لماذا تغيب النصوص الفلسفية الجزائرية عن الكتب المدرسية؟
لماذا النصوص الفلسفية الجزائرية غائبة عن الكُتب والمناهج الدراسية، وعن البرامج المدرسية والمنظومة التربوية ونادرا ما نجد نصا فلسفيا لمفكر جزائري في الكِتاب المدرسي والمِنهاج والبرنامج الدراسي؟. إذ كثيرا ما تحضر الفلسفة الغربية بنصوصها ومقارباتها وإشكالاتها. لكن تغيب الفلسفة/أو النصوص الفلسفية الجزائرية عن الكُتب المدرسية. ما السبب، ولماذا؟ ألا توجد نصوص فلسفية جزائرية، ألاّ يوجد فلاسفة في الجزائر. أم أنّ الجهد الفلسفي غير مُرحب وغُير معترف به؟.
استطلاع/ نـــــوّارة لــحـــرش
حول هذا الشأن «الفلسفة والكُتب المدرسية»، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الباحثين والمشتغلين في حقل الفلسفة. وقد اختلفت وتباينت الآراء. ففي الوقت الّذي يقول فيه، الدكتور عمر بوساحة: «أنّ الاهتمام بالنصوص الفلسفية الجزائرية واعتمادها ضمن البرنامج الدراسي قد يساعد على تقديمها بصورة أحسن للمتمدرس وتحسين وضعيتها ودورها المعرفي الّذي لا يزال يُراوح مكانه إن لم نقل إنّه تراجع عما كان عليه». يرى الدكتور محمد جديدي العكس، إذ يقول: «سبب غياب (الفلسفة الجزائرية) من منظومتنا يعود بالأساس إلى غياب آخر للفلسفة ليس من التربية فحسب بل من المجتمع». أمّا الدكتور ربوح بشير، فيقول: «لا يمكننا أن نتقبّل هذا التغييب الإرادي للرؤى الفكرية الجزائرية بنصوصها من الكِتاب المدرسي أو أن نعترف بتلك التفسيرات الواهية التي تنكر وجودها، أو التي تقزّمها وتستصغرها، ولا تكترث على الإطلاق بِمَا تحتويه من كثافة معرفية ومن قوة تفسيرية جديدة». في حين يؤكد الدكتور سمير بلكفيف: «من الخطأ غياب النصوص الفلسفية الجزائرية، لأنّ الأجدر أن نبحث عن الكيفية التي تتأسس بها تلك النصوص بطريقة قبلية (قبل المدرسة)، داخل فضاء الثقافة العامة والحياة العادية». وفي الأخير يقول الدكتور عبد الرزاق بلعقروز، أنّ ثمّة عِدة أسباب كامنة خلف هذا الغياب للفلسفة الجزائرية أو النص الجزائري. مؤكدا في ذات السياق: «هناك من يتجاهل وجود نص فلسفي جزائري، كما هناك إقصاء وتهميش للجهد الفكري، وبالتالي عدم الالتفات إلى النّص الفلسفيّ الجزائري، وعدم المغامرة في تخصيص جزء من الفلسفة الجزائرية في الكِتاب المدرسي».
عمر بوساحة/ باحث وأستاذ الفلسفة في جامعة الجزائر ورئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية
 على المدرسة الالتفات إلى الفلسفة  في مرحلة الإصلاحات
تُعالج الفلسفة كما هو معروف قضايا إنسانية عامة، وهي إن لامست الخصوصيات الثقافية فمن أجل توضيح ما لهذه الخصوصيات من تقاطعات مع ما هو إنساني عام. لذلك يصعب في الفلسفة إلاّ على سبيل المجاز الكلام عن فلسفة جزائرية أو تونسية أو غيرهما، ذلك لأنّ الفيلسوف حينما يكتب فهو يكتب عن الإنسان أينما كان وكيفما كانت ثقافته. فحينما تكلم ديكارت الفرنسي مثلا عن المعرفة فقد تكلم عن المعرفة بعامة، وحين تكلم كانط الألماني عن الأخلاق فقد تكلم عن الأخلاق الكونية. ولَمّا تكلم سارتر عن الحرية تكلم عنها كأساس لماهية الإنسان أينما وُجِد. وهكذا هي السِمات التي تُميز الفلسفة عن كثير من فروع المعرفة الأخرى حتى وإن تقاطعت مع بعض هذه الفروع.
