علي مراد.. المفكر العالمي المجهول في الجزائر
يكشف الأستاذ الدكتور احمد صاري الأستاذ بكلية الآداب والحضارة الإسلامية بجامعة الأمير بقسنطينة والعميد الأسبق لها في هذا الحوار جوانب خفية من الحياة الفكرية والاجتماعية للمفكر الجزائري الراحل علي مراد، بعد أن كانت له فرصة اللقاء معه بمسكنه بفرنسا منذ عشر سنوات؛ حيث يرى أن هذه الشخصية الكتومة التي تتحاشى الأضواء ضاربة بفكرها وقناعتها في عمق التراث الإسلامي الجزائري، لكنها بالمقابل شخصية منفتحة على الآخر حوارا وتعايشا واندماجا، فعلى الرغم من انشغاله بالكتابة والبحث في الحركة الإصلاحية وروادها بالجزائر؛ إلا أن ذلك لم يمنعه من الإسهام بمؤلفات أخرى في عالم الفكر الإسلامي بآراء و رؤى عالمية مسالمة منفتحة تعيش عصرها؛ مما يؤهل فكره لتبوء مكانة بين أفكار الكبار مستقبلا.
حاوره: عبد الرحمن خلفة
متى وكيف كان اتصالكم بالمفكر علي مراد؟
اتصالاتي الأولى بالمرحوم علي مراد تعود إلى منتصف الثمانينيات عندما التقيته بمدينة سطيف خلال فعاليات ملتقى الفكر الإسلامي، وبعدها التقيت به بفرنسان أثناء تحضيري للدكتوراه، وتعرفت عليه أكثر من خلال كتبه؛ ثم اتصلت به في 2008 لإجراء حوار معه وأخذ صورة له لحساب مجلة الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الأمير عبد القادر، وقد فضل الحديث بتلقائية بعيدا عن الرسميات، التي كان يتهرب منها طوال حياته. ولذلك فلا نتعجب إذا لم نعثر للأستاذ علي مراد إلا على صورة واحدة متداولة، كما لم يكن من هواة الفايسبوك ولا حتى البريد الالكتروني، ولحد الآن ليس لدينا معلومات عن طفولته ونشأته، التي كان بالإمكان التعرف عليها من خلال ما يكون قد تركه من ترجمة لنفسه، غير أن كاتبنا، ورغم مكانته المرموقة في ميدان الفكر الإسلامي المعاصر، كان حذرا إلى أقصى درجة، فهو يرفض الحديث عن نفسه، وقد لاحظنا ذلك من خلال مسيرته الذاتية والعلمية،كم كان يستقبلني بتواضع بمنزله، رغم مرضه، ويتحدث عن شتى الموضوعات، ويتجاوب معي في الرد على مكالماتي كلما اتصلت به.
كيف حدثك عن بداياته الأولى؟
حدثني أنه درَس بالمدرسة الثعالبية، وهي المدرسة التي أنشأت إلى جانب مدرستي قسنطينة وتلمسان ابتداء من سنة 1850، وتسمى بالمدارس الشرعية الثلاث. وكانت مهمتها تخريج الإطارات الدينية والعدلية والتعليمية،ومن بين أساتذته الذين ذكرهم إبن زكري ومشري. وحسب رأيه فإنه رفض مواصلة الدراسة بالثعالبية وطلب من أبيه الانتقال إلى نمط التعليم الآخر وهو التعليم العمومي، فدخل ثانوية بيجو –الأميرعبد القادر حاليا-ومنها أنتقل إلى كلية الآداب بجامعة الجزائر أين حصل على الإجازة، ويبدو أنه درَس بالتعليم الثانوي، ثم واصل بعد ذلك تعليمه الجامعي العالي.
