بيــــــن نقــــــد التاريــــــخ وارتبـــــاك لغــــــة الســـــــرد
لم نأخذ التجربة الروائية للكاتبة لينا هويان الحسن على محمل دراسة مكتوبة من ذي قبل، لكن لطالما انطبعت أثناء قراءاتنا المتوالية لرواياتها ميزات شكلت المنحى الروائي للكاتبة، وبقينا خلالها بين إعجاب بحبها ونهمها للمواضيع التي تشتغل عليها -وتتجلى في الخط التاريخي للمرأة الدمشقية والشامية بصورة عامة- وبين إهمالها للقالب الشكلي الّذي تظهر عليه هذه المواضيع في لغة سردية حسنة. ورغم ذلك فإنّنا نلحظ تطورا ملموسا في اللّغة السردية في روايتها الأخيرة "بنت الباشا" كما نلحظ ملامسة مهمة في إعادة صياغة للتاريخ الذكوري في علاقته بالأنثى على مستوى المجتمعات الشرقية التي تقدم قوة الخطاب الذكوري إلى الواجهة وتتواطأ مع ضعف الذكر في الخفاء أين تمارس الأنثى كل سلطتها المقموعة.

وقبل التطرق للرواية الأخيرة "بنت الباشا" فإنّه من الضروري التعريج  على خط الكتابة الروائية لدى لينا هويان الحسن، فهي على مدار عدة روايات أصرّت على الانتساب إلى الخط التاريخي أولا الّذي يبين حبها لتاريخ بلدها الغني، في محاولة لاستنطاق التاريخ القريب من عهد الأتراك حتى القرن العشرين وفعالية المرأة داخله، من منظور أنّ المرأة اليوم صارت في تدهور إلى الوراء رغم أنّ العالم يتطور إلى الأمام. تبدو الكاتبة في هذا التاريخ أنّها على اطلاع واسع، وهي قاعدة حتمية للرواية التاريخية، بل اطلاع مبني على نهم وحب كبيرين لهذا الحضور القديم للمرأة والغائب اليوم، أين تضعك لينا هويان الحسن على كل تفاصيله من داخل العائلات الأرستقراطية إلى الصحراء والبادية، به غوص عميق وبحث جاد يجعلك تبحث في آخر كل صفحة عن تهميش للمرجع الذي أخذ منه الحادث أو الوصف وغيرها، لكنك لا تجده حتى تتخيل الكاتبة لينا داخل كل المكتبات والأرشيفات باحثة عن كل الحكايات وتفاصيلها الصغيرة. كما تقف لينا حيال هذا التاريخ من خلال شخصياتها الروائية موقف النقد والتنقيب في المخفي منه، وتعطي حقائق وأصول الشخصيات التي هي في الغالب من جنسيات مختلفة كونت المدينة دمشق، المدينة المنفتحة على كل قادم. فامرأة دمشقية هي امرأة هجينة في بعض الأحيان.

