قد يبدو من المبكر الحديث عن وجود قواعد رصينة للنقد المسرحي في الجزائر، إذ لا يزال هناك انفصام شديد بين الظاهرة المسرحية التي تموّلها الدولة عبر مسرحها الوطني والمسارح الجهوية في مختلف ولايات الوطن وما تقدمه التعاونيات والجمعيات الفنية من جهة والنقد المتخصص من جهة أخرى.

 ليس ضروريا أن نتحدث تفصيلا عن الزهد الواضح في الممارسة النقدية المتابعة للعروض الدائمة من قبل الناقد المتخصص الذي هو حتما خريج قسم فنون أو نقد أدبي في أضعف الأحوال وليس صحافيا مغامرا قادته خطاه إلى الكتابة غير العارفة بالقواعد النقدية.  القطيعة التي نعيشها نحن المشتغلون بالنقد وبين صناع العرض المسرحي تكاد تكون واضحة بشدة. التعود على غياب الناقد أصبح واقعا حيا والعروض المسرحية تقدم وتشاهد دون متابعات ناقدة، حتى حين يظهر مقال هنا أو هناك لا يتم النظر إليه باعتباره قيمة مضافة. حال النقد المسرحي في الجزائر بائس بالفعل. الناقد يكتب في المجلات الأكاديمية التي تصدرها مخابر البحث أو الكليات التي تدرس الفنون والآداب ولا يقرؤها إلا المتخصصون من الباحثين أو الطلبة المشتغلين على رسائل التخرج. عدم الانفتاح على الصحافة وعدم انفتاح الصحافة على الناقد مشكلة جعلت من الصورة شديدة العتمة. هكذا أرى النقد المسرحي في الجزائر:كتابات على استحياء تظهر متقطعة بشكل فردي مناسباتي لا يمكن أن يشكل ظاهرة أو تيارا له متابعون من المسرحيين والجمهور.
.كتاب"منمنمات مسرحية" الصادر عن دار المنتهى الجزائرية للناقدة "صورية غجاتي" المحاضرة بجامعة قسنطينة 1 يحاول أن يمارس دوره في التشابك النقدي مع مجموعة من التيمات الهامة التي تشكل بؤرة مركزية في أي تصد للظاهرة المسرحية في الجزائر التي تخصص لها الكاتبة جزءا أساسيا من قراءاتها النقدية وفي الوطن العربي عموما في أجزاء أخرى منها، وهي تعلن من البداية ابتعادها عن الوثوقية فيما تطرحه من آراء أو صلابة في القاعدة المعرفية التي تنطلق منها للدفاع عما تذهب إليه فالقارئ العربي حسبها "لن يجد في هذه المنمنمات أجوبة شافية لتساؤلاته بقدر ما تحرّك فيه جمر الرغبة في طرح المزيد من الأسئلة.
« هذه الروح الإيجابية في التعامل مع الظاهرة المسرحية بوصفها بروفة لا تنتهي وبأنها تستجيب للاشتغال النقدي الدائم بحكم العلامات المتفجرة وشديدة التعقيد أولا وبحكم مشروعية الاختلاف مع متلقي هذا الاشتغال ثانيا. تمثل دافعا هاما لمحاورة هذا الكتاب ومناقشته في أهم مفاصله التي انبنى عليها. الدراسات الست التي قام عليها الكتاب يختص واحد منها في المسرح العربي ومسألة الهوية بينما تشق البقية طريقها في المسرح في الجزائر. «

