرة الفرنسية المعاصرة التي بدأت تبرز منذ الإعلان الملكي سنة 1776 حيث بدأ الفرنسيون بعدها يميزون بين فضاءات دفن الموتى وفضاءات غرس الأشجار ومن هنا ظهرت طقوس مثل زيارة المقابر ووضع الزهور فوق القبر والإلتزام بسلوكيات التدين خاصة في المقابر العائلية، وتناول الباحث محمد حيرش بغداد في مقاله مسألة الأربعينية وفق مقاربات أنثروبو- فلسفية حيث قارن بين أربعينية الولادة وأربعينية الوفاة وكلاهما فترة زمنية لإسترجاع الطمأنينة والتأكد سواء من تعافي الأم النفساء أو من المغادرة الدائمة للميت، وتضمن الملف موضوعين عن مقبرتين في الجزائر إحداها بسطيف من خلال دراسة للباحثين زغلاش حمزة ومينة بوسنينة اللذين اختارا ضريح سيد الخير الذي يزوره السطايفية لمعتقد أسطوري توارثته الأجيال ورسخته الطرق الصوفية في فترة إنتشار الإسلام وأعطته طابعا دينيا، ولكن لا أحد يعلم ما هو الحدث الأسطوري،  والمقبرة الثانية هي سيدي بوجمعة في النعامة، في هذه الأخيرة تطرق الباحث علي نابتي لخصوصية زيارة أعرق مقبرة بالمنطقة وهي مقبرة سيدي بوجمعة التي تعد مقصدا أسبوعيا وتجمعا للنسوة الراغبات في تحقيق أماني مختلفة غير هدف زيارة الموتى والدعاء لهم، فالمقبرة أضحت فضاءا للإنفراج النفسي والتبادل الإقتصادي وربط العلاقات الإجتماعية خاصة الزواج.


«تنوعات ثقافية»  


تضمن العدد 67 الذي صدر مؤخرا «تنوعات ثقافية» وهي مقالات أنجزها 6 باحثين، غرفوا من المجال الثقافي بكل تنوعاته وأبعاده المتمثلة في التبادل والإتصال، وقد تباينت المواضيع ما بين التطرق للمسرح و النصوص السردية لكتابة التاريخ إلى سيميائية اللون و دراسة اللهجة الأدبية والترجمة والأمثال والحكم. حيث تناول الأستاذ ملياني الحاج مسألة «المقاولين الثقافيين والتجارب المسرحية في النظام الكولونيالي»، ودرس الفترة ما بين 1950 و1962، وهي الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وتميزت بالنشاط المسرحي الذي ساهم في ظهور جيل جديد من الفنانين شاركوا في التعبئة الوطنية وفي تنويع ممارسات المسرح وفق الباحث الذي تحدث أيضا في مقاله عن علاقة السياسيين بالثقافة آنذاك خلال الفترة الإستعمارية. وغير بعيد عن التاريخ تطرقت الباحثة بوعنان كهينة ل» جماليات كتابة التاريخ» وإعتبرت أن التاريخ هو فضاء للخطاب الأدبي خاصة من خلال مؤلفات آسيا جبار التي درست منها «إختفاء اللغة الفرنسية» الذي طرحت فيه الكاتبة حركية التاريخ التي تفرضها حركة الكتابة التي تساهم في تحديث الأحداث وإعطائها بعد ذكرى الأحاسيس، وفي الرواية الثانية التي درستها الباحثة لآسيا جبار وهي «ولا بأي مكان في بيت أبي» التي كانت فيها الكاتبة شابة متعطشة للحرية والإستقلال، مشتتة الفكر بين الجزائر وفرنسا، مما جعل الباحثة تستنبط بعد الذاكرة في الكتابة الأدبية لآسيا جبار. وغير بعيد عن الرواية فضلت الباحثة وافية بن مسعود الحديث عن رواية المؤلف مبارك ربيع «أهل البياض»، ولكن تناولت الموضوع من زاوية مغايرة وهي مدى إدراج الجانب البصري في النصوص اللفظية، من خلال سيميائية اللون الذي ينتقل من مادة فيزيائية إلى عنصر حكائي في الرواية يجعله مؤثرا أساسيا في مسار البرامج السردية، حيث أبرزت الدراسة تمفصلات عن اللون في الرواية عن طريق استخراج ثلاثة ألوان وهي «الأبيض، الأخضر والأحمر». بينما إرتكزت الباحثة صورية مولوجي في دراستها على الترجمة التي كان يمتهنها العسكريون الفرنسيون واستراتيجيتهم في خدمة المشروع الإستعماري في الجزائر، حيث تمكن المستعمر بفضل تلك الترجمات من استكشاف الخصائص الأنثروبولوجية للشعب الجزائري آنذاك من أجل السيطرة عليه.  للتذكير فإن المركز يصدر مؤلفات أخرى أيضا تتضمن مقالات وملخصات لبحوث ومشاركات علمية في مجال الأنثروبولوجيا والعلوم الإجتماعية.  

هوارية-ب

الرجوع إلى الأعلى