قراءة في ديوان «صلوات لمطر متعب» للشاعر مصعب  تقي الدين بن عمار
أوّل ما خطر بذهني وأنا أنهي قراءة ديوان الشاعر مصعب تقي الدين بن عمار المعنون بــ»صلوات لمطر متعب» الصادر عن دار المنتدى للإعلام والثقافة بتونس شهر أفريل من هذه السنة، أنّني أمام شعر حي له روح تنبض بكلّ المشاعر الإنسانية الممكنة حد التناقض أحيانا، وأمام شاعر إنسان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق نزل من أبراج الشعراء العاجية وعوالمهم الخرافية الهلامية ليمشي بين الناس ويكتب عن آمالهم وأحلامهم الصغيرة ويحمل أحزانهم وهمومهم الكبيرة.   بقلم: رياض بوحجيلة

لم يبالغ الشاعر حين قال في تصريح له بعد صدور مجموعته الشعرية: «سيجدني قارئي عاريا..» بالفعل نحن أما روح تتعرى أمام القارئ على مهل في عشرين قصيدة وعلى امتداد مئة وصفحة، في عصر أصبح تقنيع الأقنعة بأقنعة أخرى هواية الشعراء المفضلة، نجد شاعرنا يمارس التعري فيكشف لنا عن روحه دون أن يخجل من إنسانيته بكلّ تقلباتها وتناقضاتها من أقصى الحب إلى أقصى الكره، ومن قمة الأمل إلى الدرك الأسفل من اليأس، ومن عوالم الروحانية الصافية النقية إلى لعنات الكفر بالواقع البذيء، ومن سعير الغضب المدمر إلى عتمات الخوف والضعف الإنساني، ومن الرومانسية الحالمة إلى واقعية الغرائز الإنسانية الفطرية.
رحلة الدهشة والتمرد مع شاعرنا تبدأ من العنوان «صلوات لمطر متعب» عنوان مفتوح على التأويل، يثير الكثير من الأسئلة، ويستدعي الكثير من الصور في ذهن القارئ، من صلاة الاستسقاء إلى الطقوس الوثنية لاستجلاب المطر عند القبائل الإفريقية وشعوب الأمريكيتين وغيرهم، ثم هل هو مطر متعَب أم متعِب )بفتح العين أو كسرها(؟ سيكتشف القارئ فيما بعد أنّه كان متعَبا غالبا ومتعِبا أحيانا.
مشاكسة شاعرنا لا تتوقف عند العنوان، بل يواصل استثارته واستفزازه للقارئ في إهدائه الثاني )».. ثم كان يسير على الماء/ وامتزجت كلّ أنفاسه بالهواء.. « –كما قيل في آية لست أحفظها..(، مرّة أخرى يستعمل الشاعر مصطلحا دينيا له قدسيته )آية( ويبقي على هالة الغموض التي تحيط به دون شرح أو تفسير، بداية تضع القارئ في حالة تركيز وتأهب وتوحي له أنّه أمام شاعر يلعب بالنار.
