كيف كتب الجيل الجديد من المؤرخين الشباب تاريخ الجزائر بما فيه تاريخ الثورة؟ وهل حقا هذا الجيل من المؤرخين لم يستطع أن يخرج من عباءة التاريخ الرّسمي وعباءة المؤرخين الأوائل. وهل الاتهام الّذي ألصق بالمؤرخ الشاب المتمثل في «الكسل»، اتهام في محله؟ وأنّ هذا المؤرخ ظلّ عاجزا عن كتابة تاريخ الجزائر، وفقط بقيّ يجتر ما كتبه من سبقوه، كما ظلّ عاجزا عن استنطاق الوثائق التي كثيرا ما يقوم بقراءتها قراءة آلية دون تمحيص واستنطاق. أيضا هل أنّ التاريخ الرسمي غطى حتى على التاريخ الأكاديمي، وهذا ما ساهم في جعل الجيل الجديد من المؤرخين يتأخر في كتابة مغايرة للثورة وتاريخ الجزائر، وبالتالي صعّب من خروجه من عباءة التاريخ الرّسمي وعباءة المؤرخين التقليديين.
إستطلاع/ نــوّارة لــحــرش
حول هذا الموضوع «الجيل الجديد من المؤرخين الشباب وكتابة تاريخ الجزائر»، وعن كتابة التاريخ بنظرة مؤرخين وباحثين شباب؟، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الدكاترة المؤرخين والباحثين في التاريخ من مختلف الجامعات الجزائرية.
رابح لونيسي:  باحث أكاديمي ومؤرخ -جامعة وهران1
من أجل جيل مجدّد لعملية البحث التاريخي
يعد البحث التاريخي عملية هامة لكلّ الأمم التي أنتجت كلّها عبر العصور مؤرخين حسب حاجاتها الآنية وأهدافها، فهل تمكنت الجزائر بعد 1962 أن تقوم بذلك؟، فهل نمتلك اليوم مؤرخين من طراز كبير؟، هل تجاوز اليوم الباحثون الشباب في التاريخ الرواد الأوائل؟، هل أضافوا شيئا لأعمالهم؟ لا يمكن الإجابة على ذلك إلاّ من خلال معرفة الفرق حول وظيفة ومهمة البحث التاريخي بين الأمس واليوم.
كلّنا نعرف أنّ الرواد الأوائل في البحث التاريخي مثل مبارك الميلي وعبد الرحمن الجيلالي وتوفيق المدني وغيرهم كانوا يكتبون في إطار الصراع مع المؤرخ الاستعماري الّذي كان ينفي وجود الأمة والكيان الجزائري، مما يتطلب الرد عليه، وتواصل نفس الأمر في العقود الأولى لاسترجاع الاستقلال مع سعد الله وقداش وغيرهم، أي مواجهة المؤرخ الاستعماري، ولهذا ندخل هذا البحث في إطار تاريخ مؤدلج هدفه بناء الأمة وإثبات وجودها ومواجهة من ينكرها، ويشوه تاريخها، وبتعبير أدق كانوا يشتغلون ضمن مبدأ «التاريخ ذاكرة الأمة».
لكن اليوم، لا نعتقد أنّنا يجب أن نبقى في نفس المهمة والوظيفة، فإن استهدف الرواد الأوائل إعادة إحياء الأمة واسترجاع السيادة وتوطيدها فيما بعد، فإنّ اليوم يجب أن يستهدف باحثونا عملية بناء الدولة والمجتمع، ولهذا فالبحث التاريخي، يجب أن يعمل في إطار مبدأ آخر هو «التاريخ هو معرفة الماضي لفهم الحاضر من أجل بناء المستقبل»، وهو ما يتطلب ربط الدراسات والبحوث التاريخية بحاضرنا كي نفهمه جيدا، وندرسه بكلّ موضوعية كي نتمكن من بناء المستقبل على أسس سليمة وصحيحة، لكن هذا النوع من البحوث يحتاج إلى عدة علوم، وليس فقط المنهجية التاريخية وإعادة بناء الماضي، لكن للأسف نكاد نقول أنّ هذه العلوم منعدمة في أقسام التاريخ، مما أبقى باحثينا سجناء الماضي بمنهج تقليدي، يستهدفون إعادة بناء الماضي فقط دون أي ربط له بالحاضر والمستقبل، مما أفقد هذه الدراسات والبحوث أهميتها بالنسبة لصناع القرار الذين هم بحاجة إلى بحوث تُوظف في عملية رسم السياسات وبناء الجزائر. لا ننفي أنّ البحوث اليوم متعدّدة من ناحية الكم، لكنّها ضعيفة من ناحية الكيف بسبب ضعف التكوين الّذي هو عام، وينطبق على عدة مجالات، وليس خاص فقط بالبحث التاريخي، كما يعاني الكثير من باحثينا من العائق اللغوي، مما أفقد بحوثهم الكثير من الموضوعية، فكما يستحيل مثلا القيام ببحث حول التاريخ الإسلامي دون معرفة اللّغة العربية، فإنّه يستحيل أيضا القيام ببحث تاريخي حول الجزائر في العهد الاستعماري دون معرفة اللّغة الفرنسية مثلا، كما يستحيل القيام ببحث حول تاريخ أمريكا دون معرفة الإنجليزية، أي بتعبير آخر كلّ موضوع بحث يتطلب منا معرفة لغات معينة، وهذا العائق اللغوي موجود بقوة لدى البعض من باحثينا الشباب حول تاريخنا في العهد الاستعماري أو الثورة، حيث أغلب الوثائق والمصادر باللّغة الفرنسية.
