الخطاب النقدي الدرامي الأكاديمي تأخر عن مواكبة المسرح الجزائري

التجريــــــب سمـــــة مميـــــــزة للمســـــــرح الجزائـــــــري

في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والباحث الدكتور محمد تحريشي، عن المسرح الجزائري والتجريب، وعن الخطاب النقدي الصحفي الجزائري، وتأخر النقد الدرامي في مواكبة المسرح وتجاربه المختلفة الطالعة من مختلف المسارح الجهوية في الوطن. كما يتساءل الباحث عن غياب صرح خاص بالمسرح والتمثيل في الجزائر على غرار ما هو موجود في بعض الدول العربية. كما قال في ذات السياق أنّه لولا بعض الجهود الفردية الجريئة التي أخذت على عاتقها دراسة المسرح الجزائري وتتبع تطوّره التاريخي والاهتمام باتجاهاته وبرجاله، لما أمكن وجود بحوث أكاديمية الآن تهتم بالتجربة المسرحية الجزائرية. الباحث لم يغفل أيضا الحديث عن المسرح قبل وبعد الاستقلال. كما تطرق لشؤون أخرى ذات صلة بهذا الفن. للباحث عِدة مؤلفات من بينها: "أدوات النصّ"، "النقد والإعجاز في الرّواية، القصّة والمسرح". كما له كتاب من تأليف جماعي حول «إبراهيم درغوثي». للإشارة تحريشي، هو دكتور في النقد الأدبي، ويشغل منصب عميد كلية الآداب واللغات بجامعة بشار.

تناولت في دراسات سابقة، الخطاب النقدي الدرامي الصحفي في الجزائر، وحاولت ملامسة بعض إشكالاته ونقائصه. ما الّذي يمكن أن تقوله في هذا الشأن؟
محمد تحريشي: إنّ الحديث عن الخطّاب النقدي الدرامي الصحفي في الجزائر حديثٌ ثلاثي المضامين بمكوناته (نقد-مسرح-صحافة)، وبمعطياته المعرفية، والوظيفية، ولعلّ الرابط بينها هو الاشتراك في هذه المعطيات، فتكاد تجتمع حول حقل دلالي واحد هو الذيوع والانتشار والإخبار والإيصال بين طرفين، مرسل ومتلقِ، وقد يكون الفارق الوحيد بينها هو الطريقة والوسيلة والأداة، أمّا الهدف فهو الوصول بالمتلقي إلى درجة من الوعي والنضج والشعور بالمتعة والتسلية.
إنّ الخطاب النقـدي والمسرح والصحافـة أشكالٌ تعبيرية إخبارية تعتمد على المعاينة والملاحظة والشرح والتفسير والتحليل لتولد إحساسا بالجمال عند المتلقي. إنّها قراءة واعية للواقع بأنماط تعبيرية متخصصة، تولد لدى المُتلقي معرفة بالعمل موضوع الحديث وإحساسا بالمتعة والجمال واللّذة الفنية، ويقع السؤال عن العلاقة الإسنادية المشكلة لهذا العنوان، ويبدو أنّنا نولي أهمية كبرى للنقد ولهذا ذكرناه أوّلا، لأنّ الإبداع يرتقي ويُحلِّق بعيدا إن رافقه نقد يكشف عن خصوصيته الجمالية والفنية، ويهتم بقدراته التعبيرية وهو نوع من الممارسة الإبداعية لا تقل أهمية عن المسرح الذي قد يوجد قبل وجود النقد من خلال تلك الممارسات الطقوسية للإنسان لما وعى وجوده على هذه الأرض، وأراد أن يعبر عن هذا الوجود بطريقة فنية تمتع النفس وتغذي الرّوح وتطوع الجسد، وتمدّ المتفرج بمعرفة لم يكن يدركها قبل استقباله للعرض، وإذا ما قبلنا بهذه الثنائية «نقد/مسرح» فإنّنا نضيف عنصرا ثالثا لهذه العلاقة الإسنادية المؤسسة لموضوع النقد المسرحي الصحفي، ويقوم هذا «الصحفي» بدور أساس فهو بمثابة الرِجل الثالثة التي تنبث البناء وتجعل قواعده متينة وأكثر صلابة، وتحفظ له توازنه واتزانه. ويشترك هذا العنصر مع سابقيه في أنّه يعطي للنقد والمسرح فضاء آخر أرحب وأوسع حيث يضيف إلى المتلقين جمهورا آخر من القراء يحسن القراءة والكتابة بلغة العرض والنقد، خاصة وأنّ العروض المسرحية الجزائرية كانت -في أغلبها- باللهجة أو بالعامية بينما كان النقد والتغطية الصحفية عبر الجرائد باللّغة العربية أو باللّغة الفرنسية في مقالات نقدية أو تقارير صحفية أو أخبار إعلامية.
