الديمقراطية: المساواة عاهتها المستديمة والحرية داؤها العضال!
قد يعتقد الكثير أن الديمقراطية هي أفضل النظم؛ لأنها حلم الشعوب والأمم، وفي سبيلها تشتعل الثورات الشعبية والاحتجاجات الحزبية والجمعوية، وتفتح السجون والمعتقلات للثوار والأحرار؛ حتى تتجسد في كنفها قيم الحرية والعدالة والمواطنة والمساواة، وتنكسر عرى الاستبداد السياسي والقمع، وتتكرس حقوق الإنسان، فكم من أمة آثرت حريتها على خبزها، وكرامتها على رفاهها؛ لكن هذا الموقف المقدس للديمقراطية لا يتوافق ومواقف كبار الفلاسفة منذ القدم-حسب ما تركوه من آراء في مصنفاتهم وما كتب عنهم قديما وحديثا من كتب ودراسات الفكر الفلسفي والسياسي- الذين رأوا فيها نظاما خسيسا، وألحقوه بالأنظمة المضادة للفضيلة والسعادة؛ حين رأوا أن المساواة عاهتها المستديمة والحرية داؤها العضال!
د. عبد الرحمن خلفة
   فالفيلسوف الأثيني القديم أفلاطون يجعل الديمقراطية مرادفة للغوغائية؛ أو حكم العامة أو الدهماء، ويعدها من أسوأ أنواع الحكومات، حيث تقوم على المساواة بين غير المتساويين، ويرى أن الأغلبية في الديمقراطية تبدأ في السعي للسلطة وتهدف لتكريس الحرية والديمقراطية، ثم  تتدرج إلى أن تصل إلى نظام استبدادي كأسوأ ما يصيب الدول؛ لأن العامة تسمح بكثير من الفوضى والفساد وابتذال القوانين والتمادي في الحرية حد الإباحية حتى تفضي إلى حكم الفرد الاستبدادي. وعلى الرغم من المؤاخذات التي سجلها أرسطو على أفلاطون إلا أن موقفه من الديمقراطية لم يختلف عنه كثيرا؛ حيث عدها ضمن الحكومات الفاسدة، لاسيما النوع الخامس من أنواعها الذي سماه بالديمقراطية الغوغائية، ويكفي المرء فيها أن يكون مواطنا ليكون حاكما، وسيادة القانون تنتقل إلى الكثرة؛ لأن هذا النوع يحتكم إلى معيار الكثرة؛ حيث يعلو صوت الشعب والشعبوية على صوت القانون؛ وهذا بعد أن درس بالنقد والتحليل 158 دستور مدينة من مدن عصره؛ وعلى درب هؤلاء سار الفيلسوف شيشرون الذي عد النظام الديمقراطي نظاما شعبويا يفضي عادة إلى نظام غوغائي سيء.
فلاسفة الإسلام على درب فلاسفة اليونان
وقد لقيت هذه الآراء الشاجبة للنظام الديمقراطي صدى لها عند رواد الفلسفة الإسلامية؛ حيث ألحقوها هم أيضا بالنظم السيئة المنافية للنظم الصالحة الراشدة المثالية؛ فالفيلسوف الفارابي الذي سعى في ثنايا فلسفته إلى وضع تصور لمشروع المدينة/الدولة الفاضلة؛ ورأى أن (المدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة، هي المدينة الفاضلة والاجتماع الذي به يتعاون على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل، والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة، وكذلك المعمورة الفاضلة، إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة). شجب النظام الديمقراطي وأدرج مدينته ضمن المدن الجاهلية المضادة للمدينة الفاضلة، تلك المدن التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم إن أرشدوا إليها، فلم يفهموها ولم يعتقدوها، وإنما عرفوا من الخيرات بعض هذه التي هي مظنونة في الظاهر أنها خيرات من التي ظن أنها هي الغايات في الحياة، وهي سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات، وأن يكون مخلى هواه، وأن يكون مكرما ومعظما. فكل واحد من هذه سعادة عند أهل الجاهلة، وقد أطلق على دولة الديمقراطية المدينة الجماعية، وهي عنده التي قصد أهلها أن يكونوا أحرارا، يعمل كل واحد منهم ما شاء، لا يمنعه واه في شيء أصلا). وعلى درب الفارابي سار ابن سينا في تشخيصه للنظام