ما مدى أهمية وموقع التصوّف والفكر الصوفيّ في عصرنا اليوم، وماذا عن حضور الخطاب الصوفيّ في هذا العصر وهل يتماشى معه، أو العكس. وما هو دور التصوّف في حوار الثقافات والحضارات. وما الذي يمكن أن يقدمه أو يضيفه التصوّف والفكر الصوفيّ لعالم وإنسان اليوم، وهل يمكن القول أنّ الفكر الصوفيّ يعيد الإنسان إلى جوهره الحقيقي. حول هذا الموضوع «مدى حاجة عالم اليوم إلى التصوّف والفكر الصوفي»، كان هذا الملف في عدد اليوم من «كراس الثقافة» مع بعض الأساتذة والأكاديميين المختصين في هذا المجال.

محمد شوقي الزين/ باحث وأستاذ الفلسفة بجامعة تلمسان


التصوف مدرسة تكوينية وتربوية
نحاول دائماً اختزال التصوُّف في طرقيات وشطحات وخزعبلات، ونسينا أن التراث الصوفي الضخم، شعراً ونثراً، كان بالفعل رؤية باطنية للعالم، ليس بالمعنى الحصري والضيّق في السر والغموض والإبهام، لكن بالمعنى الواسع للتكوين والإلهام. التصوّف مدرسة تكوينية وتربوية هائلة، بالأدوات النظرية الغائرة والعملية السديدة التي يوفّرها من أجل هذه الفلسفة التكوينية. ننسى في الغالب أن الكاثوليكية التي طبعت التصوُّر والسلوك الغربيين خلال أكثر من ألف سنة، كانت طائفة صوفية أتيح لها التدبير السياسي عبر الكنيسة والعقيدة المقنَّنة منذ تبنّيها من طرف روما (دون أن ننسى النزعة التقويَّة Piétisme وهي المقابل الصوفي في الطائفة البروتستانتية). إذا كانت هذه الطائفة قد سقطت في الإغواء السلطوي عبر محاكم التفتيش والحملات الصليبية، فإن الصرامة المنهجية التي استقتها من الرؤية الباطنية للعالم، في تنمية الفرد الغربي تكويناً وتعليماً، جعلت منه ما هو عليه اليوم من حيث الانسجام في القول والعمل والإتقان في الصناعة والتوق إلى التجربة والمغامرة ومحبة العلم والمعرفة والرغبة في الاكتشاف والاستبطان.
الطفرات التي حصلت في التاريخ الغربي (الثورة الفرنسية مثلاً) قامت فقط بنقل القيمة التكوينية من التصوُّر الديني واللاهوتي إلى التصوُّر الأخلاقي والعلماني، مع الإبقاء على شكلية (formalité) هذه القيمة التكوينية. معظم مفكري الغرب في بلورتهم للأنساق أو المفاهيم الفلسفية لهم دَيْن بارز إلى الثقافة الصوفية في التراث المسيحي أو حتى في التراث الصوفي العالمي (نيتشه وزرادشت، هايدغر والمايسترإكهرت، جاك لاكان والقديسة تيريز دافيلا، رنيهغينون وابن عربي، إلخ). التراث الصوفي الإسلامي من أغزر التراثيات في العالم لما خلَّده من نصوص ودواوين ثبَّت التجربة في الكتابة الناظمة. يوفّر هذا التراث الصوفي الأدوات التكوينية والتربوية نفسها التي وفَّرتها الكاثوليكية في تاريخ الغرب. تزخر الكتب والرسائل الصوفية في الإسلام بأساليب التدبير الذاتي عبر الرؤية السديدة لأغوار النفس والاشتغال الحثيث والعنيد على الذات؛ كما أنها توفّر الصور الحيَّة لأفكار ممكنة في ميادين مختلفة من التجربة الإنسانية، سواء تعلق الأمر بمفاهيم نفسية أو فلسفية. لأن ما قدَّمه التصوف في نهاية المطاف إن لم يكن الخزَّان الواسع والوفير من الرموز تقول كلها الشرط الباطني للذات البشرية؟
