ما الذي كان يرغب بتقديمه المخرج أحمد خودي عندما قدم عرضه الجديد «الإشاعة» عن المسرح الجهوي لأم البواقي؟ هذا السؤال «العسير» على عكس ما يبدو من بساطته يمكنه أن يضع العمل بأكمله في موضع الإحراج النقدي الحقيقي. ابتداء من فلسفة الاختيار ذاتها التي جعلته يعود إلى الريبرتوار العالمي وينتقي نص «المفتش العام» لغوغول . وخوضه لتجربة كوميدية لأول مرة رغم محاذيرها القاسية ثانيا وثالثا وهو ما لا يمكن التغافل عنه تماما أن هذا النص ذاته يعرف المخرج جيدا أنه تم تقديمه من طرف مخرج كبير بقيمة «لطفي بن سبع» المدير الأسبق لمسرح أم البواقي ذاته في ولاية جارة هي «باتنة» بعنوان «الطيحة» نال نجاحا يكاد يكون غير مسبوق في الكوميديا في الجزائر. لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلاّ من قبل خودي نفسه الذي خاطر بتقديم عمل يعرف مسبقا أن عوامل «فشله» أكثر من نجاحه.
ياسين سليماني
    تم اختيار عنوان الإشاعة للعمل. في الحقيقة لا يفرق المؤلف ولا المخرج بين الإشاعة كلفظة وبين ما يقدمه العرض. ينتشر في المدينة خبر وصول مفتش من الادارة المركزية للاطلاع على سير المؤسسات في المدينة. و لأنّ الفساد مستشرٍ فيها يحاول رئيس البلدية أن يمارس قدرته الكبيرة في شراء الذمم ليجعل المفتش في صالحه. المفارقة أنّ رئيس البلدية ومعاونيه يسمعون عن شاب من العاصمة أتى إلى المدينة منذ أيام وهو يقيم فيها في أحد الفنادق المتواضعة فيظن الجميع أنه المفتش الذي ذكرته الأخبار. ما سيقع من أحداث سيكون محاولة رئيس البلدية لرشوة الشاب واستغلال الشاب للوضع عندما يجد نفسه يخرج من حالة إفلاس تام وجوع شديد إلى مكانة لم يتصورها: مال من كل الجهات، مبيت في بيت رئيس البلدية ولقاءات مع زوجته وابنته كادت تصل إلى علاقات جسدية، ثم خطبة البنت. يسافر الشاب هاربا بعدما أخذ ذلك المال بينما يظن رئيس البلدية والجميع معه أنه سيأتي بأبيه ليكمل إجراءات الاقتران بهذه البنت. تنكشف الخدعة عندما يقرأون الرسالة التي أرسلها الشاب إلى صديقه رئيس تحرير جريدة يحكي فيها مغامراته في المدينة. ثم ينتهي العرض عندما يعلن أحد الخدم بأنّ المفتش العام «الحقيقي» قد وصل المدينة ويطلب من الجميع الحضور.   
     فريق العمل كان من ثلاثة عشر ممثلا..الأدوار الباهتة والثانوية جدا والسياقات الدرامية التي لا تبدو أنها جاءت للإقناع كان يمكن الاستغناء عنها و الاقتصار على عدد أقل. وإمكانية أن يقوم بعض الممثلين بأكثر من دور أيضا متوفرة..
هناك ممثلون كانوا عامل «مفاجأة» للمتلقي تماما. بعض الممثلين خابت فيهم الظنون بعدما قدموا أعمالا سابقة يُشهد لهم فيها بالجهد الراقي..وبعضهم أو واحد فقط منهم أثار الإعجاب حقا واعتُبر اكتشافا حقيقيا. أما البقية فقد كانوا طوال الوقت خيالات على الخشبة. لم يقدموا أعمالا تستحق الإشادة من قبل ولم يقدموا ما يمكن الوقوف عنده نقديا في هذا العرض أيضا.