إنّ هذا الخط التاريخي الذي تصنعه لينا هويان الحسن في رواياتها عن المرأة الشامية هو خط الخطاب الأنثوي كما يبدو جليا في نقد الخط القائم حول المرأة حاليا. فالمرأة عندها صنعت التاريخ وقاومت وعاصرت التطور في زمانها وغيرها. هي نقد لدور المرأة الحالي من المنطلق العربي وإعادة اعتبار لدورها من خلال التاريخ.
الحكي ضد اللغة
نلحظ أنّ شغف لينا بهذه المواضيع وشغفها بكل تفاصيلها ينسيها في كثيرا من الأحيان أنّها تكتب لتُقرأ وليست في وضعية تحدث في جلسة لتسمع، مما يظهر أنّها مثل الحكواتي في حلقة، رغم أن ثقافة الحكواتي أيضا في سرد الأحداث كانت تخضع حتى إلى وقت ما إلى ضوابط.
ومن الضوابط التي نخضع لها سرديا هي ضابط اللغة التي نكتب بها وثقافتها، حيث نجد أن الكاتبة في كل رواياتها تنهي فقراتها وجملها بالأفعال وتترك المعنى معلقا وهي تبدأ بالأسماء والصفات والإضافات والجمل الاعتراضية، مما يجعل عقل القاريء مشوشا ويركز على عدة جهات ليربط ويفهم مسار اللغة السردية.
بل تشعرك أحيانا أن الأهم عندها هو المعلومة والتفصيل الذي يكاد يكون منقولا كما هو مما يعرض أحداث وحيثيات الرواية للتشويش والفوضى وهذا ما حدث في رواية "نازك خانم" التي تعتبر أكثر رواية لها وقعت في هذا المطب. حيث تبرز محاولات إدهاش القارئ بمقولات لشخصيات تاريخية معروفة ومنها بطلة الرواية نازك خانم.
ولو عدنا إلى طريقة بناء الجمل والفقرات في رواية نازك خانم فإننا نجدها مشبعة على هذا النحو وغيره، حيث تبدأ الفقرة بقوة لها: (نازك خانم، كانت..)، أو مثلا: (نازك خانم، بباريس ومع وجود بيكاسو حين وقع في جمالها.. فثارت غيرة زميلاتها) وغيرها من شاكلة هذه الجمل والفقرات التي تجعلك معلقا إلى النهاية حيث يأتي الفعل ويبدأ اتضاح معنى الكلام. والكل يعلم أنّ الجملة الفعلية في اللغة العربية تقتضي البدء بالفعل أولا، فما بالك أيضا بفقرات سردية تحتوي أفعالا، كما لا تتراجع الكاتبة في هذا المقام على البدء بالفاعل ثم الإضافة ثم الفعل في النهاية، وتترك القارئ معلقا في فهم الفقرة حتى يعيد تركيبها من جديد ليستدرك المعنى الّذي ترمي إليه. لسنا نقعد في هذا المقام للقواعد الصارمة في اللغة العربية وإلا كنا جامدين حيالها، لكنها أبسط الأشياء في المحافظة على عدم خلخلة المعنى الذي يبدو غير مترابط مع الشكل، فالتجديد في اللغة أو تحديثها ليس جزافا بل هو خاضع لانسجام ما، ومتى لم يتوفر هذا الانسجام فلا يعد الأمر تجديدا أو فنا، بل لا مبالاة وخلخلة.
فمشكلة لينا هي ترتيب الجمل في الفقرة بطريقة سلسة وكذا الكلمات بحسب خصوصيتها في اللغة العربية والأمر ليس مرتبطا بقاعدة شكلية جافة بل هو ضرورة في المعنى وفي ثقافة اللغة في حد ذاتها.
وإذا كانت رواية "نازك خانم" قد بلغت حدا كبيرا من هذه اللامبالاة فإنّ الروايات الأخرى قد توفرت على الأمر بتفاوت. ولنا أن نرى هذه الأمثلة في رواية  "ألماس ونساء":
"ألماظ، تجاهلت أن جميل بك كان ينتظر جوابها بشأن الكونت. في كل الأحوال مهما كان جوابها للكونت، فإن جميل بك لم يكن ليوصله، لأن الباخرة دوقة دي أرانزا غرقت في عرض الأطلسي. وفي عمق المياه الزرقاء، استقر جسدا الزوجين المتحابين، والآنية الخزفية الصينية، التي تحتضن رماد رومية ويوسف زيلخا، في قعر المحيط إلى الأبد" .
وفي موضع آخر: "تركيا، كانت في ذلك الوقت، مأخوذة بأتاتورك، وهو يشرب الأنخاب مع لطيفة خانم على ظهر سفينة حربية، الطراد حميدية في البحر الأسود، فيما القائد المنتصر يسمح لها أن تشبع فضولها بتفحص المدافع والطوربيدات، تحت أنظار صحفيين من كل أنحاء العالم. وهو المعتز بزوجة تركية مسلمة مودرن، تجيد الإنكليزية والفرنسية.."
والأمر يتكرر بمعدل مرة في الصفحة في كل رواياتها، منها: "بنات نعش"، و"سلطانات الرمل".
فماذا نقول عن لغة مشوشة بهذا الشكل؟ هل نشفع للكاتبة أنها تميل للحكواتية الشفاهية وكأنها تكلم مستمعين أمامها وتنسى أنها تكتب؟ أم نشفع لها بنهمها وراء كثرة الأحداث وتفاصيلها التاريخية الدقيقة حيث تنسى أنها تكتب لغة يقرأها متلق لا يعرف هذه الأحداث ولا يشفع لها بهذا التشويش.
تحضرني في هذا المقام الجملة التي يستأنف بها الحكواتي السرد في ألف ليلة وليلة: "أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح"، لو فكرنا أنها نقلت كما هي من الشفاهية إلى المكتوبة، فإنها محافظة على أصولها السردية ولم تلجأ مثلا لصياغة تشبه صياغة الكاتبة لينا هويان الحسن كأن يقول الحكواتي مثلا: "شهرزاد، أدركها الصباح فسكتت عن الكلام المباح"، أو "عندما أدرك شهرزاد الصباح سكتت عن الكلام المباح"، وبالتالي فهل ستشفع تخريجة الطريقة الحكواتية الشفاهية للكاتبة في رواياتها؟
الإجابة ستكون بنسبة كبيرة (لا) وأن الخلل يجب معالجته في سبيل تمكين شكل اللغة السردية للكاتبة، خاصة وأنها تتوفر على قدرة كبيرة تتمثل في الاطلاع التاريخي وفي شغف الكتابة.
بالعودة إلى روايتها الأخيرة "بنت الباشا" فإنّنا نلحظ تطورا على المستوين من حيث الموضوع ومن حيث اللغة السردية.
خطاب الأنوثة في مواجهة الذكر الغالب
فنجد أن لينا هذه المرة عرفت كيف توظف التاريخي من أجل الراهن وعرفت كيف تبرز بذكاء دور المرأة في التاريخ المشرقي في مواجهة سلطوية الرجل. فالمرأة في هذه الرواية التي تدور أحداثها في نهاية حكم الأتراك كانت المحرك الفعلي للسلطة وللأهواء ولكل شيء ولو في الخفاء، بل هي نقد للمجتمعات الشرقية التي تهوى دور الذكورة في الظاهر وتمارس كل لعانتها متخفية، وإلا كيف لباشا عقيم في السبعين أن ينجب بنتا بعد توالي النساء والجواري عليه إلى أن تأتيه هذه الجارية الجميلة من بلاد الهند؟ المهم أن يقال أن الباشا قد أنجب ولا يهم إن كانت زوجته قد خانته مع آخر ، فكان على الجارية أم نسليهان أن تنجب للباشا بأية طريقة لكي تحافظ على تواجدها.
خطاب الأنوثة واضح في هذه الرواية أيضا من خلال نسليهان بنت الباشا الوحيدة من جاريته الهندية، حيث توفي وتركها في كنف عمها لتبدأ إشكالية مصير ميراث الباشا وتزويجها من ابن عمها، لكن نسلي لم تكن طيعة بل كانت متمردة على عصرها، أين أحبت يوسف اليهودي وعاشرته خفية لتنتهي القصة في الأخير باختفائها الذي تختار فيه حريتها على البقاء تحت عبودية الميراث الذي يجب أن يبقى للعائلة وأن تحمل ذنب كونها أنثى وربما في النهاية هي لا تنتسب لهذا الميراث في الأساس لأن أمها حبلت من غير الباشا.