الديمقراطي، فبعد أن عرض أقسام النظم السياسية وعرف الديمقراطية بأنها: (التي يتساوى فيها أهلها فاضلهم ودنيهم، في استحقاق العقوبات والكرامات والرياضات، وتكون الرياسة فيها لمن أجمعوا على ترويسه، أو روسه رئيسهم الأول)، عرض تقييما نقديا لكل قسم منها؛ فقال: (فهذه هي المدنيات البسيطة، وأفضلها سياسة الملك، ثم سياسة الاختيار، ثم سياسة الكرامة، وأخسها سياسة التغلب، ثم سياسة القلة، ثم السياسة الجماعية، وقد يتركب من هذه السياسات مدنيات)، ولعل ابن سينا يجد تبريره في دحرجته للنظام الديمقراطي في سلم النظم السياسية في فكرة المساواة بين المتفاضلين بحكم العادة والاجتماع، ممن تسوي بينهم الديمقراطية، لاسيما الشريف والوضيع، أو الفاضل والدنيء بتعبيره، فهؤلاء تتساوى حظوظهم وأصواتهم في اختيار رئيس المدينة/ الدولة؛ وقد كشف ابن سينا بهذا التقييم العلمي الفلسفي للديمقراطية عن أهم عيوبها وعللها التي ما انفكت تتلبسها منذ ظهورها؛ ولم تستطع التحولات السياسية وتطور الفكر السياسي وآليات الديمقراطية أن تتجاوز هذا العيب وتعالج هذه العلة المزمنة؛ إذ كيف تتساوى أصوات عموم الناس وهم متفاوتون في القدرات العلمية والسياسية والاجتماعية؟
 فلاسفة العصر الوسيط لم يشذوا عن القاعدة كثيرا
وإذا تجاوزنا مواقف اللاهوتيين ورجال الدين منذ العصر القديم والوسيط في فضاء الفكر اليهودي والمسيحي والإسلامي الذي عادة ما يقفون موقف الرافض لهكذا نظام ملتمسين الفضيلة والكمال والرشاد في الأنظمة التي استلهموها من قراءاتهم الاجتهادية الاستنباطية من النصوص الدينية المؤسسة؛ لتأسيس مدن إلهية أو أنظمة ثيوقراطية، وفي أحسن الأحوال دولة بشرية بنظام يكون نيابة عن النبوة وانعكاسا للإرادة الإلهية في الأرض، على غرار سانت أوغسطين مارثن لوثر وجان بودان والماوردي والغزالي وابن تيمية وابن خلدون وموسى بم ميمون وغيرهم؛ إذا تجاوزنا هؤلاء  فإننا نجد آراء فلاسفة ما قبل عصر الأنوار لا تكاد تختلف عما ورثوهم من الفكر الفلسفي القديم؛ فيرى توما الإكويني أن الديمقراطية ديماغوجية غوغائية؛ تنتهي إليها الحكومة الدستورية، وهي حكومة الشعب العادل أن أفضل النظم هو النظام الأرستقراطي، والحكومة الارستقراطية هي حكومة القلة الفاضلة؛ بينما يعد الديمقراطية ديماغوجية غوغائية؛ تنتهي إليها الحكومة الدستورية، وهي حكومة الشعب العادل،
عصر النهضة والأنوار:
عودة الحلم الديمقراطي في دهاليز الاستبداد السياسي والديني
وفي عصر النهضة والأنوار بدأت النظرة الفلسفية تختلف حيال الديمقراطية، حيث رأى فيها الفلاسفة ملاذ البشرية لتحرر والانعتاق مما تعانيه من سطوة الكنيسة والاستبداد، فظهر أبرز القيم القديمة المتجددة للديمقراطية على غرار الحرية والعدالة والمساواة والمشاركة والحق وغيرها، على لسان كبار فلاسفة عصرئذ أمثال جون لوك الذي جدد إحياء فلسفة العقد الاجتماعي الذي أرسها قبله توماس هوبز بشيء من التهذيب؛ حيث أقر أن السلطة النهائية والسيادة في يد الشعب، وأن الحكم للأغلبية تمشيا مع الإرادة الشعبية، وتم من حق الجماعة وموظفيها استخدام القوة لفرض القانون، وكذلك قرر الفيلسوف جان جاك روسو في عقده الاجتماعي أن السيادة المطلقة هي للإرادة العامة التي تمثل الجماعة ككائن اعتباري مستقل عن الأفراد، ولم يختلف موقف مونتيسكيو عن موقف هؤلاء حيث نظر بإيجابية إلى النظام الديمقراطي الذي في ظله يختار المواطنون وفقا لمبدأ المساواة وقدراتهم السلطة التشريعية،وأكد على أنه في النظام الديمقراطي يجب أن تنمي القوانين مبدأ المساواة.