    الشاب الذي قام بدور المفتش المزعوم (يونس جواني) على الرغم من محورية دوره إلا أنه لم يستجب للمقدرات الهائلة التي كان يمكن أن يلعب عليها. يونس في هذا الدور كان عاديا أو لنقل: أكثر من عادي. صحيح أن مشكلات دوره توقع باللائمة على النص الذي تم إعداده بسطحية غير مسبوقة (لا تشبه هذه السطحية في اعداد النصوص في مسرح أم البواقي إلا سطحية نصوص رشيد شبلي للأطفال الذي أنتج له هذا المسرح أكثر من عمل بإخراجات فاشلة) ورئيس البلدية (لوصيف مرزوق) وهما أساسا هذا العمل. كان هذا الممثل ينافس بقوة ليكون دوره جيدا. خفة حركته على الخشبة ذكاؤه في استغلال مساحات دوره ضِمْن فريق العمل ضَمَن للأداء أن يكون في غاية المرونة وجماليات هذا الأداء لو تم استثمارها من قبل مخرج يمتلك أدوات إدارة الممثل بكفاءة «حقيقية» كان يمكن أن يكون الدور بارعا.
هناك ممثلان استرعيا الانتباه حقيقة..ياسمينة فرياك التي قدمت من قبل مع المسرح ذاته والمخرج نفسه عرض إلكترا ونالت عنه جائزة أحسن ممثلة في مهرجان المسرح المحترف بالجزائر العاصمة (راجع مقالي: إلكترا التي ابتلعت مخرجها وكنت قد أشدت في ذلك المقال بالقوة التمثيلية الهائلة لهذه الممثلة قبل أيام من إعلان فوزها بالجائزة المذكورة) قدمت ياسمينة دور زوجة رئيس البلدية وهو دور حاول المخرج تقديمه في شكل كوميدي ولأن ياسمينة لم يسبق لها العمل في هذا النوع من العروض وجد المخرج حلا سحريا وهو تفخيم الصوت وتغيير طبقته التي تعودنا عليها من الممثلة فوجدنا شخصية ريفية تتكلم بصوت عال بفم مفتوح طوال الوقت ولكنة أهل القرى غير المتمدنين. كل هذا قد يكون سليما وقد يخدم العمل في صورته الكوميدية لكن بين «قد» وما شاهدنا على الخشبة بون شاسع. مشاهد ياسمينة في هذا العرض تؤكد أن الشخصية مأخوذة من أعمال سابقة. لم يملك المخرج طريقة أخرى ل»كَوْمَدَة» الشخصية إلا بحلول ساذجة لتمرير الحوارات.
     ياسمينة ممثلة جيّدة تمتلك حضورا طاغيا على الخشبة. يمكنها أن تحمل على كتفيها عرضا كاملا وتنجح بجدارة إذا ما توفر لها نص وإخراج جيد. هذا ما يتفق فيه معي العديد من فناني المسرح ممن شاهدوها. غير أنها ظُلمت في هذا العرض أو هي ظلمت نفسها بالمشاركة فيه. أراد المخرج أن يرغم الممثلة أن تكون كوميدية فنجح في الشكليات..في نبرة الصوت..في الحركة..لكنه فشل بامتياز في أن يقنع المتلقي أن يضحك. بل أن يبتسم. والنتيجة أن خرجنا متأسفين من دور لا يليق بها. فلكل ممثل ما يليق وما لا يليق. صحيح أن الممثل الجيد يؤدي كل الأدوار ببراعة غير أن النجاح عند الأغلب يكون في شكل تمثيلي ما ولا يكون في غيره.
    الممثل الآخر كان فاكهة العرض وأكثر الشخصيات إثارة للإعجاب بحيث أبان على قدرات تمثيلية راقية، هو «أنور السادات نوادري» شاهدت العرض العام ثم العرض الموالي بعده بيوم (أربعاء وخميس) واستمعت إلى العديد من المسرحيين الذي قالوا بأن «أنور فاجأنا». قام أنور بتجسيد دور شخصية مقربة من رئيس البلدية تسمح له علاقته به أن يرسله إلى البيت ويتحدث مع زوجته كما تسمح له الثقة التي تضعها فيه زوج الرئيس أن يعلمها بأخبار زوجها والمفتش الذي حل بالمدينة. أنور صنع لمحات كوميدية في غاية الجاذبية وحصد إعجابا كبيرا من الجمهور (لا نزال نؤكد على أننا نستخدم لفظة جمهور بتحفظ) حتى في ختام العرض وخروج الممثلين لتحية الحاضرين كان لأنور نصيب وافر من تصفيقهم. صحيح أن التصفيق عند (غاشي) قد لا يكون دوما بسبب عمل جيد أو دور هام كما حدث مع فارس بركاني الذي بدأ أولى مشاهده في العرض مستلقيا على السرير متغطيا بإزار وردي يمارس الجنس ليظهر بعدها أنه يمارسه مع وسادة. بركاني صفق له الكثيرون وصفروا فرحين بمشاركته لكن كل المصفقين كانوا من شلته في الجامعة جاؤوا لتشجيعه أيا كان الهراء الذي يقدمه.