عن مخلوف بوكروح
 في دراستها عن الناقد مخلوف بوكروح نلحظ جهدا على قدر من الأهمية ولو أن الملاحظ عليه المرور السريع على جملة الإشكالات المطروحة ضمنه غير أنها كانت لها القدرة الوافرة على توضيح ما يجب توضيحه..المشكلات التي ظلت تطرح منذ الثمانينات من غياب النقد المتخصص وتولي بعض الصحافيين المهمة بديلا عنه بحيث أنتج حالة من التشويه الحقيقي للمسرح ونقده. ما تكتبه الصحافة قد يكون مفيدا في جزئه الإخباري الذي يُعلم الناس بعناوين العروض وأوقات تقديمها وأسماء المشاركين فيها بينما سيكون له مظهره التشويهي عندما يبدأ بإصدار أحكام جاهزة بعيدا عن أية وجهة تحليلية تقوم عليها. هذا ما سقطت فيه جملة من كتابات بوكروح التي نشرها في مجلات مثل "الجيش" مثل حديثه عن مسرحية ديوان لملاح لولد عبد الرحمن كاكي بتعميم مُخلٍّ: "ليس هناك الشيء الكثير الذي يمكن أن يقال عنها فهي تعتبر من الأعمال الفاشلة لولد عبد الرحمن كاكي وللمسرح الجهوي بوهران أيضا" قد يبدو الجهد الهام الذي قدمه بوكروح وتشير له الكاتبة في "منمنمات مسرحية" كتابه: "الصحافة والمسرح" الذي حسبها "نظر في علاقة الصحافة بالمسرح وبالتحديد تقديم دراسة عن دور الصحافة الجزائرية المكتوبة ممثلة في عشر صحف وطنية يومية وأسبوعية باللغتين العربية والفرنسية" ثم كتابه الهام: "المسرح والجمهور: دراسة في سوسيولوجية المسرح الجزائري ومصادره" وهما بلا شك من الكتب النقدية الهامة التي يعول عليها في النقد المسرحي الجزائري.
لمع اسم مخلوف بوكروح بدرجة أكبر في الدراسات المسرحية بعد تنبيهه لنص: "نزاهة المشتاق وغصة العشاق" للجزائري ابراهام دنينوس بأنه قد يكون أول نص مسرحي عربي حديث تأليفا وطباعة وهو ما ينزع الريادة عن مارون النقاش. قد نعلق على هذا الحديث الذي أوردته الكاتبة بالقول بأنّ حديث الريادة الذي لم يُقطع فيه إلى الآن واجهته معركة صاخبة قادها بعض النقاد المشارقة مثل: "سيد إسماعيل علي" بحيث حاولوا نفي ما توصل إليه بوكروح على الرغم من اعتماده على وثائق وصور تثبت ما وصل إليه. النزعة الوثوقية ومجموعة الأحكام الجاهزة لهؤلاء "النقاد" واستخدام العبارات الرجراجة التي تحاول النيل من هذا التصحيح الهام في ذاكرة المسرح عند العرب لم تكن إلا نزعة شوفينية لا تزال تتربى على عقدة التفوق وتنحاز إلى المسلم والمعتاد على الرغم من اقتراب الوثائق المكتشفة إلى مستوى الحجة الثابتة. تأكيد الكاتبة على قيمة المنجز الذي قدمه بوكروح يأتي ضمن قيم نقدية راقية تسعى لتتبع مسارات الشخصيات الفاعلة في هذا الميدان وتحديد المشكلات الأساسية التي اشتغلت عليها تجربتهم وتبني نظرة نقدية تحتفي بهذه التجربة بأدوات معرفية تستجيب للشروط المنهجية والفكرية المطلوبة في أية قراءة تحاول ترتيب البيت الداخلي لمثل هذه الكتابات."
مسرح القسوة واحتفال العيساوة
 اعترف أنّ حماستي للكتابة عن هذا العمل قد أتت بعد انتهائي من قراءة الفصل الخاص بالمقارنة بين مسرح القسوة كما يقدمه أرطونان آرطو واحتفال العيساوة الذي يعرفه الجزائريون كواحد من الطقوس الشهيرة في الاحتفالات الشعبية. هذه الدراسة التي أنجزتها الكاتبة «تزعم» وجود تأثر عند آرطو باحتفالات العيساوة التي تشهدها بعض مناطق الجزائر والمغرب الكبير عموما وتتمثل كغيرها من طقوس الصوفية بمجموعة من المظاهر منها ما هو مستحسن وهو جليّ في هذه الممارسات ومنها ما هو مستقبح خاصة ما يتعلق بتقطيع الذبائح وهي حية من خلال الشد القوي وشرب الدماء وغيرهما من ممارسات تتقاطع مع البدائية. ينتقل المشاركون في هذه الاحتفالات من حالة عادية إلى حالة الوجد في شعرية غرائبية بتعبير الكاتبة "يصبح فيها المعني كائنا منفصلا تماما عن لحظته السابقة" يطرب الجسد وتتفاقم قدرته التعبيرية وأدواته في ذلك كله الأعضاء. هذا الاحتفال تجد فيه الدكتورة غجاتي تطابقا بين المادة الشعبية التي تظهر من خلاله وبين مسرح القسوة كما نادى به أنطونان آرطو مما يجعلها ترى فيه احتمالا لتأثر آرطو بهذا النوع من الاحتفالات خاصة بالنظر إلى أنه ولد بمدينة مرسيليا الفرنسية التي تمثل ملتقى المهاجرين الجزائريين والمغاربة عموما بحيث يكون قد رأى هذه الاحتفالات عندهم. من الجيد أن الباحثة لم تقطع يقينا بهذا التأثر وتركت المجال مفتوحا لباحثين غيرها للفت الانتباه لهذا التشابه "إذا وُجدَت القرائن الدالة لذلك" وهو تنبيه لا يقوم على حجة قوية في الاستدلال حتى يثبت مصداقيته -وهي لا تزعم هذا على العموم- ولكنه تفكير خارج الإطار التقليدي قد يثمر أبحاثا تجد لها مرتكزات جديدة تثبت هذه الفرضية من عدمها. ربما كان من الغريب أن تجمع مراجع هذا البحث بين كتاب هام لجاك دريدا لا يزال المتخصصون يتدارسونه على استحياء وخوف من الترسانة المفاهيمية التي يقف عليها وبين الموسوعة الحرة ويكبيديا التي يكتب فيها عامة العامة. وأن تلتئم كتب متضادة مثل : المسرح وقرينه لآرطو وكتاب بسيط لفاطمة موسى: قاموس المسرح بينما لا يجد القارئ مكانا لمعجم باتريس بافي الأساسي في كل دراسة للمسرح في الأغلب. كما يمكن الإشارة أيضا إلى اختلافي مع الكاتبة في إعادتها لمناقشة مجموعة من المسائل بحثيا كان يفترض أن الدراسات حولها تنوعت وتكاثرت حتى أصبحت استعادتها من قبيل تدوير الأفكار دون أثر جديد ملموس. صحيح أن هذه الدراسات التأمت في هذا الكتاب بعدما كتبت بغرض مشاركات علمية في وقتها لكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى "تقليدية" عدة أبحاث في الكتاب مثل المسرح العربي ومشكلة التأصيل. إشكالية اللغة المسرحية. سؤال التجريب. كتاب "منمنمات مسرحية" واحد من إسهامات المؤلفة إضافة إلى كتابها الآخر: "الخطاب المسرحي عند أحمد بودشيشة: بين الإيديولوجيا والفن" الصادر خلال عام 2017 عن دار "جسور" الجزائرية. وهما يحاولان معا أن يمارسا دورها في رفد الحركة النقدية بالجزائر.
ياسين سليماني

الرجوع إلى الأعلى