حـيـن يتـحــوّل المـثـقـف إلى عـنـوان للـمـكـان
هنا كتب نجيب محفوظ وخطب الأفغاني ودخن بومدين
اقتفت النصر أثر المشاهير من الأدباء والمصلحين والسياسيين وأهل الفن والثقافة بالقاهرة، في مجالسهم المفتوحة في الفضاء العام، حين كان للمقهى حضورها الفاعل في صيرورة الأحداث وحركة التمدن، ففي كل ركن منها قصة إبداع وصوت ثورة، وضعت الأمة المصرية ومن خلفها الأمة العربية على بادرة الحضارة والتمدن، فبين قاهرة المعز القديمة وقاهرة الإنجليز المحتل تتزاحم المقاهي، وفي أرجاء كل واحدة منها أثر من بقايا الزمن الثري يناديك لتقترب ثم يناجيك إذا دخلت، كاشفا هوية من جلس يخطط ويفكر، وشخصية من قرأ وتدبر، واسم من أبدع وترك بقلمه أثر.
د. عبد الرحمن خلفة

مقهى الفيشاوي: 200 سنة لتهدي للعرب جائزة نوبل للآداب
على بعد عشرات الأمتار من الأزهر الشريف، وبمحاذاة مسجد الحسين وضريحه تقبع مقهى الفيشاوي في حي خان الخليلي الذي يتجاوز عمره 600 عام، مقهى تجاوز 200 سنة، ظل فضاء مفتوحا على الإبداع والحوار السياسي والثقافي، قصدته مئات الشخصيات الثقافية والسياسية، سلكنا أزقة تعلوها أسقف خشبية حتى وصلنا إليه، وأخذنا طاولة رفقة عميد كلية الشريعة والاقتصاد وطلبنا أكواب شاي؛ وفي تلك الأثناء جاء صاحب المقهى ليرحب بنا فكان ترحيبه فرصة سانحة لنسأله عن كبار رواد المقهى، فقال إنه مقصد الكثير من الأدباء على رأسهم نجيب محفوظ وجمال الغيطاني، وقد أخذنا إلى خلوة داخل المقهى وكشف لنا خلوة نجيب محفوظ، هنا كان ينزوي ليكتب؛ أحيانا يكون مع جمع مع المثقفين، وفي جل الأحيان يكون وحده متأملا بعد أن يستلم قهوته المفضلة، أين يتلقى الإلهام ليبدع روايات، وفي هذه الخلوة ولدت الكثير من رواياته على غرار روايته خان الخليلي (1946)، التي حولت إلى فيلم، وثلاثيته (بين القصرين (1956)، قصر الشوق (1957)، السكرية (1957)) التي نال بها جائزة نوبل لآداب سنة 1989م، وحولت هي الأخرى إلى أفلام ومسلسلات، وغيرها من الروايات التي باشر تأليفها منذ سنة 1932م،  والكثير منها تجري أحداثها في أزقة هذا الحي الأزهري الحسيني الفاطمي، ومقهى الفيشاوي ماتزال إلى اليوم محافظة على أصالتها، يرتادها المصريون والسواح لتناول الشاي والقهوة وتدخين الشيشة التي أدخلها محمد علي، وحيثما رفعت رأسك تظهر لك صورة أو جدارية تخلد بعض من عبر المقهى، بل إن ثمة سجلا لكبار الزوار يوقعون فيها كما يوقعون على السجلات الذهبية. وقد صادف جلوسنا فيها وجود فريق تلفزيون يمن كوريا كان يسجل شريطا حولها، وكراسيها الخشبية أيضا تشي بعبق الماضي ورائحته الزكية، في حي عربي بأقواس وأسقف شبيهة بالمدن العربية القديمة في تونس وبغداد ودمشق وقسنطينة وغيرها.