وفَّر ما يمكنني تسميته «الإنسان المتركّز» بمجموع الرياضات والتأمُّلات المتلائمة التي يُجنّدها في تكوين الذات، أمام «الإنسان المتمركز» الذي تهيَّأت صورته منذ العصر الحديث والصعود الحاسم والمدوّي للعلم والتقنية. التركُّز التكويني أمام التمركز الحضاري هو العنوان البارز الذي يمكن التعويل عليه في تبيان المهام الكبرى التي يضطلع بها التصوُّف في عالم اليوم. بالإنسان المتركّز نفتح خزائن القضايا الكبرى التي تشغلنا اليوم: التسامح، العنف، الإرهاب. الإنسان المتركّز هو السور المنيع أمام زلات وسقطات العصر. ينبغي الاعتراف بالتصوُّف مدرسة تكوينية لنتوقَّى مستقبلاً من بعض النتائج الرهيبة للإنسان المتمركز التي طفت على سطوح العلم والتقنية بالتسلُّح والتلوُّث، وطغت على الذخائر الدينية بالتشدُّد والإرهاب. بالإنسان المتركّز نبني سقفاً تربوياً، يساهم التصوُّف في الحوار بين ذوات الجنس البشري الواحد، بحكم أن هذه الذوات تشترك كلها في قيمة واحدة ومغذّية: «تركيز» القوى وتوجيهها نحو غايات تكوينية ذات أبعاد عالمية، مُحرّكها وُسع الأفق وراحة النفس والتسامُح الخلاَّق.

سامية بن عكوش/ كاتبة وباحثة -جامعة جيجل


عالم اليوم في حاجة إلى تصوّف الأمير عبد القادر
حاجة عالم اليوم إلى التصوّف كبيرة ومُلّحة، وخاصة حاجته إلى تصوّف الأمير عبد القادر. ما يعرفه الكثيرون عن الأمير عبد القادر الجزائريّ في البلدان العربية، وحتى الغربية هو مقاومته للاستعمار الفرنسيّ لمدة 17 سنة. وما يجهله الكثيرون هو سلوكه للطريق الصوفي، سيرا على نهج ملهمه الشيخ محي الدّين بن عربي.
يشترك التوجهان فيما سمّاهما النبي محمد بالجهاد الأصغر والجهاد الأكبر. مارس الأمير الجهاد الأصغر في المرحلة الأولى، والجهاد الأكبر في المرحلة الثانية. وإنّ الجهاد النّفسيّ الثاني هو ما يهمّنا في هذا السّياق التاريخيّ، الذي تمرّ به الدول العربية. ما يحتاجه العالم الإسلاميّ اليوم تعاليم الجهاد النّفسيّ للأمير، لأنّها تتمحور ككلّ أدبيات المتصوفة على العمل الداخليّ المضنيّ، بخلاف الجهاد الحربيّ الذي يتوجه نحو الآخر لإفنائه، مداواة لذوات يائسة معتلّة. فحاجة المسلمين إلى هكذا تربية ذاتية ملّحة، في عالم عربيّ، يشهد أشرس حروب الإبادة للإنسان باسم الجهاد. وحاجة عالم اليوم إلى تعاليم الجهاد النّفسيّ ملّحة، في سياق صعب، يعرف انفجارا عنيفا للهوّيات الجوهرانية، واقتتالا رهيبا في كثير من الدول العربية، باسم الجهاد والدّين الإسلامي. وهو ما جسّدته داعش كذروة قصوى من التشدّد الدينيّ.
ترك الأمير عبد القادر عدة مؤلفات في الأدب الصوفيّ، على رأسها أجزاء من كتابه «المواقف» التي دوّنها تأثرا بالشيخ محي الدين بن عربي في كتابه «الفتوحات المكية»، وقد خصّص الأمير مواقف كثيرة من كتابه لشرح آراء ابن عربي، وبرّأ فيها ابن عربيّ من تهم الزّندقة والإلحاد التي وجّهها إليه علماء الشّريعة. فآراؤه موافقة لآراء ابن عربي في الإلهيات والكونيات. وسار في كتابه «المواقف» على هدي الطريقة الأكبرية. تتّسم طريقته بالوسطية بين الظاهرية والباطنية، تأخذ بالشريعة والإشارة في نفس الوقت. وتعاليمها الحبّ، وهي تعاليم شريعة خاتم النبيّين، محمد، استنادا إلى قوله: «فاتّبعوني يحببكم اللّه».
