بقلم: محمّد خطّاب
موت الأدب ليس نهايته. قد يعني رمزيا نهاية شكل من أشكاله. النهاية نفسها سبب في ميلاد جديد وبداية منبثقة في إشراق بعد غروب. الموت هو باب آخر ينفتح على أفق جديد. موت الأدب يشكل عتبة لإعادة إنتاجه وفق قيم الاختلاف والتعدّد. لأنّ الموت في هذه الحالة لا يكون إلاّ نتيجة تراكم أمراض الكتابة وأعطابها، ما دام الأدب ينتمي إلى عالمها. الكتابة التي توقن في الاكتمال والسعادة وتلقى الاستقبال الجماهيري هي حتمًا تسير نحو نهايتها. أنا أدعو إلى قتل الأدب ونسيانه بالمطلق وعدم الإيمان به، لأنّه داخل النكران والموت والتلاشي تنبثق حالة متجدّدة في الكتابة واللّغة والأسلوب تدفع بالإنسان إلى كسر اليقينيات والذهاب إلى العزلة والتأمل داخل التجربة التي يجب أن تكبر وتتعاظم وتحضر وتغيب وتتكلم وتصمت إلى حين تشكلها داخل إرادة كاتبها.
عادة ما تترسخ في أذهان معظم الكُتاب والكاتبات قيم بورجوازية تتعلق بالكتابة: الطبع والنشر والبيع بالتوقيع ويُضاف إليها قيمة من أسوأ ما يمكن أن يكون وهو أخذ الصور أو السيلفي داخل مواقع التواصل الاجتماعي. هذه القيم البورجوازية ما هي إلاّ انعكاس لفقر حقيقي لما تمثله الكتابة كتجربة حية أوصلت معظم المبدعين الكبار إلى حافة الجنون والصمت. الغريب أنّ معظم كتابنا يعرفون قصصا كثيرة من هذا النوع، ولكنّها معرفة من دون إيمان، معرفة تسكن الجلد وتقع خارج الرّوح.
ما معنى أن تفكر داخل التجربة؟ ثم ما معنى أن تكون كاتبا؟ هذا معناه أن تذهب بعيدا في التطرف حيث الصمت والعزلة وكبرياء الكتابة. حيث الحس الّذي ينخرط في فهم العالم (عالم الأشياء) الّذي يبدو أنّنا لا نفهم عنه وعن تحولاته شيئا. أن تكتب معناه أن تتحوّل اللّغة إلى سجن جميل وأن تظل الكلمات في قفز مستمر. أن تكتب هو أن ترى العالم في صورة عدو: (ماذا أصنع والكون كلّه عدو لي) هذه صرخة صوفي عارف قد تعبر عن هواجس المطلق حينما يشترك مع جورج باتاي في كراهية الشِّعر. حينما يتحوّل العالم إلى عدو تصير الذات أكثر شاعرية وشفافية وتتحوّل اللّغة إلى جارية عمياء، جميلة لكنّها غير مؤدية. وتبدأ الكلمات في الظهور. هذا كلّه يحتاج إلى إيمان، إلى مجرّد الإيمان بأنّ الكتابة قيمة كونية استثنائية.
الكتابة والنسيان، الكتابة والعدم، الكتابة والفناء، الكتابة والموت، هذه كلّها ثنائيات تنقل الكتابة إلى موقع الإبداع حيث يستوطن الصمت الحقيقي، هو ليس صمتا بالمطلق، لأنّ ثمّة من ينطق داخل هذا الصمت وهو العالم الّذي منحه الكاتب لسانا وصوتا ليبقى هو في موقع المنصت، لأنّ الإنصات حالة شعرية بامتياز. هذه إحدى معاني الموت التي تؤسس لفعل الكتابة من موقع متفرد وأصيل.
الموت في الأدب ليس مضمونا أو دلالة مأخوذة مِمَا يقابلها في هذا العالم، الموت حالة رمزية تُعاش باستمرار. الموت هو ما ينتجه الأدب، أي هو روح كلّ كتابة تجد نفسها حيال المصير ذاته الّذي فاجأ الإنسان الأوّل. الكتابة هي هذه الاستعادة لروح الأشياء وتذكر الحس البريء الّذي نرى به العالم. الكتابة ليست زينة وملأ الفراغات والجلوس على الطاولة والكتابة على الشاشة. هذه إحدى تشوهات الكتابة. ثمّ ماذا يتبقى بعد ذلك؟ الكاتب يعرف أنّه حين ينصرف الناس إلى بيوتهم سيبقى وحيدا (هذه الوحدة التي لن يفهمها مادام سجين الحالة السطحية) وسينسى الناس كلّ شيء لأنّنا في عالم استعاد شفويته التي ضاعت وبطريقة أكثر بشاعة. الناس تعيش وراء الشاشات وتختبر في العالم بهذه الطريقة. حينما تتحرر الكتابة من سلطة ما هو سائد وحين تفكر لذاتها ما دام التفكير مُتاحا لكل أحد ستجد هذه الكتابة نفسها أمام ما ينتظرها وهو الموت والزوال. ولكن كل الجمال وكل القوة وكل المتعة في هذا الفناء وفي هذا التلاشي. يقودنا الإيمان بالعدم إلى إعادة تأسيس الجمال والفن وفق ثنائية الفناء والبقاء. من هنا يمكن الاستئناس بالنصوص المشعة التي فاضت على الهامش وشكلت بعض المتون المهمة وأسست لكتابة لا يمكن تصنيفها وهيأت مشروعية قراءتها وفق منظومة الاختلاف والتعدّد. إذا كان أبو حيان التوحيدي نفسه الّذي أحرق كتبه -ويجب معرفة أسباب ذلك وقراءة التاريخ جيدا، ليس تاريخ الحادثة، بل تاريخ الكتابة التي منحها كلّ القوة التي تستحق- هو الّذي قال بأنا قد بدنا بالأثر، فهو يمنحنا الإيمان بأنّ الكتابة لن تكون وسيلة للخلود، بل هي انعكاس للفناء، فناء الكاتب واضمحلال الكتابة. ومثلما جعل العارف الكون عدوا له، كان النفري يدعو إلى الإقامة في النفي: «إذا أردت أن لا يخطر بك الاسم والذكر فأقم في النفي» من المخاطبات. هذه الإقامة هي إقامة الكتابة: النفي المطلق والعيش في حالة من الحرية التي لا يعرف فيها الكاتب الجهات ويفقد فيها البوصلة، ويبدأ في الرؤية بعيدا عن قامته.

الرجوع إلى الأعلى