لقد اختارت نسليهان في نهاية الرواية  الحرية والحب على الحياة الأرستقراطية: "أرادت أن تسلك دربها السري المفضي إلى مكان لا يهدد سجنها أو يجبرها على ارتشاف قهوة صباحها من وراء نافذة مغلقة" .
كما تعالج الرواية موضوع المفضوح والمخفي بين الإشاعة والحقيقة في المجتمعات الشرقية، فلطالما تنتشر الأمور المفضوحة ويتطرق لها مهما انطلقت من أمور بسيطة، أما الحقيقة التي لا تعجبنا فنمارس عليها فعل الإخفاء، والكل يلعب هذا الدور من أجل إظهار سلطة وقوة الرجل، فعندما تعدى ابن عم ناسليهان عليها وقام بتمزيق ثيابها انتشر الأمر كالصاعقة وصارت المرأة حاملة للعار من ابن عمها الذي يجب أن يتزوجها، أما عندما حبلت أمها بها من رجل آخر غير الباشا فإن الأمر تُستر عليه طالما يخدم ذكورة الباشا وينفي كونه رجلا عقيما لا ينجب أولادا.
ومن هذا المنطلق كانت ناسليهان واعية للأمر وأعادت إنتاج ما فعلته أمها بصيغة أخرى لتقلب سلطة الأنوثة في الخفاء أين تمارس حقيقتها التي لا يعرفها أحد حيث تحكيها مرة لابنة عمها ثم تنفيها مرة أخرى، وهنا تجد ملاذها في برمجة العالم المنافق بحسب هواها. وتترك سطوة الخطاب للذكورة.
في رواية "بنت الباشا" الأخيرة نلحظ تراجعا للخلخلة المذكورة سابقا في تركيب الجمل والفقرات، وبدأت ملامح تحسن في الأمر إذ صارت اللغة سلسة في سبيل رسم المعنى، ومع ذلك مازالت تحتاج اللغة السردية والخطاب السردي للرواية ككل عند الكاتبة إلى مزيد من الاهتمام بالموازاة مع اهتمامها بالمواضيع التي تشتغل عليها.
قد لا يكون الموضع هنا موضع نقد لخطاب النسوي وتحديد الموقف من الكتابة النسوية في الوطن العربي التي لا تزال تعانق ثيمات الدفاع عن المرأة وفضح سلطة الذكورة، لكنه موضع لوضع بعض الخطوط النقدية للكتابة الروائية لدى الكاتبة لينا هويان الحسن التي عنت بمواضيع المرأة في دمشق وفي بادية الشام، تاريخيا ، أين صوّبت قلمها خاصة على مواضع قوة المرأة في المخفي من التاريخ، لأن التاريخ صناعة ذكورية أيضا، حيث يخفى دور المرأة ويظهر دور الرجل، لكن دور المرأة الشامية لم يكن بسيطا، حيث التي استوعبت الإنسانية أكثر من الرجل، وخاضت بذكائها في تغيير محطات هامة من التاريخ.
وسيلــــــة سنانـــــــــي
____________________________________________
1 -ألماس ونساء، لينا هويان الحسن، دار الآداب، ط1، 2014، ص: 97.
2 - المرجع نفسه، ص: 105
3 - بنت الباشا، لينا هويان الحسن، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، الجزائر، بيروت، ط1، 2017، ص: 94.

 

الرجوع إلى الأعلى