أمّا بشأن الوثائق، فلنسجل أنّه يجب التعامل معها بحذر لخطورة التلاعب بها، خاصة من طرف العدو الاستعماري، كما بالإمكان من خلال وثيقة واحدة إستخراع عدة معلومات، بل القيام ببحث كامل، لكن شريطة امتلاك القدرة على توظيف الوثيقة ونقدها وتفكيكها واستخراج المسكوت عنه فيها، وهذا يتطلب اليوم شأنه في ذلك شأن كلّ الخطابات التاريخية معرفة قوية بالمناهج التفكيكية التي تطورت كثيرا في أوروبا، لكنّها لا تدرس أصلا عندنا في أقسام التاريخ للأسف الشديد، ولا يعود ذلك لصعوبتها فقط، بل بسبب محو العديد من العلوم المساعدة، كما سبق أن قلنا من قبل والتركيز على المواد التاريخية فقط.
نعتقد أنّه لا يمكن لنا تكوين باحث جيّد في التاريخ دون دراسته مختلف هذه المناهج، خاصة التفكيكية منها، إضافة إلى مادتين أساسيتين في نظري: أولها الفلسفة التي تعلم المتكون طريقة التفكير السليم وروح النقد وفهم مختلف هذه المناهج التي ذكرناها، ثانيها هي الرياضيات التي تعطيه روح المنطق، ففي بعض الأحيان المنطق العقلي وحده يكفي للتمييز بين الحقيقة والزيف، نعتقد أنّ البحث التاريخي اليوم، يحتاج إلى علم جديد هو علم نقد الخطابات التاريخية المتعدّدة، وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في كتابنا «تفكيك الخطاب التاريخي» أين حاولنا التأسيس لعِلمٍ جديد، يهتم بعملية نقدها وتفكيكها، مما يسمح لنا بالاقتراب تدريجيا من الحقيقة التاريخية.
أمّا بشأن العلاقة بالرواد الأوائل من المؤرخين، فلنضع في أذهاننا أنّ البحث العلمي عامة، وفي أي موضوع كان له هدفين وهما: البحث عن الحقيقة وإعادة النظر في ما يعتقد في الماضي أنّه حقيقة، أي أنّ البحث العلمي، ومنها البحث التاريخي هي عملية ديناميكية تعيد النظر في الكثير من البحوث السابقة، لأنّ بدون ذلك، لا يمكن أن نتقدم في بحوثنا، ولهذا لا يجب على جيل الشباب من الباحثين في التاريخ البقاء سجناء فيما توصل إليه الذين سبقوهم، بل محاولة إعادة البحث فيما قاموا به من قبل لتصحيح ما يمكن أن يكون قد وقعوا فيه من أخطاء، ولهذا أنا ضدّ الذين يمنعون القيام ببحث في موضوع قد بُحْثَ فيه من قبل، بل بالعكس يجب لكلّ موضوع عدة بحوث ودراسات من جوانب متعدّدة من طرف باحثين متنوعين جدا، ثمّ المقارنة وإجراء نقاش بينها للاقتراب من الحقيقة أكثر.
وفي الأخير نقول أنّ كلامنا ليس معناه حكم بالسلب على جيل الشباب من الباحثين، بل بالعكس، لكن فقط هناك مطبات، يجب تصحيحها في عملية التكوين في نظري، وهذا لا يمنعنا من القول بوجود باحثين شباب ممتازين سيثرون المدرسة التاريخية الوطنية، وسيكون لهم مستقبل زاهر في عملية البحث التاريخي شريطة المثابرة وعدم الغرور الّذي يعد أكبر عدو للباحث.