غادرنا مقهى الفياشوي ، ونحن نسير في دروب خان الخليلي استوقفتنا لافتة إشهارية كتب عليها مقهى نجيب محفوظ، علمنا بعذئذ أن مقرها تحول إلى مقهى سنة 1989م وهو العام الذي نال فيه نجيب جائزة نوبل، حيث تيمن صاحبها باسمه، وحضر الأديب افتتاحها، ثم أصبح يلازم حضورها في طاولة خاصة به، يكتب فيه عليها ويشرب قهوته المفضلة، ، وحاليا ما تزال طاولته موجودة حيث وضعت فوقها صورة نجيب و بعض رواياته.
مقهى الفيشاوي أشهر مقاهي القاهرة القديمة، قاهرة المعز والأيوبيين، فإلى جانب نجيب محفوظ الذي يعد أشهر كاتب يرتادها بانتظام، قال لنا شخص طاعن في السن لقد كان يرتادها هواري بومدين لما كان طالبا هنا بالأزهر الشريف، وهو ما أكده لنا صاحب المقهى، فقد كان الرئيس الراحل الطالب يتخذ ركنا يحتسي فيها القهوة والشاي ويدخن سيجاره المفضل، وليس غريبا أن يقصد بومدين تلك المقهى؛ لأنها قريبة من الأزهر الذي درس فيه،ومكانها يفوح بعبق الماضي منذ العهود الغابرة، ولا مناص من أن يكون ملتقى للطلبة الجزائريين وقتئذ من الذين استقبلتهم القاهرة إبان الاحتلال الفرنسي وثورة التحرير، إن المقهى متنفس الجزائريين وفضاء لتبادل النقاش الفكري والسياسي، ليس بينهم فحسب بل أيضا بينهم وبين العرب من الذين يشاطرونهم قضاياهم، وتذكر بعض المصادر أنه المقهى استقطب إليه منذ مائتي سنة عشرات المفكرين والمصلحين والمثقفين والسياسيين وأهل الفن، ومنهم جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والرئيس الجزائري بوتفليقة والرئيس اليمني علي عبد الله صالح، والرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، وعمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية الذي اصطحب معه عددا من وزراء الخارجية العرب، وبطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة والحائز على جائزة نوبل الدكتور أحمد زويل، الذي يرتادها هو الآخر، وكأني بها كانت فأل خير عليه وعلى نجيب محفوظ، حين كانت بوابتهما للعالمية وحصد جائزة نوبل، وتذكر ذات المصادر أن الكثير من فناني المحروسة قصدوا المقهى، ومنهم، محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وسميحة أيوب وكمال الشناوي وعزت العلايلي وفاروق الفيشاوي وليلى علوي ومحمود عبد العزيز ونور الشريف وعادل ادهم واحمد زكي ومحمد هنيدي ومنى زكي وحنان ترك واحمد السقا واحمد حلمي وغيرهم.