مثل هذه المصطلحات الدينية ستتكرر كثيرا في المجموعة الشعرية، وستتعداها إلى تضمينات وتناصات مع آيات وحتى سور كاملة من القرآن الكريم، فيعنون الشاعر قصيدته الثانية بــ»صورة النمل» مستحضرا فيها قصة النبي سليمان عليه السلام مع النملة –كما وردت في سورة النمل- لكنّه لا يكتفي بمجرّد التناص المعنوي واستحضار القصة بل يُسقطها إسقاطا ذكيا على الواقع البذيء كما يحب شاعرنا أن يسميه، فيلبس الحاكم ثوب النبي الذي يعلق عليه الشعب آماله وتطلعاته لغد أفضل، ويعطيه بعض صفات النبي سليمان من قوة وحدة سمع، في حين يتقمص الشعب دور النمل بطريقة ساخرة، لكن هذه السخرية لا تستطيع أن تكبت الغضب الذي يغلي في صدر الشاعر أو تغطي عليه، فينفجر في نهاية القصيدة مستحضرا العبارة الشهيرة لناجي العلي أو الطاهر جاووت: )يا أيّها النمل اخرجوا.. فجحوركم صمت/ وهذا الصمت موت/ والبلايا عندكم لا تصغرُ/ إن قلتها ستموت شنقا.. إنّما إن لم تقلها متّ مقهورا/ إذن؟!! /قلها ومت/ هل بعد هذا الموت موت أكبر؟(، هذه النهاية الغاضبة واليائسة أيضا تُعيدنا للنهاية الصادمة في القصيدة الأولى «الصلاة لكي ينزل المطر» نهاية متفجرة غضبا لكنّها تكشف أيضا يأسا ومرارة وخيبة تذكرنا بدعاء سيدنا نوح عليه السلام )رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا( لكنّه لا يكتفي بهذا بل يريدها نهاية شمشونية لا تستثني أحدا: )أمطري/ أغرقينا ولا ترأفي بالحوامل والصبية الحالمين/ أرسلي السيل جيشا يمزقنا/ لا يهم الذي مات حتى يموت الذي قتل الحلم فينا وجرعنا قهره من سنين/ أولسنا هنا منذ بدء خليقتنا ميتين؟؟..(، مصطلح الصلاة سيتكرر كثيرا وبكل اشتقاقاته اللغوية فاتحا باب التأويل على مصراعيه، مقترنا بالحزن والخيبة واليأس كحل أخير حين تستعصي الحلول ولا يبقى إلاّ انتظار معجزة من السماء.


في القصيدة الثالثة «عن أبي» يفاجئنا الشاعر بعدائه الصريح وهجومه المباشر على التصوّف منذ السطر الأول:ة)أبي ما كان صوفيا/ يدور على ضريح الحكم/ يوقد ما تيسر من بخور الذل والعنبر..( ويتواصل هذا الهجوم في موضعين آخرين رغم قصر القصيدة: )فلم يظفر من العدوية العينين..( و)أبي ما كان شيخ طريقة أولى/ ولم يسرق.. ولم يقتل.. ولم يكفر..( ورغم أنّه اختار لقصيدته بحرا سلسا كان الإيقاع قلقا إلى حد كبير ليكشف الألم المبرح الذي يحاول الشاعر إخفاءه دون جدوى، قصيدة فيها شحنة هائلة من المشاعر الحقيقية: ألم وشوق وحزن وغضب حتى لكأنّها بركان على وشك الثورة والشاعر يتحايل عليه بإعطائه فسحة صغيرة للتنفيس حتى لا ينفجر محرقا الأخضر واليابس، أو كأنّها محاولة لتفكيك قنبلة على وشك الانفجار، بل أستطيع القول أنّها جرحٌ صارخ أبديُ النزف والألم. هذا الهجوم على التصوّف لا يقف هنا بل سيتكرر مرّة أخرى في قصيدة «انتماء» بنفس الحِدة والشراسة: )دواويني تعري كلّ صوفي يدور على ضريح الحكم مدفوعا بأبواق من الإعلام تعوي كالشياطين..( لكن القارئ سيفهم أخيرا أنّه ليس عداء أو تهجما على التصوّف الحقيقي بروحه السمحة وروحانيته النقية، بل هو انتقاد لممارسات أغلب شيوخ ومريدي الطرق والزوايا الصوفية اليوم من عمالة للحكام ودعوة للتخاذل وتثبيط للعزائم بدعوى السماحة والقناعة بالقضاء والقدر، وسيفهم القارئ الذكي كذلك أنّ استحضار شاعرنا للمصطلحات الدينية ليس مسايرة للموضة أو محاولة للظهور والتميز بسفسطة أو هرطقة مجانية، بل يستخدمها بوعي عميق دون ابتذال لحرمتها وقدسيتها، ويوظفها بذكاء توظيفا عميقا وبناء مُثريا للنص ليخلق المفارقة ويفتح آفاقا جديدة تحلق فيها معانيه وصوره المبتكرة، ولا يقف عند الدلالات السطحية أو مجرّد حشو القصائد بالاقتباسات من النص القرآني للاتكاء عليه بل يتخذه نافذة ينطلق منها للتحليق في عوالمه النورانية، وهذا يدل على تشبع شاعرنا بالثقافة الدينية وفهمه الصحيح لروح الدين.   
