سمحت لجزائريين بالإفلات أثناء خدمتي  في صفوف الجيش الاستعماري خلال الثورة
جيــل دولــــوز أثــر في كثـــيرا والفلسفـــة مريضـــة اليــــــوم بفرنـــسا
يحدثنا عالم الرياضيات الفرنسي بيار كارتيي في هذا الحوار عن علاقة الرياضيات بالفلسفة والمجالات الإنسانية وأهم مفكري عصره الذين تأثر بهم خلال مساره، كما يؤكد لنا بأن الفلسفة في فرنسا صارت مريضة اليوم ولم يكتمل المسار الذي خطاه جيل السبعينيات الذين أحدثوا ثورة في الفكر وامتد تأثيرها إلى باقي بقاع العالم، بعد أن وقعت قطيعة تامة مع تراثهم. وقد فتح كارتيي لنا قلبه وروى لنا شيئا من تجربته كمجند في البحرية الفرنسية في الجزائر خلال فترة حرب التحرير، أين كان متعاطفا مع الجزائريين في نضالهم ضد الاستعمار وسمح لعدد منهم بالإفلات من قبضة العسكر.
حاوره: سامي حباطي
نبذة عن البروفيسور بيار كارتيي
يعتبر واحدا من أكبر علماء الرياضيات بفرنسا اليوم، ويدرس حاليا بمعهد الدراسات العليا للعلوم بفرنسا، حيث ولد سنة 1932 وتحصل على شهادة الدكتوراه من المدرسة العليا الفرنسية للأساتذة في سنة 1958 في مجال الرياضيات بعد أن أشرف عليه عالم الرياضيات الفرنسي هنري كارتان. درس بعدة جامعات ومراكز بحث وكان عضوا في مجموعة “بورباكي” التي تركت الكثير من المؤلفات في مجال الرياضيات تحت اسم رياضي وهمي باسم نيكولا بورباكي، في حين حاز البروفيسور كارتيي في سنة 1978 على جائزة أمبير للرياضيات من أكاديمية العلوم، وهي أرقى لقب في فرنسا في المجال المذكور.
العلاقة بين الفلسفة والرياضيات وطيدة جدا
_النصر: ماذا يمكنك أن تقول لنا بشأن علاقة الرياضيات بمجالات العلوم الإنسانية؟
_البروفيسور بيار كارتيي: يمكن أن نسميها العلاقة مع الحضارة بشكل عام، لكنه ليس من السهل أن نحدد ما إذا كانت الرياضيات هي ما يؤثر في المجتمع أو العكس، لأن تاريخ الإنسانية يتطور في مجمله بشكل متواز. لقد انبثقت الرياضيات عن تعقد الحياة الإنسانية، مع ظهور التجارة وبعض المجالات القريبة منها وما نتج عنها من حاجة إلى تطوير أساليب الحساب منذ بداية تبلور الترتيب الاجتماعي. وقد ساهم الدين أيضا في تطور الرياضيات، ويمكن ضرب المثال بالمناسبات الدينية التي تطلبت اختراع رزنامة على غرار الحساب الشمسي، ومنها عرف الإنسان بأن العام يتألف من 365 يوما، إلا أن هذا الأمر برزت عنه الحاجة إلى تطوير علم الفلك وهو من المعارف المعقدة أيضا.
من جهة أخرى، قاد البناء إلى تطوير الهندسة، كما ساعدت الفنون في تعميق البحث فيها، ويبرز هذا في الكتابات الصينية القديمة، لذلك يمكن القول إن المجتمع يواجه حاجات جديدة تستدعي تطوير العلوم الأساسية، التي تتطور بنفسها أيضا، وجميع المجالات المعرفية الأساسية تتكامل مع بعضها البعض.
_لقد قلت في مداخلتك أنك درست بعض الفلسفة في المدرسة العليا الفرنسية للأساتذة، فلماذا لم تواصل فيها؟ وهل كنت سعيدا بمرورك بها؟
_في السنة الأولى من دراستي بالمدرسة العليا للأساتذة كنت في قسم الرياضيات والفلسفة وعند نهاية العام توجهت إلى أستاذي من أجل طلب النصح، حول الاختبار الذي يجب علي أن أجتازه لأواصل في أحد المجالين. وقد اعترض أستاذي على اجتيازي لامتحان الفلسفة، حيث قال لي “إني أقدم لك نصيحة عملية من والد لابنه، إذا اجتزت امتحان الرياضيات فستنجح فيه بنتيجة جيدة، أما بخصوص الفلسفة فإنك ستواجه صعوبة فأنت لست متمكنا كثيرا من الفلسفة الإغريقية وكثير من الجوانب الأخرى التي لم تتلقها بشكل جيد”.