ثم توغلنا أكثر في أزقة خان الخليلي والحسين نحو الأزهر الشريف والأزقة المحيطة به، وفي كل زنقة تظهر مقهى، لا يقل عمر الواحدة منها عن الثمانية عقود، وفي كل مرة كانت كراسيها تعود بنا إلى الماضي الثري، أين تتجلى ملامح من جلسوا فيها وجالسوها، من كبار العلماء والمفكرين والمصلحين الذين ارتبطوا بالأزهر بشكل أو بآخر، طلبة أو أساتذة أو زوارا له، منذ القدم، على غرار الإبراهيمي والغزالي والشعراوي والمراغي ورشيد رضا وعبلي عبد الرازق ومحمد الخضر بك وعبد الحليم محمود وغيرهم من الذين ارتادوا مقهى من عشرات المقاهي هناك لم نشأ البحث في مقاهيهم الخاصة؛ لأن المكان يفوح بعبقهم، وفي كل زاوية تعبر نسمة تحمل معها ريحا طيبة من آثارهم؛

مقهى أم كلثوم: شدى صوتها على مدار اليوم يعانق صوت  عبد الحليم
غادرنا المكان وقصدنا وسط القاهرة الذي لا تقل مقاهيه أهمية في علاقتها بالمشاهير، فعلى يسار نهج عرابي المتفرع عن شارع عماد الدين خلف ساحة آخر ساعة وسط المدينة اسوقفنا تمثالان نصفيان لأم كلثوم في مدخل مقهى جميل، فتقدمنا نحوه، مستفسرين عن سبب هذا التفضيل الكلثومي، فقيل لنا إنها المقهى التي كانت تقصدها أم كلثوم، ثم قادنا النادل إلى داخل المقهى وأطلعنا على الركن الذي كانت تأوي إليه رفقة شعرائها وملحنيها، وقد رسمت لها صورا جداريه بالمقهى، مع أشهر الفنانين أمثال فريد الأطرش وصباح وفيروز وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب، وعلى وقع صوتها الذي لا ينقطع طول اليوم المنبعث من أرجاء المقهى وهي تشدو بأجمل أغانيها، طلبنا كوب قهوة نسكافيه، وقد قيل لنا إن هذا هو ديدن المقهى حيث لا ينقطع صوتها ولا يعوض بغيره، لتكون مسقطبة لزبائن مولعين بفنها. وعلى يمين باب مدخل المقهى علقت جدارية كبيرة تعرف بأم كلثوم وتكشف عن أسماء من كانت تجالسهم هناك من شعراء وملحنين وصحفيين، على غرار رياض السنباطي وزكريا أحمد، ومصطفى أمين، وعلي أمين، وجدارية أخرى تشير إلى تاريخ تأسيس المقهى الذي يعود إلى سنة 1948م.
وعلى بعد بضعة أمتار من مقهى أم كلثوم في الجهة المقابلة مقهى عبد الحليم حافظ، اقتربنا فوجدنا صوته ينبعث من الداخل، وعلى الجدران علقت صوره ، كما علقت صوره أيضا بواجهة المقهى التي تعج أكثر بشباب من الجنسين يحتسون الشاي ويدخنون الشيشة، لم يكن المقهى بالأبهة التي يظهر عليها مقهى أم كلثوم ولكنها مميزة بشكلها وموقعها ومظهرها؛ بل إن سعر القهوة في مقهى أم كتلوم ثلاثة أضعاف سعره في مقهى عبد الحليم، حيث دفعنا هناك 20 جنيها للنسكافيه.
مقهى ريش: هنا ولدت مشاريع ثقافية وسياسية وثورية: من مصر إلى الجزائر
ونحن في طريقنا إلى ميدان التحرير استوقفتنا مقهى ، وضع في واجهته صورة طه حسين،لم نشأ الدخول؛ لأن الفضاء الخدماتي بدا لنا خليطا من المشروبات الساخنة والباردة، العادية والكحولية، فسألنا عما تخفيه هذه المقهى من أسرار تاريخية فقيل لنا إنها أسست سنة 1916، وبداخلها صالون ثقافي وصور وقصاصات وقصص وكتب وجرائد قديمة لأشهرالكتاب والمفكرين الذين كانوا يرتادونها، وملصقات لأحداث ثقافية تاريخية، وتشير بعض المصادر الإعلامية إلى أن هذا المقهى كان ملتقى الأدباء والمثقفين أمثال أديب نوبل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وصلاح عبد الصبور، وأحمد فؤاد نجم، وسيد حجاب، والبياتي، وغيرهم، وكان نجيب محفوظ يعقد بها ندوة أخرى كل جمعة، ويقول محد عبد الواحد صاحب كتاب (حرائق الكلام) لقدد ارتبطت بمقهى ريش عشرات الأسماء الشهيرة على الصعيدين السياسي والثقافي، وكانت المكان الأول الذي ولدت فيه مشروعات مختلفة في السياسة والفن وحركات التحرر الوطني من مصر إلى الجزائر، فقد ولدت فيها فكرة إصدار مجلة الكتاب المصري التي تولى رئاسة تحريرها طه حسين ومجلة الثقافة الجديدة التي رأس تحريرها رمسيس بونان، وكان زعماء ثورة 1919م يجتمعون سرا بها.