يتضمن المجهود الفلسفي الجزائري وإن اختلفت مواقفنا وأحكامنا حوله، قضايا كثيرة إنسانية حتى وإن كان الكثير منها يُشير إلى إشكالات ثقافية في الفضاء الحضاري الّذي ننتمي إليه. فحينما تكلم مالك بن نبي عن الحضارة فقد تكلم عن الحضارة بوجه عام، وحين تكلم عبد الله شريط على قضايا التنمية والتربية والتعليم، فقد عالجها ضمن إطارها الإنساني العام. والأمر نفسه ينطبق على محمد أركون، فقد تكلم عن إبستيمولوجيا قراءة التراث الإنساني الّذي يعتبر الإسلامي جزءا لا يتجزأ منه. ولَمّا تكلم كريبع النبهاني عن الجمال فإنّ حديثه لم يختلف عن أي فيلسوف آخر في مسائل هذا العِلم. هكذا هو النص الفلسفي الجزائري منذ القديس أوغسطين إلى اليوم، نص يعالج إشكالات وموضوعات نجدها حاضرة في نصوص الكثير من فلاسفة هذا العالم.
غير أنّ المُتصفح للكِتاب المدرسي في الجزائر قلَ ما يجد الإشارة إلى هذه النصوص الجزائرية. فباستثناء بعض النصوص لمالك بن نبي في البرنامج المُخصص لطلبة المرحلة الثانوية، تغيب الإشارة نهائيا إلى كريبع النبهاني وعبد الله شريط ومحمد أركون وأسماء كثيرة أخرى، سواء من روّاد هذا الجيل أو الأجيال التي تلت. وكأنّك في أرض صحراء لم تُنبِت شيئا. وقد يكون هذا التغييب غير المُبرر من العوامل التي جعلت المُتمدرس الجزائري يتساءل دوما عن حقيقة وجود فلسفة وفلاسفة جزائريين، على الرغم من وجود هذه القامات التي ذكرناها وكثيرا منها لم نذكر. وقد يكون من الأسباب كذلك التي جعلت الطالب الجزائري بتصورنا لا يولي كثير الاهتمام بمادة الفلسفة لأنّه لم يتعرَف على باحثين وفلاسفة من مجتمعه قد كتبوا فيها فيحببونها إليه.
حينما يدرس الطالب نظرية الدولة الحديثة مثلا، لا يُقدم له البرنامج المُعتمد إسهامات عبد الله شريط في الموضوع، الّذي قدم دراسة لتاريخ الفكر السياسي في الإسلام ولنظرية الدولة في الفكر الفلسفي الراهن. وحين يدرس التلميذ التراث لا يجد في البرنامج ما أنجزه أركون، الّذي يقدم له الأفكار بشكل أوضح، لقرب المعطيات التي يستخدمها من واقع وتاريخ المُتمدرس، الشيء نفسه بالنسبة لفكر الأنسنة ومناهج العلوم الإنسانية المعاصرة. وقِس على هذا ما أنجز في الفكر الاجتماعي لدّى عبد المجيد مزيان وعلي الكنز، وفلسفة الجمال عند النبهاني وآخرون.