ثيمة أخرى تُميز المجموعة الشعرية هي المطر الحاضر في أغلب نصوصها، وهنا أفتح قوسا لأقول أنّ مصعب تقي الدين بن عمار يكاد يكون الشاعر الوحيد –من الذين قرأت لهم- الذي يكتب عن المطر دون أن يتسلل طيف بدر شاكر السياب بين عباراته أو إلى روح القصيدة، فقصيدته «أنشودة المطر» أتعبت الشعراء بعده، وكادت أن تجعل المطر ماركة مسجلة باسمه يصعب جدا على شاعر بعده أن يكتب عن المطر دون استحضارها.
المطر عند شاعرنا لا يكتفي بالدلالات التقليدية كرمز للخصب والنماء، ولكنّه يتحوّل إلى طقس من طقوس الحياة مُصاحبا لكلّ المشاعر الإنسانية من حب وحزن وأمل وغضب، فلا تكاد تصل قصيدة إلى ذروتها العاطفية إلاّ ويهطل المطر في الخلفية بحالاته المختلفة تارة رذاذا وتارة غيثا وأخرى وابلا حسب جو النص.
المطر الذي يأتي في القصيدة الأولى «الصلاة لكي ينزل المطر» تتويجا لقمة الغضب واليأس على شكل طوفان هادر، يعود كرمز للأمل في قصيدة «صلاة أخرى لكي ينزل المطر» وكأنّي بالشاعر يريد أن يُكفِر عن صلاته الأولى )علمت.. فجئت محمولا على الغيمات أعصرها/ أريها كلّ وجه جف كي تهديه أغنية تعيد إليه ما سلبا/ أسل الحرف من لغتي وأغمده بقلب الجوع –يا مستذئب استسلم دع الأطفال يختبرون كيف الأرض طيبة وكيف العيد ما هربا-/ دعوني أخلع الأسمال عن أجساد من تعبوا/ أطهرها بدمع الغيم حتى أقتل التعبا(. ويصل هذا التعلق والهوس بالمطر حد الانحلال فيه وفي شعره وتقمصه في نصوص كثيرة من المجموعة الشعرية )سأخلع جلدي العاري/ وأنثر كلّ أجزائي بقلب الغيم/ أودعه دمي وجميع أحزاني/ لكي يبكي/ وأعلن أنّني قد عدت من سفري/ هنا.. في شكل أمطاري(، )أحن إليك محمولا على الغيمات منسكبا/ على كفيك كي أروي حنين الخمر للساقي(، )لم أكن وحدي وكان الكون ينظر/ أن ذاك الغيم شعري..( ليواصل المطر ظهوره في قصائد أخرى كشمعة أمل باهتة تمد أشعتها على استحياء في عوالم اليأس والخيبة والتيه، ويعود في قصائده الغزلية طقسا من طقوس الحب والحزن، فهو تارة بكاء السماء رأفة وشفقة لحال الشاعر وتارة لإخفاء دموعه كما في قصيدة الديوان الأخيرة «جريمة تحت المطر» حيث تصل الشاعرية إلى أقصاها في المجموعة وينفجر الشاعر فنيا وإيقاعيا وعاطفيا ليبلغ أعلى درجات الدهشة والإبداع، كما نلاحظ حضورا لافتا للغيم في كثير من القصائد كرمز للتحرر والإنعتاق، وفي الحقيقة تستحيل الإحاطة بكلّ دلالات المطر عند شاعرنا في هذا المقال القصير، بل يستحق أن يكون موضوعا لدراسة عميقة تستقصي دلالاته وتحولاته في هذه المجموعة المُبللة بالمطر والشاعرية.