مقاهي أخرى لها تاريخ
كان صعبا التعرف على كل مقاهي القاهرة ذات الصيت العربي التي ارتادها المشاهير، لكن حصلنا على بعض المراجع التي كشفت عن الكثير منها، وقد تتاح لنا فرصة زيارتها مستقبلا، ويذكر صاحب كتاب (حرائق الكلام)، أن مقهى (متاتيا) الواقعة بين ميداني العتبة والموسكي شهدت الإعداد لثورة 1919م، وهي المقهى التي كان يرتادها أكبر زعماء الإصلاح والثورة والتحرير، ومنهم أستاذهم جمال الدين الأفغاني وتلاميذه محمد عبده وعبد الله النديم وسعد زغلول ومحمود سامي البارودي وسليم النقاش وأديب إسحاق وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي، وغيرهم من الذين صنعوا تاريخ مصر وحكموها بفكرهم أوبسياستهم، وفيها ألقى الأفغاني خطبته الشهير لأهل مصر ومما جاء فيها: (إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنـزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم ومواد غذائكم المجموعة بما يتحلب من عروق جباهكم بالمقرعة والسوط، وأنتم ضاحكون، تناوبتكم أيدى الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد، والمماليك، ثم الفرنسيين والعلويين كلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ويهيض عظامكم بأداة عسفه وأنتم كالصخرة الملقاة فى الفلاة لا حس لكم ولا صوت، انظروا أهرام مصر وهياكل ممفيس وآثار طيبة ومشاهد سيون وحصون دمياط شاهدة بمنعة أجدادكم، وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرشيد فلاح. عيشوا كباقى الأمم أحرارا.. أو موتوا شهداء مأجورين). ولكن هذه المقهى ضربها زلزال سنة 1992 ثم هدمت نهائيا سنة 1999م. وكذا مقهى البستان، وهي التي تسمى ملتقى « الأدباء والفنانين « حيث كان نجيب محفوظ يعقد ندوته كل ثلاثاء، وأبدع فيها علاء الأسواني «شيكاجو»، و»عمارة يعقوبيان»،ومقهى الحرية التي لا تبتعد كثيرا عن مقهى البستان، وكان الضباط الأحرار من أشهر روادها وعلى رأسهم الرئيس الراحل أنور السادات، والفنانين أحمد رمزي، ورشدي أباظة، وشكري سرحان.
لم يكن ممكنا الجلوس بكل مقاهي القاهرة التي يحصي بعضهم منها أزيد من 10 آلا ف مقهى ظلت تتوالد تباعا منذ العصر الفاطمي إلى اليوم، وفي كل ركن منها حكاية قلم وقصة فكر، ونسمة عطر، لأن القاهرة بحجم دولة، وهي تحتاج إلى زيارات متتالية لاكتشاف معالمها، واقتفاء آثار من عاش فيها أو عبرها من المشاهير، وفوق هذا لابد من نفسية صبورة بحس إعلامي وعين دقيقة الملاحظة في تفاصيل الأشياء وجزئياتها، لكنها أعني المقاهي تبقى أثرا حسيا يمكن من خلاله استقراء مراحل التمدن المصري؛ بل العربي، الذي سار جنبا إلى جنب مع كوب القهوة وامتد بامتداد رائحتها؛ ألم يقل البعض إن الحضارة الحديثة مدينة في ظهورها بأوروبا للقهوة العربية ! عندما أخرجت الناس من سكر الحانات إلى صحوة المقاهي فبدأوا يفكرون ويتحاورون ثم يثورون.                       
ع/خ

الرجوع إلى الأعلى