إن الارتباط بين الشعراء، وتداخل نصوصهم يجعل من الصعب نسبتها إلى أحدهم دون غيره، وتعلقهم بصورة مثالية ونموذج مشترك مكرس، نجده شائعا وبصورة واضحة في العصر الحديث، حتى بين شعراء من أفاق متباينة. شعراء يلحقون شعراء آخرين ويسيرون على نسقهم. ليس هذا بمفهوم التقليد، ولا تحت غطاء المشيخة أو الوصاية، ولا حتى علاقة التابع والمريد، ولكن بعضهم يصنع الآخرين شعريا، ألم يقل جرير»الفرزدق نبعة الشعر»؟ فيغيرون نظرتهم إلى الوجود والفن والجمال، كما قد يدمر بعضهم البعض.
حسين خمري
فإذا قرأنا حياة الشاعر الفرنسي أرتور رامبو، وقرأنا نصوصه، سنخرج بفكرة أنه دمر ذاته ليمنح الحياة للآخرين. لقد دمر أرتور ليحيا رامبو. اقتحم الفضاء الباريسي بعنف محطما تقاليده، فأزاح رموزه كما أطاح برؤوس بعض الكبار الذين تربعوا على مملكة الشعر، هو القادم من منطقة نائية، ومدينة صغيرة، شارفيل، شمال فرنسا، مدينة تفتقر إلى التقاليد الأدبية ولا تعرف منها إلا ما دون في الكتب المدرسية.كان هدف رامبو تحطيم التقديس وإحداث خلخلة في النظام السائد لإزاحة المألوف واستبداله بما كان مخبوءا. لم تكن فتوحاته شعرية فحسب، ولكنها كانت أيضا اجتماعية وأخلاقية، لم يكن هدفه انتزاع الاعتراف به كشاعر رغم حداثته ولكنه أراد أن يكون متميزا، أي رائيا فأطاح برموز الشعر الواحد تلو الآخر، بمن فيهم صديقه بول فرلين الذي لم يستطع أن يجاريه في عنفوان عدوه فتوقف وكانت محطته الأخيرة في بروكسل التي عاد منها خائبا إلى باريس ليعانق الكاثوليكية بطريقة تصوفية.لم يحز رامبو الاعتراف فقط، ولكنه أحدث الدهشة، رجة في بناء القصيدة التي كانت تتمتع بحصانة تقترب من التقديس، لقد حطم في طريقه كل شيء الحياة، الشعر، القيم البالية، أسقط أقنعة النفاق ليفسح المجال للموهبة الحقة.
حياة رامبو، والحياة عنده تختلط بشعره ويصعب فك خيوط تداخلهما، عبارة عن مسرحية تراجيدية من ثلاثة فصول تجري أطوارها في ثلاثة فضاءات شارلفيل وباريس وإفريقيا الشرقية، كل فضاء له خصوصيته. لرامبو طريقته الخاصة في التعامل معها وعلى القارئ الذي يريد التعرف على رامبو، ليس من وجهة نظر توثيقية، العودة إلى الدراسات أو كتب السيرة، ولكن إلى النصوص التخييلية التي حولت رامبو إلى شخصية سردية، عبرت عن التمزقات الروحية لفترة كانت سمتها الإضرابات وطابعها التحولات وانتقالات فجائية وإحداث غير محسوبة.
من بين هذه النصوص السردية التي حولته إلى كائن سردي رواية «رامبو الابن» لبير ميشون، رواية سيرية، تمزح بين التاريخي والفني، وبين الواقعي والسردي. رغم حجمها الصغير إلا أن هذه الرواية استطاعت القبض على ما خفي عن الدراسات النقدية والمقالات المهللة الممجدة كما المدينة والرافضة.تبدأ مرحلة المخاض الشعري، ما قبل الانفجار الكبير، لأن ما قبلها شيء مشترك بين كل البشر، عائلة مبعثرة، أب غائب في الثكنات العسكرية النائية، و أم متسلطة وأخت لا تكاد تظهر إلا في المشهد الأخير عندما كان أرتور يحتضر في أحد مستشفيات مرسيليا، لتحول حياة أخيها، بعد غياب طويل، إلى رواية منسوجة من بعض نتف حياة رامبو وشذرات من نصوصه وبعض الورقات من مراسلاته. فبعد أن كانت ايزابيل متخفية تماما، ربما لأنها لم تكن تريد أن تشوش على أخيها أرتور، أن تفسح له المجال واسعا. كانت شاهدا أخرسا، تحولت إلى ساردة، ربما روح أخيها ارتور انتقلت إليها. بالنسبة لها أرتور وليس رامبو، المشهد الأخير تعرضه ازابيل بكل قسوة، وربما بشجاعة نادرة أن تشهد أخاها الغائب دائما، الملعون اجتماعيا، تبتر ساقه ثم تموت الأسطورة أمام عينيها وينطفئ بريقها، هذا الفصل من المسرحية، هو «فصل في الجحيم» الذي تنبأ به رامبو وعانى منه.