كلّ هذا الحديث عن جو اليأس والحزن لا يعني أن شاعرنا زارع لليأس والسوداوية أو من دعاة الاستسلام، بل إنّ المجموعة حافلة بروح التمرد والمقاومة التي تظهر في عدد من قصائده السياسية والاجتماعية وحتى الإنسانية، كما في قصيدة «أنا لا أشبه الموتى» و»انتماء» و»أنا الإنسان» و»رماد» وغيرها كثير، وهذا يقودنا للحديث عن ميزة من أهم ميزات هذه المجموعة الشعرية وهي أنّ شاعرنا من الشعراء القلائل في هذا الجيل الذين استطاعوا أن يفلتوا من قبضة النمطية الحديثة، نمطية الهلامية المغرقة في الغموض –حتى أصبح الغموض غاية بحد ذاته- واللاموقف، فكلّ قصيدة في المجموعة هي موقف  مهما كان موضوعها سواء كان هذا الموقف سياسيا أو اجتماعيا أو فكريا أو حتى عاطفيا، وحتى حين كتب شاعرنا عن شعور غريزي في قصيدته «رقصة كاماسوطرا الأخيرة» مستدعيا قصيدة درويش «درس من كاماسوطرا» ومصورا صراعه النفسي والجسدي بلغة راقية معجونة بالاستعارات الرفيعة البعيدة عن الابتذال، فهو يسجل موقفا إنسانيا حين يعلن في الأخير انتصاره للشغف الأبدي على رقصة الكاماسوطرا الأخيرة التي تنهي الحلم بين الوسائد بموت الحمامة، ولو أنّه انتصار إلى حين في معركة أبدية كما يبدو من خلال إنهائه للقصيدة مستعيرا عبارة درويش «رويدك يا صاحبي.. انتظرها». وحتى في أكثر قصائده ذاتية فإنّ شاعرنا لا يستطيع التجرد من الهم الجمعي والقومي فنجد فلسطين وسوريا ومصر وتونس واليمن وكلّ الجراح العربية حاضرة، ونجح الشاعر مصعب تقي الدين بامتياز من خلال الانطلاق من ذاته ومعاناته اليومية والخاصة في طرح مشاكل الأمة والإنسانية ومعاناة جيل كامل بعيدا عن الخطابية والمنبرية الجوفاء التي يستدعيها طرح هذه المواضيع عادة.
وفي الأخير ورغم أنّ شاعرنا يقول أنّ أغلب قصائد المجموعة قديمة نسبيا تعود إلى زمن البدايات، فإنّ القارئ سيلاحظ بسهولة أنّه يمتلك أدواته الشعرية المُكتملة النضوج وبصمته الخاصة، فخارج التضمينات والتناصات الواعية والمتعمدة لا نكاد نجد أثرا لروح شاعر آخر في الديوان إلاّ في قصيدة «الصلاة لكي ينزل المطر» التي استخدم فيها مجموعة من عبارات أمل دنقل وإن كان هذا التناص في أغلبه لفظيا لا معنويا حيث وظف الشاعر عبارات أمل دنقل المذكورة في سياقاته الخاصة، وفيما عداها فإنّه يمتلك لغته الخاصة المميزة التي تعتمد على التراكيب والتعابير اليومية والبسيطة دون تصنع أو تقعر أو إغراق في الغموض لكن دون ابتذال أو إسفاف أيضا مما يعطيها جمالية وأناقة باهرة، حيث يستخدمها داخل بُنى إيقاعية مُحكمة سلسة يروضها حسب ما يقتضيه جو القصيدة والحالة النفسية للشاعر، وعليه يُمكنني القول أنّ شاعرنا استطاع النجاح باقتدار في موازنة طرفي المعادلة الصعبة: الجودة والإبداع الفني والوصول إلى أكبر شريحة من الجمهور باختلاف ثقافته ودرجة وعيه.   

  رياض بوحجيلة/ شاعر

الرجوع إلى الأعلى