السؤال هنا: ماذا يحتاج عالم اليوم من أدب الأمير عبد القادر؟
يحتاج إنسان اليوم، بغضّ النّظر عن عقيدته، إلى تصوّر جديد للدّين؛ إذا ما صحّ عزم الإنسانية على نبذ خلافاتها الدينية الكثيرة، للاجتماع حول التحديات المستقبلية المشتركة. وإنّ تغيير التصوّرات عن الدين الإسلاميّ، يسهم بقسط أكبر في تغيير الواقع. وتلعب تعاليم الحبّ الصوفيّ دورا هاما في رأب الصراعات بين الأديان. وضمن هذا المسعى، يحتاج عالم اليوم إلى شخصية الأمير عبد القادر. لأنّها نموذجية، جسّدت معاني الجهاد النّفسيّ، بل وانتصرت له على حساب الجهاد الحربيّ.
يبحث التصوّر الجديد عن القواسم المشتركة التي تجتمع حولها الأديان، بدلا من الخلافات والعداءات التي تصنعها قضايا كثيرة، كقضية الأديان النّاسخة والمنسوخة. ولن يتحقّق هذا المسعى عن طريق الشّريعة، بل عن طريق أرباب الحقيقة «التصوف»، فما ثمّة من دين أعلى من دين آخر. وما ثمّة من دين أعلى سوى دين الحبّ والشّوق. والحبّ في نظر المتصوّفة، هو أصل شريعة المحمديين. فتعاليم محمد نهر حب عظيم، تصبّ فيه شلالات التعاليم الموسوية والعيسوية -نسبة إلى موسى وعيسى-. وتنتفي ضمن هذا الحبّ مظاهر الاختلاف التي تسبّب الخلاف ثمّ العداء فالاقتتال بين الأديان، لتلتقي الأرواح بالأرواح، التواراة بالإنجيل، القرآن بالألواح، في بحر الحبّ الجامع. وتنطلق هكذا رؤية من مبدأ صوفيّ يقول بشهود الحقّ في كلّ الصور، وبالوحدة الروحية دون حلول أو اتّحاد، بين كلّ الأديان. لهذا يحتاج عالم اليوم إلى تحيين أدب الأمير عبد القادر الذي يفصّل في مسألة مشاهدة الحقّ في كلّ اعتقاد. وأشهر ما ورد في مواقفه الأبيات الآتية التي سار فيها على نهج أبيات ابن عربي المشهورة: يقول الأمير عبد القادر: «فطورا تراني مسلما أيّ مسلم/زهودا نسوكا خاضعا طالبا مدا/ وطورا تراني للكنائس مسرعا/وفي وسطي الزنار أحكمته شدا/وطورا بمدارس اليهود مدرّسا/أقرّر التوراة وأبدي لهم رشدا».
وقال قبله ابن عربي: «لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة/فمرعى لغزلان ودير لرهبان/وبيت لأوثان وكعبة طائــــــف/وألواح توراة ومصحف قرآن/أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت/ركائبه فالحب ديني وإيماني».