فالتعرف على مفكري بلده والتعاطي معهم من خلال نصوصهم يزيد من تقريب عقل المتمدرس إلى مادة الفلسفة، فيزيده ذلك فهمًا وحبًا لها أكثر. لا نريد من تدريس المادة التقوقع على فكرنا ونصوصنا كما قد يتبادر إلى ذهن البعض، فالفلسفة لا تنتعش إلاَ في فضاء إنساني عام. ولكنّنا نريد من خلال ما ذُكِر، التنبيه ونحن بصدد الإصلاحات الجارية، ونتيجة للوضع غير المريح الّذي هي عليه هذه المادة، إلى أنّ الاهتمام بالنصوص الفلسفية الجزائرية واعتمادها ضمن البرنامج الدراسي قد يساعد على تقديمها بصورة أحسن للمتمدرس وتحسين وضعيتها ودورها المعرفي الّذي لا يزال يراوح مكانه إن لم نقل إنّه تراجع عما كان عليه.

سمير بلكفيف/ أستاذ جامعي وباحث مختص في الفلسفة الغربية المعاصرة
الحديث عن الفلسفة الجزائرية سابق لأوانه
أعتقد أنّ السؤال الّذي تنفتح جراحه وتقرحاته الفكرية هو سؤال آخر يختبئ وراء سؤال غياب النصوص الفلسفية الجزائرية في الكُتب المدرسية والمناهج التعليمية، وهو سؤال الظاهرة الفلسفية في حدّ ذاتها، لأنّ الحديث عن الغياب/التغييب هو حديث عن إمكانية استحضار، ولأنّ الحضور والغياب بقدر ما يتباعدان في الزاوية فإنّهما يتقاربان في المكان بِمّا هو جوهر الظاهرة ذاتها، لذلك علينا في البدء أن نتساءل في اللامكان (الجوهر الّذي لا يمتد)، ودون زوايا قدر ما استطعنا، وهذا السؤال هو التالي: هل توجد فلسفة جزائرية؟ وبتعبير آخر: هل يوجد فلاسفة جزائريون؟ وإذا كانت موجودة فما هي لغتها وقضاياها ومسائلها الجوهرية؟ هل هي ذات نزوع محلي وخصوصي أم كوني وعالمي؟ إنّ المسألة العميقة هنا هي فتح نقاش حقيقي حول الفكر الجزائري دون أيّة أسبقيات أيديولوجية قدر المستطاع، ودون أيّة إنزلاقات غوغائية ودوغمائية شرطية، كالتحديد المُسبق للغة أو للمسائل الفلسفية، لأنّ القضية الفلسفية هي في الأساس قضية عقل يتساءل تساؤلا لا مشروطا، لا بشرط اللّغة ولا بشرط المُعتقد ولا بشرط الهُوية، ولأنّ الهُوية الفلسفية تكاد تكون مسألة مُصطنعة وجديدة على الحقل الفلسفي، وحتى وإن بدا الفيلسوف مُهتمًا بقضايا مجتمعه وثقافته وبيئته، فإنّ ذلك راجع إلى تقاطعات الجدل القائم بين الإنسان المُتعالي (الكوني) والإنسان المحايث (المحلي)، لأنّ جوهر الفلسفة قائم في لحظة الكونية، والكونية الفلسفية هنا ليست كما لو كانت عصرا ثقافيا كالعولمة، وإنّما هي العود المتجدّد عبر العصور لأولئك الفلاسفة، ومن خارج عصورهم أيضا، وهذا ما يتكرّر في شكل العود الأبدي مع الفلاسفة الإغريق مثلا.