لقد كان رامبو آلة فتاكة، تفتك بكل شيء يعترض طريقها. بدأ كتابة قصائد باللاتينية على طريقة الشاعر الروماني في فرجيل، كان ذلك من باب التقليد وهو عادة كل المبتدئين، نوع من التدريب على توظيف الكلمات وترتيب الصور. في سنة 1870، كان عمره آنذاك سبعة عشر عاما، كان يدرس بثانوية شارلفيل ولحسن حظه كان من مدرسيه، شاب يكبره بخمس سنوات، أنه أستاذ البلاغة والشاعر جورج ايزامبار الذي حوله رامبو بسحره، إلى أول قارئ لأشعاره كما حوله إلى مستودع لأسراره، «لقد شغل الشاعر البروفيسور ايزامبار، إلى الأبد كرسي البلاغة في ثانوية شارلفيل، وبقي أبدا في الثانية والعشرين من عمره (رامبو الابن 19)، شاعر كانت ربة الشعرية  قد خدعته بتخليها عنه كما يرى ذلك رامبو. تحول الأستاذ إلى قارئ ثم إلى صديق لرامبو، لم يتنكر ايزامبار لصداقته واعترف بعبقرية تلميذه فكتب بعد موت رامبو بخمس وخمسين سنة، كتابا تحت عنوان «رامبو كما عرفته» (ماركور دو فرانس 1946)، لأنه لولا رامبو لما عرفه القارئ، ولبقي واقفا أمام قاعة الدروس ينتظر تلاميذه ليعطي دروسا في البلاغة التي طلما كفر بها رامبو ومقتها.

يعرف القارئ جورج ايزامبار من خلال الرسالة التي أرسلها رامبو إليه عن طريق أحد الناشرين. لقد شاءت الصدف أن يصنع رامبو أستاذه.  الرسالة كانت بمثابة بيان أدبي، بقدر ما كان ظاهرها يوحي بأنه يطلب منه نصائح. وهل كان في حاجة إلى نصائح وهو المتمرد على كل أنواع الامتثال وأشكال الخضوع، ومختلف الوصايا؟ في شهر ماي من سنة 1871 كتب رسالة إلى الأستاذ جورج ايزامبار يعلمه فيها عن تمرده يلومه على شعره الذاتي والذي ينتهي به إلى لا شيء. أما رامبو فقد حسم موقفه قائلا «أريد أن أكون شاعرا، واعمل لكي أكون رائيا Voyant يعني الوصول إلى المجهول عن طريق خلخلة كل المعاني»(53.Lettres).
يعلن رامبو خروجه النهائي عن المألوف و»خلخلة المعاني» وربما تدميرها لكي يصل إلى مرحلة «الرؤيا» والقذف بنفسه في المستقبل. لا يريد أن يكون شاعرا فحسب ولكنه يريد أن يكون رائيا أي التفوق على الآخرين واستباقهم إلى مناطق مجهولة لم يطرقها المعنى من قبل و أرض لم يطأها غيره. ولكي يعلن انفصاله و خروجه النهائي عن غيره أضاف أنا آخر «Je est un Autre» (54 Lettres). هذه العبارة رغم بساطتها شغلت النقاد، فمنهم من يراها تنطعا زائدا عن اللزوم ومتجاوزا لكل الحدود، ومنهم من يراها طريقة لتعبيره عن تمييز الشاعر عن الذات القائلة، ومن هذا الصنف الآخر، كتب فيليب لوجون كتابا بنفس العنوان يتناول فيه: «السيرة الذاتية ـ من الأدب إلى الإعلام»، (1980) مؤكدا اختلاف الأنا النصي عن الأنا الواقعي الأنطولوجي.