رغم مرور نصف قرن على صدور دراسته حول الإصلاح الإسلامي في الجزائر من 1925 إلى 1940، وظهور العديد من الكتابات حول الموضوع، إلا أنها ما زالت تشكل إلى اليوم أهم مساهمة حول الحركة الإصلاحية 
متى بدأ نجمه يسطع في سماء الفكر بالضبط؟
لقد بدأ اسم علي مراد يسطع مع بدايات الخمسينات من القرن الماضي عند تأسيس أحمد طالب الإبراهيمي لجريدة «الشاب المسلم»Le Jeune Musulman)في 06جوان 1952، وهي جريدة شباب الجمعية الناطقة باللغة الفرنسية. فقد انضم مراد إلى هذا المشروع وأصبح من أهم ركائز هيئة تحرير الجريدة، وكان آنذاك طالبا بكلية الآداب بجامعة الجزائر. ومن أبواب الجريدة التي كان يشرف عليها تحت اسم مستعار، وهو أبو جميل طه، ركن «في ضوء القرآن والسنة»، كما كان يكتب باسم مستعار آخر هو محمد أعراب. هذا الاسم الأخير عرّف في العديد من أعداد الجريدة بالمفكر والمصلح المشهور محمد إقبال، وذلك بعد أن رافق أحمد طالب الإبراهيمي والده إلى باكستان في بداية الخمسينات وجلب معه العديد من كتب هذا المفكر، وهي باللغة الإنجليزية، فقام علي مراد بترجمتها والتعريف بها و بصاحبها.
هل حدثك عن ظروف مغادرته الجزائر بعد الاستقلال، وهل بقي متعلقا بها؟
عن قصة مغادرته الجزائر بعد الاستقلال وذهابه إلى فرنسا فهو لم يكن الوحيد، فقد رافقه العديد من الجامعيين الذين أصبح لهم شأن كبير في ميدان البحث العلمي الجامعي بفرنسا، كالمفكر محمد أركون وجمال الدين بن الشيخ وغيرهم. أما عن وضعه هو شخصيا فقد ذكر لي أن وزير التربية آنذاك، في حكومة الرئيس بن بلة ما بعد الاستقلال، عبد الرحمن بن حميدة لم يكن يرغب في بقاء هؤلاء بالجزائر، ومن ضمنهم هو. ورغم أنه غادر الجزائر مضطرا في يوم من الأيام، إلا أنه بقي رغم ذلك يزورها من حين إلى آخر، خاصة أثناء انعقاد ملتقيات الفكر الإسلامي، كما كان يتغنى ببلده الأصلي في أشعار وخواطر كان قد سلمها لي أثناء زيارتي له بمدينة ليون في صائفة 2008، وقد أراد أن يجعل الجزائر في مكانة مرموقة بين الدول عندما وضع ابن باديس في مصاف المصلحين الكبار في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر.
كيف كان وضعه العلمي والاجتماعي في فرنسا التي انتقل إليها واستقر بها؟
منذ انتقاله إلى فرنسا تولى علي مراد العديد من المسؤوليات العلمية منها مديرا  لمعهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة ليون3، وبعدها مديرا لنفس المعهد بجامعة السربون الجديدة باريس3، كما كان عضوا بالعديد من اللجان والهيئات الاستشارية والعلمية. وعلى الرغم من حذره وابتعاده عن الظهور، خاصة في بعض الفترات التي شهدت فيها فرنسا نقاشا ساخنا حول الإسلام والمسلمين في فرنسا، بداية من الثمانينات وما بعدها، إلا أنه كان منخرطا في النقاش الذي كان يدور آنذاك، خاصة بمساهماته الفكرية التي كان يبعث بها من حين لآخر لجريدة «لوموند» الفرنسية، وكان من الأوائل الذين اقترحوا  تأسيس منظمة للمؤتمر الإسلامي بفرنسا )14 فيفري 1997(A quant une Conférence Musulmane de France، كما أن علي مراد، ونظرا للتحديات التي كانت تطرح على الإسلام بأوربا، بسبب مجاورته لديانات أخرى، خاصة المسيحية واليهودية، قد بادر إلى الانخراط في حوار إسلامي-مسيحي، خاصة بمساهماته واشتراكه في الاجتماعات التي عقدت لهذا الغرض. كما ساهم بالعديد من الكتابات التي تعنى بالحوار ما بين الأديان؛ «الإسلام والمسيحية في حوار»، «أليس لدينا أب واحد»، «الحوار الإسلامي المسيحي: من أجل البحث عن لغة مشتركة» الخ....