إنّ المسألة الفلسفية هنا هي محاولة تأسيس لاعتراف مُسبق وديْن متجدّد لا يلبث أن تسدّده الثقافات اللاحقة في شكل من الاعتراف المُتكرّر، لا يمكن للفيلسوف الجزائري أو أيًا كان أن يسمع صوته أو يُقرأ حرفه ما لم يقع صوته في أُذن الآخر، وفي عين الآخر، لأنّ نداء المحلي هو اهتمام العلوم الميدانية (علم النفس، علم الاجتماع...إلخ)، وحتى هذه العلوم أصبحت تستـنبط قوانينها العامة والكونية ثم تكيّفها حسب خصوصية ظواهرها، إنّ الفلسفة لا تُنافس العِلم، إذ أنّهما في منظومة هيغل شيء واحد، لكنّها تنافس الدين  لتنبهنا إلى أشكال أخرى من الحقيقة ذاتها وبكيفياتها المُتنوعة والنسبية، والحقيقة هنا هي كيفية ما لحقائق أخرى مُتوالية، ومن ثمّة يستحيل على الفلسفة أن تَركن إلى الظاهرة المحلية لتتوقف عندها مَنهجًا ومُوضوعًا وغاية.إنّ محلية الفكر وخوصصة الفلسفة بجعلها جزائرية هي قضية لا فلسفية في عمقها، لأنّها لا تمت بصلة بالفكر النقدي الحر الّذي هو جوهر كلّ فلسفة كائنة ومُمكنة ومُقبلة، ومن ثمّة فإنّ الاحتجاج الشكلي على تغييب النصوص الفلسفية الجزائرية عن الكُتب المدرسية، يقود إلى الانخراط في سِجال شكلي أيضا لا طائل من ورائه، وهنا نرى أنّه من الخطأ غياب النصوص الفلسفية الجزائرية، لأنّ الأجدر أن نبحث عن الكيفية التي تتأسس بها تلك النصوص بطريقة قبلية (قبل المدرسة)، داخل فضاء الثقافة العامة والحياة العادية.

بشير ربّوح/ أستاذ وباحث في الفلسفة
لا نمكن تقبّل هذا التغييب الإرادي للرؤى الفكرية الجزائرية
يشكّل الكِتاب المدرسي عمومًا جزءًا مفصليًا من المشروع الوطني، بحيث يعبّر عن الرؤية العامة للدولة الوطنية، أو هو بتعبير أدق النصّ الرؤيوي الّذي يحمل عقل الدولة للأجيال القادمة، وبهذا يكون هذا النصّ الكبير في مختلف تشكلاته مسرحًا عامرًا بالرؤى الراهنة والقراءات المُستقبلية، والشيء الّذي يرفع من مكانته القيمية والمعرفية هو مدى انفتاحه على النقد والتحليل من أجل أن نجعل منه نصًا مُواكبا للمتغيرات الكاسحة، ولكي لا يتحوّل إلى نص لا تاريخي يتموقع خارج أفق النقد، ويُمهد بالتالي إلى تكلسه وتحجره ومن ثمّة اضمحلال تأثيره، أمّا الّذي يجعل منه نصًا أصليًا هو مدى ارتباطه بمنجزات مثقفيه ومفكريه وباحثيه، الّذين يتحكمون في السقف الرمزي لرؤيته، واستنادًا إلى هذه الخطوة، فإنّه يعقد صلات قوية مع أبنائه، غير أنّ الكِتاب المدرسي المُتعلق بمادة الفلسفة في الثانوي مثلا، وبالرغم من انفتاحه على نصوص غربية وعربية، وهو عمل نثمنه من الناحية المعرفية، ونُنظر إليه من جهة المكاسب الحداثية، التي نسعى إلى توطينها في ثقافتنا، غير أنّ المُتفحص لمتن هذا الكِتاب سواء المُخصّص للسنة الثانية أو للسنة النهائية، يشهد فقرا معرفيا فادحًا، ففي جملة الإشكالات المعروضة في الكِتاب، لا يظهر أيّ اسم جزائري، يحوز على موقف فكري من الاقتصاد والسياسة والأخلاق والاجتماع والقيم والمنطق، وكأنّ الساحة الفكرية تفتقر إلى شخصيات مفهومية جزائرية قادرة على إنتاج المعنى، إذ يمكن أن نستعرض النتاج الفكري، لكريبع النبهاني في الجماليات، ومالك بن نبي في الحضارة والسياسة والاجتماع والثقافة، ومحمد أركون في الأبحاث التراثية وفق منجزات العلوم الإنسانية والاجتماعية والأنتربولجيا، ومالك شبل في تقديم قراءات رائعة للتراث، وعبد الرحمن بن خلدون في تفسيره للعمران البشري، ورصانة الإبراهيمي في مسائل التربية، وعلي الكنز الّذي ما زال قادرًا على صناعة رؤية اجتماعية متنورة، أمّا في جانب النصوص المُخصّصة فإنّ الهيمنة المُطلقة للنصوص الغربية والعربية، والّذي يظهر في الفهرس هو نصوص قليلة لحنفي بن عيسى ومالك بن نبي، وابن يوسف السنوسي.