كنت متعاطفا مع الثورة الجزائرية بشكل تام
_هل انقطع اهتمامك بالفلسفة بعد ذلك؟
_لا أبدا. لقد ظللت دائما مهتما بالفلسفة طيلة مساري العلمي، وبعد أربعين سنة ترأست ملتقى حول الفلسفة والرياضيات بالمدرسة العليا للأساتذة وقد سارت الأمور بشكل رائع وسلس. (يضيف ضاحكا) ورغم أنني كنت كبيرا في السن حينها إلا أنه للأسف لم يكن قد تكون جيل جديد من الشباب ليأخذ مكاننا. اهتممت دائما بهذا النوع من المواضيع وكتبت العشرات من المقالات التي تتداخل فيها العلوم الإنسانية مع العلوم الدقيقة، على غرار التاريخ والفلسفة والرياضيات.
_أنت تنتمي إلى جيل ظهر فيه الكثير من الفلاسفة الفرنسيين وغير الفرنسيين، على غرار جيل دولوز وميشال فوكو. من هم الفلاسفة الذين تأثرت بفكرهم أكثـر من غيرهم؟
_أثرت أفكار وتصورات جيل دولوز في كثيرا وبشكل مباشر، لكني لم أتأثر بشكل بالغ بميشال فوكو رغم أنني أعتبره واحدا من كبار فلاسفة عصره. (يصمت قليلا ثم يضيف) في الحقيقة لا أؤيد فكرة فوكو عن الدولة. للأسف لم تعد الفلسفة في صحة جيدة اليوم بفرنسا، لأنه لم يظهر من يحمل مشعل جيل هؤلاء الفلاسفة الكبار كفوكو وديريدا اليوم، بل على العكس لقد وقعت قطيعة شبه تامة مع ما شرعوا فيه.
لا أؤيد ميشال فوكو في فكرته حول الدولة
أشير بالمناسبة إلى أنه تربطني علاقة مصاهرة بعيدة مع جاك ديريدا من جهة زوج ابنتي الذي تعود أصوله إلى الجزائر، فعائلته كانت تقطن قديما بمدينة وهران، وقد أراني مجموعة من الصور العائلية شاهدت فيها جاك ديريدا وهيلين سيكسوس وجيل دولوز وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين. لقد ساهمت في الكثير من المرات مع المشتغلين في مجالات العلوم الإنسانية، ومن الأمثلة عن تلك الأعمال أحد الكتب الذي ألفته مع الباحثة في التحليل النفسي ناتالي شارو، تحت عنوان “الرياضيات والتحليل النفسي” وفيه تطرقنا إلى التحليلية النفسية لألكسندر غروتنديك.
_إذن فهناك رابط قوي بين الفلسفة والرياضيات.
_نعم الرابط بين الرياضيات والفلسفة قوي جدا. أنا لست مختصا في الفلسفة لكنها موجودة دائما ضمن قائمة المجالات التي أهتم بها بشكل أساسي، كما أنني أمتلك في رصيدي الثقافة العامة حولها، فخلال مساري قرأت للكثيرين على غرار لايبنيز وديكارت وأفلاطون، الذي أسس المدرسة الفكرية الأولى التي انبثقت عنها الرياضيات في عصره. لا ننسى علماء الرياضيات العرب الذين ساهموا كثيرا في الفلسفة أيضا.
_هل سبق لك وأن قمت بأبحاث أو كتبت مقالات أو مؤلفات مع مختصين في الرياضيات من الجزائر؟
_لا أبدا.

_هل هذه أول مرة تزور فيها الجزائر أم سبق لك وأن سافرت إليها من قبل؟
_(يبتسم) بلى لقد زرتها من قبل، وعرفتها لأول مرة وأنا مجند في صفوف البحرية الفرنسية في المرسى الكبير بوهران ما بين سنتي 1959 و1961 بعد أن تحصلت على الدكتوراه في الرياضيات وتوجهت لتأدية الخدمة الوطنية.