 ومع اهتمام علي مراد بالنشاط الجمعوي وبإشكالية التواجد الإسلامي بفرنسا وبالحوار ما بين الأديان، إلا أنه لم يبتعد عن مهمته الرئيسية وهي البحث العلمي. وقد ساعدته على ذلك ثقافته الإسلامية الواسعة التي اكتسبها منذ طفولته التي باشرها بالمدرسة القرآنية بالأغواط ثم أكملها بالمدرسة الثعالبية واختبرها وأكدها من خلال عيشه في كنف الحركة الإصلاحيةومساهماته الكتابية خاصة في جريدة «الشاب المسلم»، أين أظهر، رغم حداثة سنه تمكنا من الثقافة العربية الإسلامية.
ماذا في ميراث هذا المفكر، وما أبرز ما ترك في حقل الدراسات؟
لقد مكنه تكوينه الرزين وتمكنه من القرآن الكريم ولغته العربية، وأيضا من اللغة والثقافة الفرنسية، أن ينجز في ما بعد أهم دراسة حول الحركة الإصلاحية في الجزائر بعنوان الإصلاح الإسلامي في الجزائر من 1925 إلى 1940، وهي الدراسة التي ناقشها بجامعة السوربون «بتألق»، حسبب أندري آدم، الذي قدم لها في مجلة الغرب الإسلامي والبحر المتوسط. وهذه الدراسة التي نشرت سنة 1967 تعتبر الأولى من نوعها التي تعمق فيها صاحبها في سبر أعماق تطور الإصلاح في الجزائر والمبادئ العقائدية التي قام عليها خلال فترة الشيخ عبد الحميد بن باديس، مستهلا عمله بنشأة هذه الحركة غداة الحرب العالمية الأولى، معرفا بأهم الشخصيات الإصلاحية المؤثرة، إلى جانب ابن باديس، والتي أطلق عليها تسمية «مدرسة الشهاب». وفي الشطر الثاني من الكتاب غاص الباحث في المبادئ العامة للحركة الإصلاحية في الميادين الدينية، الثقافية، الاجتماعية والسياسية. ورغم مرور نصف قرن على صدور هذه الدراسة،وظهور العديد من الكتابات حول الموضوع، إلا أنها ما زالت تشكل إلى اليوم أهم مساهمة حول الحركة الإصلاحية. وقد أكمل علي مراد عمله هذا بدراسة أخرى لا تقل أهمية بعنوان إبن باديس مفسرا للقرآن والتي نشرت سنة 1971. وقبل هذه الدراسات الموسعة والجامعة كان علي مراد قد شرع منذ الستينات في نشر أعمال تدور في معظمها حول الإصلاح في الإسلام؛ «أصول وطرق الإصلاح في الإسلام»، (1960-1961) “المرابطية والإصلاح في الجزائر»(1965)، كما نشر مقالا معمقا حول»الإصلاح» بالموسوعة الإسلامية (1976)عاد فيه إلى أصول الإصلاح، جذوره التاريخية، مفهومه وتطوره.
هكذا حدثني عن ظروف مغادرته للجزائر التي لم يفقد ارتباطه بها
ويطول الكلام هنا للحديث عن مؤلفات علي مراد، غير أن ما يمكن الإشارة إليه هو اختياره من قبل السلسلة الفرنسية المعروفة ماذا أعرف؟ Que-sais-je
لإنجاز بعض الدراسات الأساسية ومنها كتاب الإسلام المعاصرالذي ظهرت الطبعة الأولى منه سنة 1984 وخلال10 سنوات فقط طبع 05 مرات متتالية) الطبعة الخامسة 1995(، كما ترجم الكتاب إلى لغات عديدة. ومن المعروف أن كتَاب هذه السلسلة من المؤلفين المرموقين في تخصصاتهم، ولذلك فلا غرابة أن يحظى هذا المؤلف في الكتابة عن التطورات التي شهدها الإسلام والعالم الإسلامي منذ نهايات القرن الثامن عشر. وهو الأمر نفسه الذي أهله أن يتولى تأليف كتابين آخرين في نفس السلسلة الأول بعنوان La Tradition Musulmane والثاني بعنوان تفسير القرآنl’Exégèse coranique، هذا بالرغم من اهتمام المؤلف بالقضايا الإسلامية المعاصرة ووجود العديد من المختصين في هذا المجال، والذين كان بإمكانهم تولي هذه المهمة.