لماذا برأيك تأخر الخطاب النقدي الدرامي الأكاديمي في مواكبة المسرح الجزائري. ولماذا ظلّ ملتبسا ومتداخلا. هل يعود هذا إلى تقاعس الباحث الذي ربّما لا يجتهد بما يكفي من أجل عملٍ أفضل في مجاله وتخصّصه؟
محمد تحريشي: تراود الباحثَ في المسرح الجزائري مجموعةٌ من الأسئلة التي تبحث في جوهر التجربة المسرحية الجزائرية، ويجد هذا الدارس نفسه مشدودا إلى متتالية من السؤال عن علاقة الخطاب النقدي الدرامي في الجزائر بالدراسات الأكاديمية والبحوث الجامعية؟ ثم ألم يكن هذا التوجه -في بدايته- نوعاً من الترف العلمي؟ ولماذا نشأ المسرح في الجزائر بتجارب فردية بدءاً بـــ»باشطرزي» ومرورا بــ»ولد عبد الرحمن كاكي» ووصولا إلى «عبد القادر علولة» و»زيان شريف عياد»... وغيرهم؟.
ارتبط هذا الوجود بالخشبة ولم يقتحم المسرح صرح الجامعة إلاّ في السنوات الأخيرة من القرن العشرين وانتظر طويلا، ولولا بعض الجهود الفردية الجريئة، التي أخذت على عاتقها دراسة المسرح الجزائري وتتبع تطوّره التاريخي والاهتمام باتجاهاته وبرجاله، لما أمكن وجود بحوث أكاديمية الآن تهتم بالتجربة المسرحية الجزائرية.
ويشتكي المبدعون كثيرا من غياب الخطاب النقدي الدرامي على عمومه، وغياب الخطاب النقدي الدرامي الأكاديمي على وجه الخصوص. بل كانت هناك قطيعة بين الطرفين فالتزم المسرحي بركحه، وانزوى الأكاديمي في صرحه وكلّ طرف يشعر بضرورة التوجه نحو الثاني.
لماذا برأيك حتى الآن لم تعرف الجزائر صرحا خاصا بالمسرح والتمثيل يفي بحاجة وهموم هذا الفن؟
محمد تحريشي: نعم هذا صحيح، وعلى الرغم من هذا كله يبقى السؤال لماذا لم تعرف الجزائر صرحا خاصا بالمسرح أو التمثيل على غرار بعض البلدان العربية كمصر بمعهدها العريق «المعهد العالي للتمثيل» وسورية كذلك بـ»المعهد العالي للتمثيل» والّذي بدأت الدراما العربية السورية تجني ثماره منذ سنوات؟.
أليس محيرا أن تمتدّ التجربة المسرحية في الجزائر إلى العشرينات من القرن الماضي ولا تجد لها طريقا إلى الجامعة الجزائرية إلاّ في وقت متأخر؟ ولا يكلف الأكاديمي نفسه عناء البحث في هذه التجربة المميزة إلاّ عبر جهود فردية دفعتها مجموعة من الحوافز لاختيار المسرح الجزائري موضوعا للبحث والدراسة، وخاصّة عند طلاب الدراسات العليا الجزائريين في الخارج من أمثال رشيد بوشعير ونصر الدين صبيان وأحمد جكاني... في الثمانينات من القرن الماضي.
وواجهت الدراسات الأكاديمية المهتمة بالمسرح الجزائري مشكلة في بداية الأمر تتعلق بالمسافة التي كانت تفصل بين هؤلاء الباحثين وهذه التجربة التي لم يتلقوا عنها شيئاً في تكوينهم السّابق، وكان توجههم هذا بمثابة المغامرة والتوجّه نحو المجهول، فتملَّكهم نوع من الإعجاب والدهشة والحيرة العلمية والخوف من أرض لا يعرفون تضاريسها. ولذا احتاج هذا الفريق من الباحثين إلى أكثر من الجرأة والشجاعة.
ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة إلى عالم المسرح الجزائري الذي كان في أغلبه مسرحيات شفوية لم تدوّن، وكم كان العمل مضنيا. فتم الاتصال برجال المسرح كولد عبد الرحمن كاكي ومصطفى كاتب وغيرهما كثير، وجمعت تلك الأعمال والعروض والنصوص التي كان بعضها في حال مزرية، ووظفت رواية الأخبار والرحلات والجمع والتدوين والنسخ أدوات إجرائية للوصول إلى المدونة المسرحية الجزائرية.
وواجه الرعيل الأوّل من الأكاديميين صعوبات جمّة في إنجاز عملهم وهم يؤسسون ويؤصلون للمسرح الجزائري. كان المنهج التاريخي مفضلا في هذه الدراسات. وكم كان ملائما ومساعدا للباحثين الذين كان عليهم تتبع هذه التجربة المسرحية في حقبة زمنية طويلة تستمر لسنوات لمعرفة التطوّر الطبيعي للحركة المسرحية في الجزائر، ثم ظهرت دراسات أكاديمية استفادت كثيرا من المناهج النقدية الغربية ومن مصادر المسرح العالمي، وتجارب رجال هذا المسرح، واستطاعت أن تنقل البحث إلى أفاق رحبة بما توّفر لها من إمكانات علمية ومعرفية ومنهجية لدى القائمين عليها فاستنبطوا أدوات إجرائية خاصة بقراءة هذا المسرح.
تذهب دراسات كثيرة إلى أنّ المسرح الجزائري قائم على التجريب منذ أن وُجِد، وهذا ما مكّنه من التجدّد والتطور. ما رأيك؟
محمد تحريشي: لعل أوّل مرحلة هي مرحلة ما بعد زيارة جورج أبيض إلى الاستقلال، حيث جرّب الجزائريون المسرح وسعوا إلى تشكيل مسرح كلاسيكي، وأنشأت الِفرق المسرحية كجمعية الآداب والتمثيل العربي التي قدمت ثلاث مسرحيات خلال أربع سنوات، وتوالت التجارب المسرحية، هنا وهناك، ساعية إلى تعميق الممارسّة المسرحية ليصبح التجريب المسرحي أكثر نضجا.
وكلّما تعطلت تجربة أو توقفت، ظهرت تجربة أخرى مستفيدة مما سبقها ساعية إلى استثمار عناصر فنية وتوظيف أشكال تعبيرية جديدة تناسب المرحلة الزمنية، وكانت اللغة العربية الفصحى أداة فنية لتأكيد التمايز اللغوي عن المستعمر، وأسهم هذا الوجود اللغوي في إضفاء خصوصية مسرحية جزائرية تُمكِّن من تمرير الخطاب المرغوب فيه.
وظهرت تجربة أخرى مع المسرح الشعبي الذي يستثمر الموروث الشعبي والأشكال الاحتفالية، وأصبحت العروض تُقدم بالعامية وتستعمل لغة شعبية مبسطة، وتضمّن النصّ بعض الأغنيات الساخرة، وتستخدم المواقف الهزلية، وتعتمد على لوازم مشهدية كالديكور والملابس.
وكانت تجربة قسنطيني مميزة خاصّة في مسرحيتيه «بوعقلين» و»جنون بوبرمة» اللتان تعرضتا للحالة السياسية في الجزائر، وقد وظّف المشاهد الهزلية كما اعتنى بالتقاليد الشعبية. ولم يكتفِ بهذا بل جرّب عن طريق ترجمة بعض المسرحيات العالمية.
وكان هناك توجهٌ آخر شجع المسرح المكتوب بالفصحى ودعا إليه خاصّة أنّ المجتمع تغير مستواه الثقافي بفعل جهود جمعية العلماء المسلمين، فألف محمد العيد آل خليفة مسرحية «بلال بن رباح» سنة1938، وتبعه أحمد توفيق المدني بمسرحية حنبعل1948، وعبد الرحمن الجيلالي بمسرحية «المولد». وأسس أحمد رضا حوحو فرقة «المزهر القسنطيني» عام1949، ومحمد الطاهر فضلاء فرقة «هواة المسرح العربي»، واستمر التجريب في العهد الاستعماري وشهدت أعمالا مميزة كتلك التي كتبها كاتب ياسين منها «الجثة المطوقة» وغيرها.