ميلر: كان عليه أن يقاتل طيلة حياته

بعد يومين من هذه الرسالة، أرسل رامبو رسالة إلى شاعر آخر، صديق أستاذه ايزامبار، ربما لأنه يعتقد أن هدفه لم يتحقق، أو ربما أن رسالته لم تلق الاهتمام المطلوب. في هذه الرسالة الجديدة يبدي إعجابه براسين الذي يرى فيه تمام الصفاء وكمال القوة، كما يؤكد على الفكرتين السابقتين»أنا آخر» فيهاجم «الشيوخ الأغبياء» أصحاب»الذكاء الأحول» ويؤكد»: أقول يجب أن أكون رائيا، أن أصبح رائيا» ( 59.Lettres)، وهذا لكي يتمكن من اختصار كل أشكال الحب و الألم والجنون والبحث عن الذات، لأن «الشاعر هو حقيقة سارق النار.»(62. Lettres) إنها النار التي أحدثت الحرائق الكبرى في الشعر رغم اعتراف رامبو بأن بودلير هو الرائي الأول، ملك الشعراء، اله حقيقي. أما المدرسة الجديدة البرناسية، والتي تأتي في ترتيب لاحق لملك الشعراء، فأنه يدرج فيها ألبير ميرا وبول فرلين، الشاعر الحقيقي. لقد «جعل من نفسه رائيا حقا، لكنه، من ناحية أخرى، وجد الناس ينظرون إليه باعتباره مهرجا، وكان أمامه اختيار أن يقاتل طيلة حياته من أجل أن يثبت في الموقع الذي كسبه، أو يتخلى عن النضال نهائيا» (ميلر رامبو30).  لكن الرؤياوية لن تتحقق إلا إذا استطاع الإنسان أن يحدث خلخلة في البناء الشعري ومنظوماته التعبيرية ويعمل على تجاوزه، وهو ما فعله رامبو في رسالتيه إلى ايزامبار ودوموني. كان رامبو قد أنجز تخليه عن الإرث الديكارتي فاحدث قطيعة مع جنس التقليد السائد، لأن مجال الشعر هو الروح، أي الأحاسيس والعواطف في حين أن مجال الفكر هو العقل، فأعلن مقاربة الواقع حسيا وليس عقليا، وفي الوقت ذاته قد فجر الكوجيطو الديكارتي من الداخل محدثا شرخا في المنظومة العقلية، لأن»أنا هو آخر»، الحياة الحقيقية غائبة(91.Rosset ). فكان لزاما عليه القيام بحفريات في طبقات الواقع ليصل إلى الحقيقة. وتفجير الكوجيطو هو إحداث شرخ بين أنا أفكر، وبين أنا موجود.“التفكير” لا يحيل إلى الوجود، بل إلى الغياب ولا “أنا” يحيل إلى الوجود بل إلى العدم حين يصبح الفضاء الشعري طاردا. انه الخط الفاصل بين الوجود والكينونة، لأن “الأنا” تعد مجرد وسيط بين الذات والموضوع ( 11.Ricœur) بل تجمعها في حزمة دلالية واحدة، وبهذا يستطيع الشاعر»أن يكون في الوقت نفسه الذات والأخر» (42. Rosset) ليتمكن من القبض على جوهر الواقع.لقد عبر رامبو أوروبا، وفرنسا تحديدا كشهاب ليحترق بعيدا في الشرق ويخلد إلى الصمت، فمن باريس إلى بلجيكا إلى لندن إلى ألمانيا فسويسرا، كان يبحث عن ذاته التي لم يجدها، حتى وهو ينخرط في صفوف الجيش الهولندي كمحارب ليتخلى عنه، هاربا بنفسه ليخلد روحه. في كل مكان كان يبحث عن شيء ضائع، مستحيل، يحطم كل شيء في طريقه، وكان لباريس حظها الأوفر من مغامراته ونصيبها الأوفر من التحطيم.
انضمام رامبو إلى جماعة «الرجال الحقيرين» مجموعة من الشعراء الناقمين على الشعر وعلى المجتمع بتقاليده البورجوازية الجائرة، كان خيارا جماليا ووجوديا. لقد بدأ بتحطيم البيت السكندري بانتظامياته و إكراهاته المسلطة ليعلن ميلاد كلام شعري جديد، ولن يتسنى له ذلك بالإطاحة ببعض الرموز أمثال «الشيخ هوغو» مبديا نوعا من التعاطف إن لم نقل الشفقة تجاه ملارميه.