تماشيًا مع هذا الطرح، لا يمكننا أن نتقبّل هذا التغييب الإرادي للرؤى الفكرية الجزائرية بنصوصها من الكِتاب المدرسي أو أن نعترف بتلك التفسيرات الواهية التي تنكر وجودها، أو التي تقزّمها وتستصغرها، ولا تكترث على الإطلاق بِمَا تحتويه من كثافة معرفية ومن قوة تفسيرية جديدة. إنّما الأمر يعود إلى أسباب بنيوية قابعة داخل الرؤية الثقافية الجزائرية، حيث ما زالت هذه الرؤية مرتهنة إلى فكر خارجي، لا يعترف إلاّ بالفكرة التي تأتيه من المشرق العربي أو مكتوبة بلغة غربية، وما زال يخضع لمقتضيات إيديولوجية تافهة، تجاوزها الزمن. نحن بهذه الطريقة نبخس ذواتنا المُنتجة والمُبدعة، ونرفع من منسوب الضياع الفكري للأجيال القادمة.

محمد جديدي/ أستاذ وباحث بقسم الفلسفة بجامعة منتوري في قسنطينة
غيابها التربوي من عدم حضورها الاجتماعي
للإجابة عن هكذا سؤال، يتوجب أن نطرح على طاولة النقاش ما المقصود بالفلسفة الجزائرية؟ وهل هناك حقا فلسفة يمكن تسميتها أو وسمها بأنّها جزائرية؟ للإشارة فإنّ سؤالا مثل هذا تكرّر حول الفلسفة العربية وحول فلسفات أخرى كالفرنسية كالتساؤل: هل هناك فلسفة عربية؟ وهل هناك فلسفة فرنسية؟ ومن أنتجها، أي من هم فلاسفتها، ذلك أنّه لا فلسفة من دون فيلسوف؟ كما أنّه لا عِلم من دون علماء ولا فنّ من دون فنانين.
أعتقد أنّ السؤال يُحيلنا على دلالات مُتنوعة ومرجعية أو مرجعيات مفقودة، وهو يقال، أي السؤال، من باب التقليد السائد في بعض الدّراسات والكتب حول تجنيس الفلسفة وإضفاء البعد الهوياتي، القومي أو الجغرافي أو العرقي أو الديني على شاكلة الفلسفة الألمانية أو الفرنسية أو الأمريكية. والحال أنّ الفلسفة بريئة من هذا التلوّن واللبوس، ذلك أنّه، أي السؤال المطروح، يفتقد إلى المعيار الذي سنحتكم إليه في قولنا إنّ هذه الفلسفة جزائرية وما هي خصائصها وصفاتها؟ ومن يدعو إلى اعتماد نصوص لمفكرين جزائريين ضمن البرامج التربوية الجزائرية هو كمن يدعو إلى استهلاك أي منتوج جزائري آخر. عِلمًا أنّ الحكم عليه بأنّه كذلك قد يُحرج، إذ كيف ستصنفه على أنّه كذلك. هل اللّغة تسعفك في ذلك، وأنت ترى أنّ نصوص محمد أركون أو مالك بن نبي مثلا كُتبت باللّغة الفرنسية، التي ليست هي اللّغة الوطنية ولا الرسمية للدولة الجزائرية؟ ثم إنّ موضوع هذه الفلسفة «الجزائرية» يمتاز بخصوصية موضوعاتية لم يتم طرحها ومعالجتها في نصوص فلسفية عربية أخرى. حتى لا نقول فلسفات أوربية، بل إنّنا نكاد نجزم أنّ قضايا الفلسفة هي قضايا الإنسان فالوعي والحرية والوجود والإبداع والعدالة والتضامن.... إلخ، مسائل إنسانية تخص الإنسان أينما كان، يبدع الإنسان في تأصيلها حينما يفكر بها ضمن مقاربات سياقية وهي وإن انحصرت في ضيق جغرافي فهي تسع الأفق البشري.