وبين هذه الأصوات الفلسفية يصدع صوت آخر سيكون له تأثير كبير بعدئذ في إعادة بلورة الفكر السياسي الغربي، لاسيما فيما يتعلق بالحرية وحدودها، ومنها حرية الضمير وحرية العمل وحرية التجمع، فجون ستيوارت ميل يرى أن أفضل أنواع الحكومات هي الحكومات التمثيلية التي تعبر عن الإرادة الجماعية؛ لكنه يرى أن اختيار الطبقة الحاكمة يجب أن لا يترك للغالبية الجاهل؛ بل لا يصح أن تتساوى أصوات الناخبين؛ حيث يجب إعطاء وزن أكثر للكفاءات. ولكن هذا لم يمنع البعض من تجديد شجب الديمقراطية، فقد هاجم نيتشة الديمقراطية الغربية التي رأى أنها وريثة المسيحية، وقال إن الأخلاق في أوروبا اليوم هي أخلاق حيوانات القطيع». وأن الرجل الديمقراطي الغربي غير قادر على «الشعور بأي خجل من عدم القدرة على التسامي فوق «رغباته» لتلبية مجموعة من الاحتياجات التافهة عبر حساب المصلحة الشخصية على المدى الطويل.  قال جان جاك روسو في القرن الثامن عشر:» بالمعنى الحقيقي، لم تقم ديمقراطية بعد.
 من الإيبستوقراطية إلى الشورى-قراطية
بعيدا عن آراء المفكرين الذين نظروا إلى الديمقراطية من خلال تطبيقاتها الميدانية في الغرب وتبعات ذلك على حقوق الشعوب والدول والأفراد، أو الذين حاكموها من منظور إيديولوجي يستبطن العداء المسبق لها. فإن الفلاسفة الذي انتقدوا النظام الديمقراطي وبينوا أوجه قصوره منذ عهد أفلاطون إلى اليوم، حاول بعضهم طرح بدائل عنه، وآخرون حاولوا تعديله بما يتجاوز نقائصه ويحد من سلبياته، فأفلاطون الذي دافع عن نظام يحكم فيه الفلاسفة بعد أن يتربوا بعيدا في مجمعات بعيدة معزولة، حتى تسيطر عليهم نزعة العقل والحكمة، سرعان ما اقترح نظاما مختلطا بين الملكية الفلسفية والديمقراطية، حيث يأخذ من محاسن كل واحدة؛ فيأخذ من الملكية الحكمة ومن الديمقراطية الحرية، وقد اضطره إلى القبول بالحل الوسط ما رأى من استحالة دوام أي نظام على صورته الأولى المثلى، شأنه شأن الحياة البشرية، وكذلك فعل أرسطو عندما دعا إلى حكومة دستورية تقيم التوازن بين السلطة والحرية، والارستقراطية وما تنتهي إليه من الأوليجاركية وبين الديمقراطية، بين حقوق مختلف الطبقات والحرية.وعلى دربهما سار ابن سينا الذي سيجد بعدئذ في فلسفة الاختيار التي قال به جمهور الفقهاء المسلمين ملاذه لتجاوز تلك العيوب ورأب الصدع الذي ولد مع ميلاد الديمقراطية قديما؛ فابن سينا يرى أن الأرستقراطية هي أفضل النظم؛ وهي عنده: (الرئاسة الفاضلة الحكيمة: وهي أن يكون الرئيس أزيد الأمة فضيلة، وتكون مراتب القوم بحسب فضيلتهم، إما الفضائل النفسانية وإما الفضائل في الصناعات؛ فيكون فيها رئيس المدينة أفضلهم وأحكمهم وأتقاهم؛ ثم تتشعب دونه الرئاسات؛ فتكون رئاسة الصناع لأفضلهم في الصناعة وأبصرهم بأنحاء الصناعة وأحسنهم معاملة فيها، ورئاسة حفظة المدينة لأشجعهم وأعرفهم بأحوال المقاتلة؛ ثم تتشعب أيضا تحت كل واحد ممن هو دون الأول رئاسات أخر، حتى ينتهي إلى إفناء الناس؛ فلا يكون في هذه المدينة واحد إلا وله تقدم وتأخر محدود بحسب فضيلته ونقصانه في بابه. وهذه الرئاسة إن تركت بحسب فضيلتي العلم والعمل سميت سياسة الاختيار). ومونتيسكيو طالب بحكومة محكومة بالقوانين والفصل بين السلطات قريبة من تلك التي دعا إليها أرسطو وكذا الإكويني دعا إلى ملكية معدلة بأرستقراطية وديمقراطية، أي ملكية ولكن بجانبها مجلس أرستقراطي ينتخبه الشعب، وكذلك دعا ستيوارت ميل إلى قصر الانتخاب على المتعلمين والأكفاء أو إعطائهم أصواتا أكثر تحاشيا لعيوب الديمقراطية وحيلولة دون تحولها إلى غوغائية، لأنه لا يمكن بحال أن يتساوى صوت المتعلم المثقف مع صوت الأمي الجاهل، وهذا النمط السياسي المستلهم في الفكر السياسي القديم هو ما سماه أحد المعاصرين (دايفيد إيستلوند) مصطلح (الإبستوقراطية)، وهو مركب من مفردتي الإبستيمولوجية والديمقراطية، وهذا يعني حصرا للحكم والانتخاب في يد المتعلمين أو الأكثر تعلما وكفاءة، وإقصاء الأميين والجاهلين من المشاركة السياسية حفاظا على مقومات الدولة واستقرار نظامها السياسي، ولعل هذا المصطلح يذكر الجزائريين بالمصطلح الذي أطلقه الراحل محفوظ نحناح بداية التسعينيات على النظام الذي يسعى إلى إقامته، فقال إنه نظام الشورى-قراطية جمعا بين مصطلح الشورى الإسلامي ومصطلح الديمقراطية الغربي، في محاولة لتجاوز عيوب هذا وما يؤخذ عليه من تحفظات إيديولوجية وإجرائية وقتئذ، ووضع نظام الشورى في صيرورة الأحداث المعاصرة بعيدا عن أنموذجه التاريخي البسيط؛ حيث تقتضي الشورى-قرطية أن لا يمكن من تبوء المناصب التشريعية والتنفيذية والقضائية إلا ذوو الكفاءة العلمية الشرعية والمدنية، ولا يسمح للعامة الانخراط في مناصب كهذه. وعلى الرغم من الانتقادات التي ما انفكت تطال الديمقراطية، ليس بغرض تقويضها؛ بل بغرض تقويمها، إلا أنه في العالم العربي والجزائر ما يزال الكثير سواء من الطبقة السياسية أو النخبة المثقفة أو عموم المواطنين متمسكة بالمفهوم الكلاسيكي للديمقراطية، حيث يترشح من هب ودب إلى مناصب عليا كالبرلمان، رغم خطورة هذا المنصب في تشريع القوانين ورسم السياسات؛ بل إن الديمقراطيات الناشئة في العالم العربي، وبسبب الخطأ في فهمها تحولت فعلا كما تنبأ أرسطو إلى غوغائية وفوضوية، حيث ظن الشعب أن الحرية تعني الفوضى، الفوضى السياسية والاقتصادية بالخصوص، وهو ما يجعل حلم بناء مجتمع الفضيلة ودولة العدالة والحكم الراشد بعيد المنال؛ لاسيما وأن النخبة الفكرية المثقفة والمتعلمة وجدت نفسها طوعا أو كرها على هامش السياسة ورصيف الأحداث وخارج دائرة صنع القرار؛ مما يؤكد أن نقد الفلاسفة للديمقراطية لم يكن نقدا نخبويا بنظرة استعلائية ولكنه كان نقدا علميا مستشرفا لمآلاتها.
ع/خ

الرجوع إلى الأعلى