تسوّل التصفيق والضّحك
   والحقيقة أن هنات العمل أكثر مما يمكن أن نجد فيها مما يسرّ المتلقي، فقد حاول مخرجه استدرار الضحك أو «تسوّل» التصفيق من خلال إقحام مجموعة من العبارات (التي يرى البعض أن فيها إسفاف) دون سبب وجيه. ما قيمة أن يعيد الممثل عبارة تحيل إلى معاني ايروتيكية. أو عبارة (يا دين الرب) التي تجعل من الواضح أن المخرج حاول اللعب بعيدا عن الفنية ومواجهة الجمهور في أم البواقي بمجموعة الاحالات التي يمكن أن تشكل عنده سببا للضحك....عبارة يا دين الرب مثلا قد لا يكون لها مفعول الضحك عند «جمهور» نوعي في العاصمة أو وهران لكنها وهذا ما لعب عليه خودي بشكل بائس قد تثير الضحك عند من لا تتحقق فيهم الكفاءات المشهدية التي يخبرنا بها علماء اجتماع الفن.
    يفترض أن العرض يجسد مجموعة من الأحداث تظهر في ثلاثة أماكن محددة: الفندق. بيت رئيس البلدية. والمستشفى. غير أنّ السينوغرافيا «الساذجة» التي أنجزها موسى نون (على الرغم من بعض أعماله المقبولة سابقا) لا تتواءم مع هذا تماما. جدار كبير من الألمنيوم المصبوغ بالأسود المثبت في أطر قد تكون حديدية، ينفتح على أبواب استخدمت مرة لدخول المفتش المزعوم ورئيس البلدية في زيارتهما للمستشفى ومرة لدخول وخروج المفتش من غرفة الضيوف التي خصصها له رئيس للبلدية الرعوب. مع حضور سرير عادي في المشاهد الخاصة بالفندق الرخيص وسرير /كنبة حمراء في المشاهد الخاصة ببيت رئيس البلدية وطاولة ومأكولات في المشهد الخاص بالمستشفى.
    هل كان المخرج واعيا أنه يقدم عملا كوميديا يقترب من الكاريكاتورية؟ تظهر هذه الكاريكاتورية في ملمح واحد قد يكون في مكانه المضبوط وهو الملابس..عندما ألبس الممثلين ألبسة أكبر منهم..دلالة على كبر المسؤولية وصغر المسؤولين قيمياً. بينما لم تظهر هذه الكاريكاتورية في الجدار الأسود الذي كاد رغم وزنه الثقيل أن يسقط لولا اندفاع أحد الممثلين (في حركة خارج سيرورة العرض) وفتح الباب للمفتش المزعوم للخروج وانقاذ الموقف رغم أن المفترض أن يتم فتح الباب من طرف المفتش من الداخل مادام الجميع خائفا منه ويسهر على راحته. الجدار الأسود الذي كاد ينهار كان يمكن أن يُحدث كارثة في المسرح و»يغتال» من على الخشبة.
    المرافقة الموسيقية في الإشاعة كانت لعبد الكريم خمري (عبد العظيم) وهو بلا شك واحد من أهم الموسيقيين الذين قدموا بصمات جيدة في مجموعة من العروض المسرحية. غير أنّ الأمر في الإشاعة يختلف تماما. ابتدأ العرض بموسيقى لطيفة ككل المقاطع التي توحي بالكوميديا..أما حضورها فيما تبقى من العرض كان باهتا لا يليق إلا بالهواة. عدا مشهد دخول المفتش مع رئيس البلدية إلى بيت الأخير واستقباله من قبل الزوجة والبنت. والموسيقى الشعبية (القصبة) التي تماهت معها الزوجة فرقصت بمستوى أدائي هام. وهو مقطع ليس للموسيقي فضل فيه عدا أنه عاد إلى الموسيقى المتوافرة شعبيا.
   ظني أن عبد العظيم في هذا العرض ضحى بسمعة فنية غالية كان قد وصل إليها بينما قدم مع خودي عملا قد يكون مقبولا عنده في بداياته الأولى لكن لا يمكن أن يقبل منه بعد كل هذا الوقت وجهد السنوات.

الرجوع إلى الأعلى