إنّ طرح السؤال بهذه الصيغة فيه شيء من الدوغمائية على أنّ هذه الفلسفة موجودة وغابت من برامجنا المدرسية ومن منظومتنا التربوية أو غُيبت بقصد، وهو ما يُفهم من وراء السؤال، وكان من الأجدر أن نبحث عن هذه الفلسفة بمنظار تأسيسي بإعمال العقل محليًا ليس كفعل أو إصدار أمر لأنّ التأسيس الفلسفي لا يكون بهذه الكيفية إنّما عبر مقاربات عقلية ومناهج نقدية يصدق بعد ذلك وصفها بأنّها جزائرية، لأنّها تأخذ الواقع الجزائري بعين الاعتبار أو أنّها تسعى إلى تبييئ الفكر وتوطينه بغية الاستفادة من خبرات وتجارب فلسفية غير محلية.
أتصوّر ومن باب أولى قبل طرح سؤال: لماذا غابت نصوص الفلسفة الجزائرية من منهاجنا المدرسي؟ أن نتحدث ونناقش واقع الممارسات الفلسفية في الجزائر أو الفلسفة، التفكير الفلسفي في الجزائر بدل الجزم بوجود «فلسفة جزائرية» يتعذر علينا التماس أثرها واقعيا.
وعلى فرض أنّ السؤال في مغامرته الفكرية سليم فإنّ سبب غياب «الفلسفة الجزائرية» من منظومتنا يعود بالأساس إلى غياب آخر للفلسفة هذه المرّة ليس من التربية فحسب بل من المجتمع، إذ أنّ الحضور الاجتماعي للفلسفة بوصفه معيارا للتقدم، كما ذهب إلى ذلك ديكارت في قوله: «إذا أردت أن تعرف مدى تقدم المجتمع أنظر إن كان فيه فلاسفة»، يفرض هذه الرؤية على جميع نواحي الحياة بما فيها التربوية.

عبد الرزاق بلعقروز/ أستاذ جامعي وباحث في مجال الفلسفة والفكر
غياب مشاريع تفرض نفسها وعدم اهتمام واضعي النصوص بالفلسفة
الإجابة المعهودة عن هذا السؤال هي أنّ هناك من يتجاهل وجود نص فلسفي جزائري، وأنَّ لدينا فلاسفة يتم إقصاؤهم أو تهميش جهدهم الفكري، وبالتَّالي يُراد للفلسفة أن تسكن الحرف التاريخي، والحرف الفرنسي والحرف المشرقي، وهذه الإجابة وإن أبانت عن رومانسية في الالتفات إلى النّص الفلسفيّ الجزائري، إلاّ أنّها لم تغامر بالسؤال إلى حيثياته الفاعلة في تخصيص جزء من الفلسفة الجزائرية في الكِتاب المدرسي. وبالنسبة لي، فإنّ الإجابة يجب أن تكون مركبة وليست تبسيطية أو اختزالية، ذلك أنّ الإجابة المركبة تقول أنّ ثمّة عدة أسباب كامنة خلف هذا الغياب للفلسفة الجزائرية أو النص الجزائري بعامة من أقواها ظهورا، هو طبيعة التَّكوين المعرفي لمن تُوكل لهم وضع برامج الفلسفة، ذلك أنّ أغلبهم لم يتكونوا تكوينا فلسفيا خالصا، بقدر ما كان تكوينهم جامعا بين مباحث الفلسفة التقليدية في صورتها الفرنسية، وبين المباحث النفسية والاجتماعية، فضلا عن توقف البعض عن متابعة الراهن الفكري في الجزائر وفي العالم ككل. وهذا الشيء، انعكس على مضامين الكِتاب المدرسي بأن أضْحى أسير النُّصوص الفلسفية بخاصة ضمن حقبة القرن التاسع عشر، وهي فترة لم تشهد اهتماما بالفكر الفلسفي الجزائري، فهذا الارتماء في أفكار الفلسفة الفرنسية، حجب نصوصا فلسفية جزائرية ذات قيمة: مثل نصوص محند تازروت الّذي يعد أوَّل من نقل كِتاب أشبنجلر أفول الغرب من الألمانية إلى الفرنسية، أو نصوص الأمير عبد القادر في الأخلاقيات الصُّوفية، وغيرها.. وهذا فوّتَ كثيرا من القيمة لهذه النصوص الفلسفية.