إنّ اللّه حاضر في كلّ دور العبادة، في المساجد والكنائس ودير الرّهبان. لا يخصّ برحمته أصحاب ديانة دون أخرى. وهو الدّرس الأساسيّ في رسالة محمد، لأنّه بعث رحمة للعالمين، للنّاس أجمعين. وضمن عقيدة الحبّ التي سار عليها الأمير عبد القادر، يتعامل المسلم مع أخيه الإنسان بالتسامح والرحمة، صديقا كان أو عدوا، مقرّا بحقائقه أم منكرا. وإنّ أحوج ما يحتاجه عالم اليوم إلى عقيدة الحبّ، لأنّها تعترف وترحب بآخرية الآخر، مثلما يبيّنه هذا النّص للأمير: «ولا نجادلهم، بل نرحمهم ونستغفر لهم. ونقيم لهم العذر من أنفسنا في إنكارهم علينا. وطريقة توحيدنا ما هي طريقة المتكلّم، ولا الحكيم المعلم، ولكن طريقة توحيد الكتب المنزّلة وسنّة الرّسل المرسلة والصحابة والتابعين. وإن لم يصدق الجمهور والعموم فعند اللّه تجتمع الخصوم». (من كتاب المواقف، ج1، ص34).
قد نتساءل أيضا: كيف السّبيل إلى إحياء أدب الأمير عبد القادر؟
يحتاج التصوّر الجديد حول الدين الإسلاميّ، إلى إعادة قراءة كتب المتصوفة في جانب التربية النّفسية. وضمن هذا الغرض تندرج قراءة أدب الأمير عبد القادر، خدمة للأغراض الإنسانية السّابقة. ويمكن أن تكون تعاليم الأمير مؤثّرة، خاصة أنّه شخصية فريدة، جمعت بين الجهادين، كما أنّها تأثّرت بشخصية أخرى عظيمة في تاريخ التصوّف، ابن عربي.
ووفق الحاجة المعاصرة لشخصيات رمزية كالأمير، فإنّ كلّ واحد مسؤول حسب مقامه في إعادة قراءة أدب الأمير عبد القادر، الباحث في المجال الأدبيّ وعلماء البيداغوجيا والمحدّثون في العالم الإسلاميّ. فتعاليمه مفيدة للعالمين.

سعدي مسايل/ جامعة سطيف


لابدّ أن يأخذ موقع الريادة في هذا العصر
قبل الحديث عن موقع التصوّف بوصفه فكرا في عصرنا الحالي، وجب علينا معرفة العلاقة الحقيقية بالدين التي لا تبدأ إلاّ عندما ننتقل من مجال الحقيقة إلى مجال المعني، حيث يصبح الناس هم من يصنعون حقيقة الدين بإيمانهم وليس العكس، ولما كانت تجربة التصوّف الإسلامي قائمة على علاقة تفاعلية مع القرآن الكريم وهي علاقة جدلية يتحكم فيها التأويل بوصفه آلية مثالية، لفهم تعاليم الدين الإسلامي، فإن موقع الفكر الصوفي في هذا العصر مهم ومهم جدا ولابدّ أن يأخذ موقع الريادة في فكر هذا العصر الذي نراه يسير نحو الهاوية القاتلة، بسبب تعصب بعض أصحاب التيارات الفكرية العربية أو الغربية والتي أدت بدورها إلى خنق الإنسان المعاصر، وجعلته يعيش في دوامة القلق الوجودي الذي لا يعرف مصدره ولا يعرف كيفية الخلاص منه. هذا العصر مجنون ومضطرب، وعلى الإنسان المعاصر أن يغوص في أعماق إنسانيته من أجل تحقيق الطمأنينة التي يحلم بها، ولا يجد هذا المبتغى إلاّ في دراسة الفكر الصوفي المعتدل.
ومنه فإنّه حسب اعتقادي أنّ الخطاب الصوفي بكلّ أشكاله وأنواعه، بدأ يفرض نفسه في هذا العصر المادي الذي لم يستطيع تحقيق السعادة المنشودة للإنسان، فأغلب المفكرين العرب وحتى الغرب وجدوا ضالتهم في نحت الفكر الصوفي الذي ينفتح دون عقدة، على الآخر ويحاوره بكلّ انسيابية، يقرأ تراث الآخر دون عقدة نقص، وإذا استثنيت الخطاب الشعري الصوفي على سبيل المثال نرى أنّه صار ملاذا للشعراء المعاصرين الذين وجدوا فيه أكبر طاقة ايجابية تخول لهم التعبير بالظاهر عن الباطن وبالمقيد عن المطلق.