ألم يكن علي مراد منزويا عن الحراك مما ساهم في عزلته إعلاميا؟
بالعكس، فهو و إن كانت اهتماماته مركزة على التاريخ الديني والاجتماعي، إلا أنه لم يكن منقطعا عن واقعه وعن المجتمع الذي كان يعيش بداخله، صحيح أنه كان يبتعد عن المشاركة في النقاشات الإعلامية الساخنة، إلا أنه كان يساهم من حين إلى آخر باقتراحاته لإيجاد حلول للمشاكل التي كانت تطرح بالخصوص على المسلمين بفرنسا وأوربا، فقد كان عضوا باللجنة الوطنية للفرنسيين المسلمين،وكانت وسيلته الإعلامية المفضلة في ذلك جريدة لوموند الفرنسية Le Mondeذات المقروئية الواسعة. لكن رغم هذا فحسب الأخبار الواردة من مدينة ليون الفرنسية، مكان استقراره ووفاته في 23 ماي الأخير، أن جنازته لم يحضرها إلى القليل من المشيعين، كما أن وسائل الإعلام لم تنتبه و انتبهت باحتشام إلى أهمية هذه الشخصية العلمية إلا بعد عدة أيام من وفاته. فمكانته العلمية وآراؤه الفكرية حول الإسلام والمسلمين وانخراطه في العمل الجمعوي بفرنسا ومحاولاته فتح حوار ما بين الديانات في فرنسا كل هذا لم يشفع له.
كلمة أخيرة:
بوفاة علي مراد تكون الدراسات الإسلامية قد فقدت أحد أكبر أعمدتها، ويبدو أنه من الصعب تعويضه في الآجال القريبة. فرحمة الله عليه وأسكنه فسيح جنانه.

علي مراد في سطور
 ولد علي مرّاد في الأغواط في 21 أكتوبر 1930.
 حفظ القرآن الكريم صغير بمسقط رأسه
 تحصل على الليسانس من كلية الآداب بجامعة الجزائر في اللغة العربية في سنة 1954.
 شهادة التبريز في سنة 1956 من جامعة السوربون بباريس
  دكتوراه الدولة في الآداب في سنة 1968 بجامعة السوربون بباريس بأطروحة حول الحركة الإصلاحية في الجزائر بين 1925و1940
 اشتغل أستاذا ثم مديرا لمعهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة ليون 3
 أستاذا في جامعة باريس 3، بداية التسعينيات
 مدير لمركز دراسات المشرق المعاصر التابع لجامعة ليون خلفا للمفكر محمد أركون.
 من مصنفاته:
الحركة الإصلاحية في الجزائر بين 1925و1940
ابن باديس مفسرا للقرآن
نور على نور.
صفحات من الإسلام.
مدخل إلى الفكر الإسلامي
 السنة النبوية
 شارل دو فوكو في نظر الإسلام
 الإسلام والمسيحية في حوار
 الإمبراطورية العثمانية وأوروبا من خلال أفكار وذكريات السلطان عبد الحميد الثاني،
الخلافة، سلطة للإسلام
الإسلام المعاصر، الذي عرف رواجا كبيرا وترجم إلى عدة لغات عالمية منها: الإنجليزية والعربية والتركية والاسبانية واليونانية والرومانية والسويدية وغيرها.
 نشر في بعض المجلات والحوليات؛ منها: حوليات جامعة الجزائر، وحوليات جامعة اكس-أون بروفانس/ فرنسا، ومجلة كونفليو (باريس)، وأوريو (الشرق، باريس)، والمناهل (الرباط/ المغرب)، والمجلة التاريخية المغاربية (تونس)، وغيرها، وساهم في كتب جماعية لمراكز وجامعات منها: المركز الثقافي الجزائري بباريس والمجلس الأوروبي وجامعة الدول العربية…الخ
أرّخ لتطور الصحافة الجزائرية بين 1919و1939، وتاريخ التعليم في الجزائر بين 1880و1960.
خصص دراسات لرواد الإصلاح في العالم الإسلامي أمثال: محمد عبده، محمد إقبال وأبو الأعلى المودودي وغيرهم
تأثر بالإمام عبد الحميد بن باديس وعده أفضل رائد للإصلاح في العالم الإسلامي
شارك عدة مرات في ملتقيات الفكر الإسلامي بالجزائر.
شارك في منتديات الحوار الإسلامي-المسيحي، والحوار الإسلامي –العلماني بفرنسا.
 توفي يوم 23 ماي 2017م بفرنسا ودفن بها

الرجوع إلى الأعلى