حين حاول فيرلين  اغتيال اللغة برصاصتين
كان ارتباطه شديدا ببول فيرلين والإعجاب ببعضهما متبادلا لكنه كان من جانب فارلين أقوى الذي لم يتحمل هجرته ومغادرته بلجيكا إلى جهة مجهولة فأطلق عليه رصاصتين لحسن الحظ أخطأته واحدة، في حين أصابته الأخرى في جانبه. لم يكن سبب المشاجرة الحادة التي وقعت بينهما، ولا تأثير الكحول، و لا حتى بأزمة انفعالية كما يرى الكثيرون ولكن حركة فارلين يمكن تفسيرها بأنه أراد أن يقتله شعريا، أن يغتال اللغة  التي كبلته فألجمت شاعريته لأن رامبو بدأ» يحتقر فرلين وشعر ويأخذ عليه افتقاره إلى العبقرية.» (رامبو الابن 63) لقد أحس  فارلين بإهانة جارحة، لقد طعن في كرامته وشرفه الشعري، أي في جوهره وجدوى وجوده. تبدو سخرية رامبو من فيرلين حادة وقاتلة حينما ذهب ذات فجر، يمشي على أربع ينبح أمام درج منزل فارلين، قد يكون هذا بتأثير السكر، لكن فارلين أحسها بطريقة أخرى، شعره لم يكن إلا نباح كلاب، فاخرج من بيت الشعر ليرمي به في الشارع ككلب ضال، وعندما رحل رامبو إلى الشرق انكفأ فارلين على نفسه وعانق عزلته إلى آخر أيامه لأنه لم يعد له ما يقوله بعد أن قال رامبو كل شيء  ولم يترك له شيئا.هل تحمل صفة «الكلب» دائما دلالة السبة والشتيمة أو القدح؟ ألم يكتب أبو بكر بن محمد بن خلف المدعو ابن المرزبان(ت 308) كتابا عن «تفضيل الكلاب على الكثير ممن لبس الثياب؟» موردا قصة الأعرابي مع عمر بن الخطاب مادحا كلبه «إن أعطيته شكر وإن منعته صبر...يشكرني ويكتم سري»(ص 58). ألم يقل صاحب «اللسان» رجل نباح أي شديد الصوت « .كان شعر رامبو مرتفع النبرة وعالي الصوت، كما إن الكلب(بفتح اللام) مرتبط بالجنون مثلما يلاحظ ابن منظور. حياة رامبو مثل شعره تعبير عن أقصى حالات الجنون. صمته عن قول الشعر كان ضرورة حياتية مثل المصاب بالسعار الذي يموت عندما يتناول الماء فيموت عطشا. رامبو أيضا ترفع عن الشعر لكي يموت صمتا. ألا يشبه رامبو الفيلسوف المجنون أنطونيو مورا صاحب فرناندو بيسوا الذي كان يلقي أشعاره على كلبه الأسود «جو».لقد ضاق الفضاء الأوروبي برامبو، كما اللغة بقيودها وإرغاماتها وقواعدها وطرائق تعبيرها فانطلق يبحث عن فضاء مفتوح، قيوده أقل قسوة، رجل يبحث عن لغة بكر، لم تطرق من قبل، لغة لا تحتاج إلى كبير عناء لاحتواء العواطف اللامحدودة والحلم اللامتناهي. كانت الحبشة واليمن ملاذه، لم يكن الهروب إلى هذه الأصقاع النائية بهدف المال بقدر ما كان بحثا عن الذات وعن الشعر. ولن يتسنى له ذلك إلا بالاندماج وسط الأهالي وتعلم لغتهم. قيل أنه تعلم لغات عديدة ومنها السواحلية والعربية، فارتدى الزي البدوي واتخذ له اسما يتماشى مع السياق الجديد، فاختار اسم»عبد ربو» اسم لا يرفضه السكان الأصليون، بل يجعل الشاعر قريبا منهم. هذا ما عبروا عنه لما وصلهم خبر وفاته، فأقاموا له عزاء يليق بمكانته، لأنه كان واحدا منهم. عكس ما حدث له في مرسيليا حيث أن» القس شولييه في المستشفى نفسه عرض عليه بعد إكمال المنشار تناول الخبز بلا خميرة، وأن إيزايبل رامبو شقيقته التي التمس منها وهو يحتضر ربما الله وربما ذهبا.... وأن اثنين أو ثلاثة هم حفارو قبور بيض لا أسماء لهم كالحبشيين الستة» (رامبو الابن89) هكذا تكون جنازته في بلده وبين أهليه، لم يشيعه إلا أفراد قلة من عائلته فتنطفئ  الأسطورة في صمت، بعد أن يخفت صوت الشعر.