عصرنا الحالي في حاجة ماسة إلى الخطاب الصوفي المتنوع شعرا ونثرا لأنّه لا يؤمن بالحدود الجغرافية أو الفكرية أو المعرفية، يبحث عن الإنسان أينما كان وأين حل ليخاطب فيه العمق الإنساني. وهذا ما يُحيلنا إلى الحديث عن دور التصوّف في حوار الثقافات والحضارات، فانطلاقا من المفهوم الحقيقي للاحسان أو التسامح الذي يتأسس من مقوله الرحمانية أيّ حضور الله في كلّ الموجودات وفي كلّ الأديان وهذا ما نادى به ابن غري في حديثه عن وحدة الأديان والقول بوحدتها لأنّ ما يمكن ملاحظته أنّ الأديان المختلفة بدأت بكيفيات متفاوتة تتخلى عن ادعاء امتلاك الحقيقة واحتكارها والقول أنّها الطريق الوحيد للخلاص الذي ينفي الطرق الأخرى، فبدأت الأديان تعترف للأديان الأخرى بنصيب من الوجاهة، وانتقل الحوار من الأديان بين بعضها البعض إلى المذاهب والنحل داخل الدين الواحد. وقد سبقنا ابن عربي ومدنا بضرب من التفاؤل والتأكيد إن مآل البشرية باختلاف مللها ونحلها إنّما هو إلى رحمة الله، الرحمة الإلهية الشاملة التي لا تستثني أحدا.
وعطفا على ما سبق ذكره في هذا السياق فإنّ ما يضيفه التصوّف لإنسان اليوم، هو شيء جد مهم وضروري من أجل ملامسة روحه وإنسانيته المفقودة أو التي كاد يفقدها. فالفكر الصوفيّ يعيد الإنسان إلى جوهره الحقيقي.

الأخضر قويدري/ قسم الفلسفة -جامعة الأغواط


  مطلب في عصر تعالت فيه نبرات العنف  
أن يحاول المرء الخوض في التصوّف، معناه أن يستعدّ لولوج عالمٍ محفوف بالغريب، والعجيب والصادم والخارق واللامعتاد والسامي والمتعالي والجميل. وهي معان نحتاجها بإلحاح حين تضيق بنا الدنيا، ولا نجد اطمئنانا إلاّ في العودة إلى أصلنا الروحي. وحينما يشتاق الواحد منا إلى موطنه الأصلي، يكون قد وقف حقا أمام باب التصوفّ، ويبقى له بعد ذلك خياران، إما أن يدخل ليبدأ رحلته الروحية، أو يُعرض عن الدخول فيرجع إلى عالم الحس والكثافة.
فمن اختار الدخول سُميّ الصوفي، أي المسافرُ في باطنه، المنتقلُ في مهام ذاته، الباحثُ عن طفل المعاني الذي كانه قبل أن تدنّسه الأدران الاجتماعية. وقد يطول هذا السفر الروحي وقد يقصر، ولكن العبرة بالغاية التي هي العثور على ذلك الطفل القدسي، فمن وجده تحقق بكمال إنسانيته، وتحرر من كلّ القيود، وعرف ربه، وصار عبدا ربانيا حرّا عن غير الله.
كان مولانا جلال الدين الرومي ينادي: «أيّها البشر الأتقياء التائهون في هذا العالم، لِمَ هذا التيه من أجل معشوق واحد؟ ما تبحثون عنه في هذا العالم ابحثوا في دخائلكم فما أنتم سوى ذلك المعشوق». من أجل هذه اللطائف، وغيرها كثير، عُدّ التصوّف كمجال خصب ومتميز لتكميل الإنسانية وترقيتها وجمع شتاتها. وليس بأيدي علماء التربية حتى الآن، منهج يراهن على هذا المقصد الإنسانيِّ العميق، إلاّ التصوّف بما يتضمّنه من طرق وأساليب في تزكية النفس.