_ألم تتعاطف مع الجزائريين أثناء تواجدك هنا؟
_بلى، لقد كنت مؤيدا للثورة الجزائرية وقضية تحررهم بشكل تام، وعانيت بسبب ذلك كثيرا أثناء تواجدي في صفوف الجيش. عندما غزا النازيون فرنسا كنت ضد الدكتاتورية والعنصرية التي جاؤوا باسمها، وكنت أبلغ من العمر ثماني سنوات عند بداية الحرب العالمية الثانية و12 سنة عند نهايتها، وما كنت لأتردد لحظة في التوجه إلى الجبال من أجل محاربة احتلال النازيين لو كنت أكبر من ذلك بثلاث سنوات فهذا الأمر واضح تماما بالنسبة إلي، لكن يجب أن أبين فقط بأن مشاعري تجاه ألمانيا غير النازية كانت مختلفة فأمي نصف ألمانية.
تربطني علاقة مصاهرة بعيدا بجاك ديريدا
الأمر المثير للأسف أنهم وضعوني بعد ذلك بسنوات طويلة في المعسكر الآخر وجندوني برتبة ملازم في الجيش من أجل قمع أشخاص آخرين نهضوا للمطالبة بحريتهم.
_هل حاولت إيجاد حيلة للتهرب من الخدمة الوطنية حينها، خصوصا وأنه كان سائدا خلال تلك الفترة أن يرسلوا المجندين لمحاربة الثورة في الجزائر؟
_لقد ترددت كثيرا قبل أن أستجيب لاستدعاء التجنيد يومها، وقد نصحني العديد من أصدقائي بمغادرة البلاد وألا أقبل الانضمام للجيش، لكن نصيحتهم تعني ألا تطأ قدمي التراب الفرنسي مجددا إلا بعد 15 سنة على الأقل، وهذا كان أمرا في غاية الصعوبة بالنسبة إلي.
_كيف استطعت أن تحافظ على رباطة جأشك خلال مرحلة تجنيدك؟
_كان الأمر قاسيا جدا بالنسبة إلي، وبمنطق الجيش الفرنسي لتلك الفترة، فقد خنت في مرتين، حيث سمحت لجزائريين بالإفلات من قبضة العسكر وهذا ليس بالأمر البسيط.
_هل تستطيع أن تروي لنا الحادثتين؟
_بالطبع. وقعت الحادثة الأولى عندما كنت ضمن مجموعة من مشاة البحرية في أحد المخيمات بالقرب من مدينة وهران، وقد قمنا يومها بعملية تمشيط واسعة بحثا عن مجاهدين. في المساء سكر باقي المجندون وقمت وحدي بجولة في المخيم لمعاينة المكان، فوجدت جزائريا مقرفصا ومتكوما داخل جلابته. تحدثت إليه وأخبرني بأنه جائع، فأعطيته برتقالات ليأكلها فابتسم وردد كلمة “أخي أخي”. أذكر بأن فرنسيته لم تكن جيدة كثيرا لكنني استطعت أن أتواصل معه وأرشدته إلى الطريق ليفر من المكان. (يضحك بشدة) لقد اغتنمت فرصة كون الآخرين سُكارى تلك الليلة وقمت بفعلتي.
شاركت بتأليف كتاب حول الرياضيات والتحليل النفسي
الحادثة الثانية وقعت في البحر عندما كنا على سفينة نقوم بحراسة الحدود بين الجزائر والمغرب حرصا على منع المتسللين بين البلدين، فالحدود كانت مغلقة حينها، وأذكر بأن القائد ذهب للنوم وأعطاني تعليمات بألا أوقظه مهما حدث، فتحملت أنا المسؤولية كاملة خلال تلك الليلة. خلال جولة ضبطنا قارب صيد صغير محملا بعشرين شخصا كانوا يهمون بقطع الحدود، وقد كان قائدهم مهربا اسبانيا من مدينة مليلية. مارست مع الإسباني بعض التمثيل الكوميدي وقد أخبرني قصة كاذبة تماما لكنني كنت أقوم بتسجيل ما يقول دون أن أحاول معرفة تفاصيل أكثر أو التأكيد على كذبه، قبل أن أتركهم في حال سبيلهم. أخبرت قائدي بما قمت به، ولم يفعل بدوره شيئا في النهاية.
س.ح

الرجوع إلى الأعلى