إنّنا في الجزائر وكما قال الدكتور عبد الرحمن بوقاف في أحد نصوصه، تخلو من المشاريع الفكرية الفلسفية، التي تفرض نفسها بإبداعها ونصوصها، فغالب ما هو سائد المنحى الأكاديمي والمنحى الحر المُتمثل في الأقوال التحليلية لنصوص الفلاسفة، وليس مكابدة روحية إبداعية تُحرر الوعي من التبعية وتُسكنه في الإبداع والإنتاج. ففي المغرب مثلا أو في تونس نجد الكثير من المشاريع ذات شأن في الفضاء الفكري على الأقل العربي، بينما في الجزائر ثمّة نصوص تحليلية وليس نصوصا إبداعية، لكن هذا لا يعني إلغاء هذا الدّور للتحليل، وأنا أقصد أنّه لو كانت هناك مشاريع كبرى أو مفاهيم إبداعية، لكانت حالتنا الفكرية في قوة وإنجاز ولفرضت نفسها على الكِتاب المدرسي، الّذي أضحى يتغذى على نزوع فلسفاني ليس في مستوى الأسئلة التي يطرحها هذا الزمان.صراع التأويلات في النصوص التي يجري اختيارها ضمن الكِتاب المدرسي، فالتحيّز والذاتية قد أثرتا على تشكيل نصوص فلسفية قوية، فالجزائر في الفترة الاشتراكية طلعت فيها نجومية النُّصوص الرَّفيقة، وعليه، فقد يعتبر البعض خلو الكِتاب المدرسي من الفلسفة الجزائرية، يعني خلوه من نصوص ذات اتجاه خاص، ومنظور خاص أيضا. فقد تجد نصوصا لمالك بن نبي حول الأفكار أو الإنسان أو نصوصا تراثية للأمير عبد القادر في عمق التصوّف الأخلاقي، لكنّها ليست ذات اعتبار من تيار آخر يرى فيها نصوصا لاعقلانية.
وهكذا، ألفينا أنفسنا بين تفسير مُركب لهذا الغياب لنصوص الفلسفة الجزائرية، ومتى أردنا أن نتجاوز هذا السؤال، فإنّنا نلتمس في أنفسنا أهمية المتابعة المعرفية لما يُكتب راهنًا في الخطابات الفكرية الجزائرية، ونلمح جوانب الإبداع فيها، كي تُوضع وتكون معبرة فعلا عن روح جزائرية أصيلة. وأن نستعيد الدور الحقيقي للفلسفة بما هي حب للحكمة، واعتبار الاتجاهات السائدة أدوات تتواصل فيما بينها لأجل بلوغ الحقيقة التي لا توجد ضمن هذا العالم كما قال بول ريكور.إنّ هدف النصوص الفلسفية هو إيقاظ غريزة التفلسف الكامنة في الإنسان، وحصول هذا موقوف على روح الثقافة المُشتركة، فالنّص الفلسفي إذا كان يحمل في حروفه صدى الثقافة التي دفعت به إلى التداول، فإنّه يكون حاضرا ومتشرّبا، أمّا إذا كان نصا منقطعا عن منابت الثقافة فإنّ مآله العطالة والبقاء الساكن دون حركة ودون انطلاق.
ن.ل

الرجوع إلى الأعلى