وللصوفية في علم التزكية طُرقا وأساليب واصطلاحات، يضيق هذا المجال عن تفصيلها، ولكنّها تطوف كلها حول التحقّق بمقام الإحسان الذي أومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين سأله عن الإحسان فأجابه: «الإحسانُ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
لقد عُرف هذا المقام الأسنى في كلّ الديانات قبل الإسلام، وذاقه أناس كثْر من كلّ المجتمعات البشرية على مرّ العصور، لأنّ الدين واحد وإن اختلفت شرائعه، والروح الإنسانية واحدة وإن تعدّدت مظاهرها، فلا غرابة أن نقرأ، حين نتصفح سجل التاريخ الصوفي، معانٍ متماثلة، ومقاصد متشابهة، تؤكد على أن التصوّف كان وسيظل تلك اللغة المشتركة التي يمكن أن يتواصل من خلالها أفراد الإنسانية جمعاء.
هذا يقودنا إلى القول بأنّ لغة أهل الظاهر والرسوم، وإن كانت وظيفية في مجالها، فإنّها لا ترقى أبدا لملامسة باطن الوجود، فضلا عن أن تحمل ثقل أسراره. وإنّما تستطيعُ ذلك فقط، لغةَ من تطهروا من جنبات الأغيار، وخاضوا بحار الأنوار، وخوطبوا بالأسرار من جانب أرواحهم، حتى قال أحدهم: «روحي تحدّثني بأن حقيقتي/ نور الإله فلا ترى إلاّ هو».
خطاب الرّوح هذا، هو علة الاهتمام المتنامي بالتصوّف الإسلامي في الزمن الراهن، لأنّه يقول الطهر حالاً مِن أصحابه، وينشر الجمال سلوكا من أهله، ويكشف المكنون علما من عرفائه، وهو خطاب وإن تطاولت عليه ألسنة المبغضين، منتصر لا محالة حتى في حالة صمته. والصمت أحد القيم التي يُشترط في المريد أن يتحلى بها، فيتدرب من خلاله على كفّ لسانه عن الكلام إلاّ فيما يعني، ثم يترقى من بعد ذلك إلى توقيف فكره عن التفكير إلاّ فيما يليق، ويظل هكذا متحليا بهذا الخلُق، حتى تتفجر ينابيع الحكمة من قلبه، حينئذ يُؤذن له في التعبير، فإذا تكلّم فُهمت في مسامع الخلق عباراته، وجُلّيت إليهم إشاراته. وذلك هو سرّ القبول الذي يجده الخطاب الصوفي في أفئدة الناس، على اختلاف أديانهم وثقافاتهم، والذي بسببه صار خطابا كونيا ينجذب إليه كلّ أحد.
إن الآفاق الأخلاقية التي ترمي إليها التربية الصوفية، جلبت انتباه أكثر المفكرين ممن يبحثون عن دعامات للسلام العالمي، في زمن تعالت فيه نبرات العنف بكلّ أشكاله. حيث وجد أولئك العقلاء أن أهل التصوّف يعيشون قيم التسامح، لا ثرثرة وادّعاءً، بل عقيدة وحالا، في كلّ لحظة من يومياتهم، حينما يقبلون بالآخر ويعترفون بشرعية وجوده، لأنّهم ذاقوا عقيدة تعددية التجلّي الإلهي، وهي عقيدة تفضي إلى أن كلّ موجود ما هو إلاّ مظهر للحقيقة المحمدية، وجب تقديره واحترامه.
ولا نكون مغالين بعد هذا، إذا قلنا أن التصوّف في عصرنا هذا أضحى مطلبا حضاريا لما يتضمنه من زخم فلسفي منفتح على كلّ مجالات الحياة. ولأنّه من غير المعقول أن يكون كلّ الناس متصوفة، فإنّه من غير المعقول أيضا أن تخلوَ المجتمعات من أفراد يمتلكون من الاستعدادات الروحية ما يجعل وجودهم ضروريا لإحداث توزانات أخلاقية و وجودية بين الناس. بهذا المعنى يمكننا أن نتحدث عن الفاعلية الاجتماعية للتصوّف، والتي سلبها بعض الدارسين، من الصوفية حينما حصروها خطأ، في الجانب السياسي. وحتى عندما نجاري هؤلاء الدارسين في قصور أفهامهم بحصرهم الفاعلية الاجتماعية في تلك الدائرة الضيقة، فإنّنا نجد للصوفية النصيب الأوفر فيها، حيث سجلوا من خلال أعمالهم السياسية والتربوية والاجتماعية أبهج المآثر، مقاومة وجهادا، تربية وتعليما، وحفاظا على مقدّسات الأمة.