وماذا عن فترة ما بعد الاستقلال كيف كان المسرح الجزائري؟
محمد تحريشي: أمّا بعد الاستقلال فقد عرفت الجزائر تجارب عديدة رافقت المسيرة مسيرة بناء الجزائر، وتكفلت السلطات المعنية بهذه القطاع الحيوي وأولته عناية بحسب ما تقتضيه الظروف. وتفتَّح رجال المسرح الجزائري على الثقافات الغربية في إطار البحث عن هوية لهذا المسرح عن طريق إنتاج تجربة جزائرية تستفيد من الترجمة والاقتباس وتوظف الموروث الثقافي وتستثمر مختلف الأشكال التعبيرية الفصيحة والشعبية.
وجذبت العروض إليها جمهورا يرتاد المسارح، وتكوّنت لدى هذا الجمهور المتلقي ملكة مكّنته من التفاعل مع هذه العروض تفاعلا منتجا حقيقيا. وظهر الناقد المسرحي الذي يتتبع ما يُقدم على خشبات المسارح وصالات العرض العامة، وفتحت الجرائد والصحف والمجلات صفحاتها لهذا النقد مما نشّط الحركة المسرحية في الجزائر وأمدّها بالكثير من عناصر الطاقة المتجدّدة التي جعلتها تستمر وتتواصل. وعرف المسرح الجزائري إخفاقات وخيبة أمل، وعرف أيضا الكثير من النجاحات فنالت الكثير من العروض الجزائرية المراكز الأولى في المهرجانات التي كانت تُعقد في الخارج.
كما قدمت المسارح الجهوية في الجزائر خدمة كبيرة للمسرح وأمدته بطاقة حية عبر عروض مسرحية جيّدة، ونذكر ها هنا على سبيل المثال لا الحصر مسارح: وهران، سيدي بلعباس، باتنة، عنابة وقسنطينة. كما أسهمت مدينة مستغانم بالشيء الكثير بما قدمه عميد المسرح الجزائري ولد عبد الرحمن كاكي من مسرحيات، وبتلك الإضافة النوعية التي قدمها مهرجان مسرح الهواة الذي يُعقد مرّة كلّ سنة ومازال متواصلا إلى يومنا هذا.
وماذا عن التجريب في هذا الفن، وما هي أكبر وأهم مميزاته وسماته؟
محمد تحريشي: إنّ التجريب سمة مميزة للمسرح الجزائري، وهو أن يقوم بتجربة ويؤسس لها حتى يخوض في تجربة أخرى في شكل احترافي مميّز فيتفتح المسرح على آفاق رحبة بتوظيف الكلمة الدالة والحركة المناسبة واختيار التعبير الجسدي المناسب للمضمون الفكري للنصّ المسرحي بقدرة على تقمص الدور والعيش معه في توافق تام يقنع الجمهور الحاضر للعرض.
ولولا بعض الجهود الفردية الجريئة، التي أخذت على عاتقها دراسة المسرح الجزائري وتتبع تطوّره التاريخي والاهتمام باتجاهاته وبرجاله، لما أمكَّن وجود بحوث أكاديمية الآن تهتم بالتجربة المسرحية الجزائرية. لكن ومن جهة أخرى فإنّ المتتبع للدراسات حول المسرح الجزائري عموما يحتار لتشابهها إلى درجة التكرار، ولعل مرد ذلك إلى اعتمادها المصادر والمراجع نفسها، ويحتار أيضا لغلبة المنهج التاريخي في أغلب هذه المعالجات حتى وإن اختلفت المواضيع وزاوية الرؤية، ويرجع هذا إلى أنّ أغلب الباحثين ظلوا أسيري تلك المعارف والمقدمات والنتائج المتوصل إليها. إنّ متابعة استقرائية لتلك البحوث الخاصة بالمسرح الجزائري تؤكد هذا الزعم، وقلما نجد دراسة استطاعت أن تتجاوز ما أنجز قبلها من دراسات بل أكثر من ذلك قد نلحظ نوعا من التأثر غير المبرر بما سبق.
إنّ الحديث عن التجريب قد يُسقط الكثير من العروض التي لم تستطع تجاوز التكرار والتقليد، ولم ترسم لنفسها خطا فنيا خاصا بها، ومن ثم ليس بالضرورة أن نسير في مسار تاريخي ونتتبع كلّ ما قدم من عروض في المسرح الجزائري على أنّها تجريب، إلاّ إذا كنا نقصد به كلّ ممارسة مسرحية أو عرض يعتمد على نص وممثلين وديكور. يجب أن يتوفر في كلّ هذا تلك الرؤية الفنية التي تنظر إلى التجريب على أنّه توجهٌ فكري وفني يؤطر هذه الفعالية في الإبداع.
حاورتــه/ نــوّارة لحــرش

الرجوع إلى الأعلى