لقد خلق رامبو شاعرين، وفي النهاية دمرتهما شاعريته وجنونه. أما الأول فهو الشاعر الفرنسي بول فيرلين الذي يكبره بعشر سنوات، كان لقاؤه برامبو حاسما، لأنه غير نظراته إلى الوجود ورؤيته للشعر، وتحول الشعر بالنسبة إليه إلى مغامرة جميلة، كما صرح بذلك في قصيدته «الفن الشعري» ما عداها فهو لغو. (رسائل إلى شاعر شاب 74) جعل رامبو صديقه الشاعر فيرلين يتخلى عن وظيفته ويهجر بيته العائلي وزوجته وأبناءه لاهثا وراء آثار هذا الشاعر الذي لم تتوقف مغامرته الشعرية ولا الإنسانية عند حد، كما لم يستقر في أي مكان، لأن الاستقرار يعني الركود والجمود والتوقف عن الإبداع.استقر رامبو لمدة قصيرة في «شارلروا» بجنوب بلجيكا حتى التحق به «مريده» وتابعه  وعندما ضاق ذرعا بالمكان والأشخاص قرر السفر إلى الحبشة فاليمن. حاول «المريد» إقناع سيده بالبقاء  وثنيه عن مشروعه بكل الوسائل، بما فيها الابتزاز والمال، ولكن لاشيء كان قادرا على ثنيه، فما كان من المريد إلا أن وجه بندقيته إلى سيده وبطلقتين وجد نفسه في المحكمة التي قضت بسجنه قرابة السنة، أما الشاعر المدمر بعد أيام في المستشفى واصل مغامرته.لقد تخلى رامبو عن صنيعه، ولكن بعد أن حقنه بجرثومة الشعر والجنون، فسافر رامبو إلى اليمن للتجارة في القهوة والسلاح وبقي فيرلين في فرنسا، متشردا، تائها مع أشعاره وإدمانه على الكحول. كيف لشاعر أن يخلق شاعرا آخر، ثم يدمره ويرمي به في متاهات الجنون والحيرة.لم يتوقف رامبو عن صناعة الشعر حتى بعد موته. ضحية أخرى من ضحاياه، هو الكاتب الأمريكي هنري ميلر الذي ولد في السنة التي توفي فيها رامبو 1891، يختلف عنه في اللغة، وثقافة الحضارة الأنجلوسكسونية، لكن رغم ذلك لم يسلم من فتنته وسحره، فكتب عنه كتابا بعنوان»رامبو وزمن القتلة»(1955)  أي بعد أن سرى السم في عروقه جيدا وانتشرت جرثومته  في جسمه و إبداعه، ولكنه بعد أن تجاوز منطقة الخطر، يقولها بنوع من الأسف « لو أنني قرأت رامبو في فتوتي، لما استطعت أن أكتب سطرا أبدا» (رامبو زمن القتلة 83) استطاع أن يشل هذا الكاتب العملاق وأن يجرده من كل قواه الإبداعية. لقد أنساه إبداعه، ونصوص الآخرين، وجعله عاجزا عن الفكاك من أسره، «كنت منغمسا في حياته، سطرت بالطباشير أشعاره على الحائط، في المطبخ، في غرفة المعيشة، في المغاسل، وحتى في البيت. إن تلك الأشعار لن تفقد قوتها أبدا، وكلما مررت بها انتابتني الرعشة نفسها، والبهجة ذاتها وذلك الخوف من فقداني العقل لو توقفت عندها طويلا»(ص 22).جرثومة الجنون تصيب ميلر وتجعل القصائد و»المعلقات» تحاصره في كل الأمكنة وفي زوايا بيته مهددة إياه بفقدان العقل والاندثار. إعجاب هنري ميلر برامبو فيه نوع من العبادة، إنه تعلق كهنوتي، تعلق بأسطورة لن تتكرر، أسطورة الوهم وأسطورة الشعر، ذات قدرة على تحويل الحياة إلى شعر والشعر إلى حالة روحية عميقة. يتساءل ميللر في حيرة: «لماذا أعبده إذن، فوق كل الكتاب الآخرين؟ ألأن إخفاقه ذو طبيعة تنويرية؟ ألأنه قاوم حتى النهاية؟ أعترف بأنني أحب كل الرجال المسمين متمردين أو فاشلين، أحبهم لأنهم بالغو الإنسانية، إنسانيون جدا.»(ص 84) قد يكون الفشل قدرا محتوما ولكن الذي يقاوم هذا الوضع ويستميت في الدفاع عن قناعاته، مهما كانت، يرتفع من المستوى  البشري إلى المستوى الإنساني، من تحقيق المصالح الذاتية والمنافع الآنية إلى مستوى البطولة ولعل هذا ما وجده ميللر في رامبو، حيث يتحول الإخفاق إلى فضيلة و التمرد عليه إلى ميزة، العظماء لا يبدعون في النجاح فقط لكنهم مبدعون أيضا في إخفاقاتهم، ألم يقل أندريه جيد أن حماقات العظماء فاتنة، يتحول الإخفاق إلى فتنة وتتحول الحماقة إلى سحر لكن على يد شاعر أو كاهن.
ح.خ

الرجوع إلى الأعلى