عبد الله حمّادي الإدريسي/ باحث وعضو بمختبر البحث التاريخي –جامعة وهران


التصوّف ضحية سوء فهم أهله
نجد في هذا العصر حضورا واسعا للخطاب الصوفيّ ودراسات كثيرة من المسلمين أنفسهم أو من غير المسلمين وكلّ على نيته. ونرى المنتمين إلى الطرق الصوفية يدافعون عن هذا الفكر سواء بقناعة أو بتقليد واتباع لمشايخهم حتى أننا نجد منهم من يحاول تبرير بعض أفكار هذه الطرق وإن خالفت صراحة هدي الإسلام وأصوله الاعتقادية. فيأتي من لم يذق طعم هذا الحال ولا تحقق بهذا المقام فينقل أقوال هؤلاء الأعلام ويحملها على ظاهرها فيضل ويضل غيره ويفتري على التصوف السُنّي وأهله ما لم يقصد ظاهره رجالاته الأفاضل. ومن هنا صحّ أن نسمي مثل هذا الفهم السيء تصوفا بدعيا.
وعلى ما قلناه وقع التصوف ضحية بين فهم أهله السيء له وكيد غير أهله له، زيادة على بعض الطقوس المخالفة للهدي النبوي التي ابتدعها رجال ونسبوها إلى التصوف السُنِّي حتى صار حال بعض الطرق الصوفية اليوم أقرب شبها بالفرق الفولكلورية من كونها طرقا صوفية سُنّية.
لكن يبقى للتصوّف الحقيقي الصحيح، حضوره الهام في عالم اليوم، وقد سجّل الفكر الصوفي في هذا العصر دورا مهما في حوار الثقافات والحضارات إذ نجد بعض رجالاته ومدارسه تسعى إلى الحوار بين الأديان بجامع أن مضمون التصوّف موجود بكلّ دين معلوم في تاريخ الأديان لا يحتاج إلى بيان، لكن يبقى التميز للتصوّف الإسلامي السُنّي الذي استلهم تعاليمه السمحة من شريعة الإسلام قرآنا وسنّة وهي شريعة السلام والوئام والعدالة ودفع الظلم والانتصار للمظلوم والتماشي مع العلم المادي، معتدلة في جميع تعاليمها، تجمع بين الدين والدنيا لكن من غير رجحان كفة على أخرى، إذ بالرجحان يحدث الخلل، فلا دين استقام ولا دنيا استقامت.
أمّا عن قيمة التصوّف في عالم اليوم، فيستطيع الفكر الصوفيّ أن يقدم للعالم الإنساني الكثير وأهم ما يقدمه هو حلّ هذه الأزمات والآفات الإنسانية التي باتت مستعصية وإيجاد حلول لها، لأنّ إنسان اليوم طغت عليه المادية، فضاعت سعادته حتى ضاقت الأرض على الأنفس البائسة بما رحبت.
من هنا تظهر جليا أهمية التصوّف وفكره السويّ في هذا الزمان بل وفي كلّ زمان، فلا خلاص من عذاب النفس المادي إلاّ بالتشبع بالروحانية الإسلامية المحققة لمقام الإحسان حتى تطمئن النفس وترضى بقضاء الله وقدره صابرة محتسبة وعندها تختفي آفات الانتحار والاكتئاب والعلل النفسية والجرائم الاجتماعية من مخدرات ودعارة وقتل واغتصاب وغيرها. فالتصوّف الصحيح لا يتناقض والدين لأنّه قلب الدين نفسه.

استطلاع/ نــوّارة لحــرش

الرجوع إلى الأعلى