محمد بشير: بوجيرة ناقد ومؤرخ وباحث أكاديمي
الجيل الجديد من المؤرخين الشباب أمام إشكاليات معقدة
أرى بأنّ الجزائر البلد الوحيد في العالم المظلوم في تاريخه وذلك للأسباب التالية: تاريخ الجزائر ما قبل الإسلام كتبه الإغريق والرومان وفعلوا بالجزائر ما شاء لهم في تشويه الشخصية الجزائرية بداية من اسم «البربر»، وقد تبعهم بعد ذلك كلّ المؤرخين في الغرب، حتى أنّ فرنسا عندما احتلت الجزائر كانت تسعى إلى إحياء مجد وحضارة «روما».
تاريخ الجزائر في العهود الإسلامية كتبه مؤرخون عرب ومسلمون اجتهدوا في تاريخهم على إغراق الفضاء الجزائري ضمن الخريطة التاريخية العربية تارة والإسلامية أخرى، مما جعل الفضاء الجزائري وما أنتج من منظومة تاريخية مهمة وقوية جدا لا يستقيم أمر المغرب العربي ولا الأندلس حسب ما روته المصادر التاريخية دون تنويه ودون الرفع من قيمة هذه المنجزات التاريخية، بل بالعكس إنّ الكثير منهم اجتهد في تشريد عمالقة من الفكر والثقافة الجزائريين إلى مدن وفضاءات غير جزائرية مثل «ابن رشيق المسيلي» الّذي يصر كلّ المؤرخين على نسبته إلى القيروان.
أمّا تاريخ الجزائر أثناء ثورة التحرير المجيدة، فأجد بأنّ كتابة تاريخ هذه الفترة الزمنية، وبخاصة ثورة التحرير المجيدة غاية في التعقيد بداية من لغة الكتابة التاريخية، عربية فرنسية، التي أجدها ذات أهمية قصوى في صناعة خطاب تاريخي جاد ومتميز، لأنّ التاريخ في أساسه على الرغم من أنّه رواية لأحداث ولوقائع ضمن رؤية شمولية للشخوص فإنّه أيضا يمثل خطابا لغويا مهما جدا، لأنّ المؤرخ، حتى وإن حاول أن يتمظهر بالصدق وبالحياد فإنّه يجد نفسه متورطا في الارتماء ضمن أحضان أيديولوجية ما، وبخاصة أيديولوجية السوق والتجارة والشهرة.
إذا تقربنا من هذه الإشكاليات فإنّنا نجد المؤرخين الشباب من الجزائريين أمام وضع معقد يتداخل فيه الانتماء العرقي والأيديولوجي وتتصادم على ضفافه الأهواء النفسية وتتعاوره مآرب ومصالح شتى يصعب تحديدها أو البوح بها في الوقت الراهن. ولعلّ من أبرز ما أشرت إليه ما نقرأه الآن في مذكرات المجاهدين وقادة الثورة من أحداث ووقائع قلما يتفق عليها اثنان، حيث نلاحظ كثيرا، التقليل من البعض في صدق ما يرويه من وقائع الثورة تارة، بل يذهب حتى إلى تكذيب مشاركته في الثورة.
وحين أقول ذلك، لا أحسب أنّ كلّ هذا يحدث من تلقاء نفسه، بل يحدث تحت مظلات مختلفة الألوان والزوايا، ولعلّ مشكلة أرشيف ثورة التحرير المحجوز من طرف عدو الأمس يبرز رأس هذه المخبآت والمقاصد.
وفي هذه الحال أرى، حسب رأيي المتواضع أنّ كُتاب تاريخ الجزائر والثورة من الشباب يمكن أن ينظر إليه من زاويتين اثنتين هما: أولا أنّ هؤلاء الشباب تتملكهم، بدون شك روح صادقة في كتابة تاريخ صادق ومعبر فعلا عن الحقيقة التاريخية لمكانة الجزائر ضمن المنظومة الحضارية العالمية ومرجعية البحر المتوسط، لكن الأماني كبيرة والأيادي قصيرة، حين نجدهم يفتقدون إلى المصدر الحقيقي الصادق، وثيقة أو أقوالا وتدعيما ماديا ومعنويا.
ثانيا: أنّ هؤلاء الشباب أحسوا بعدم أهمية الكتابة عن تاريخ الجزائر والثورة من جميع الأطراف، حكومة ومؤسسات ومثقفين، حيث أعرف كثيرا من هذه الفئة كتبوا أشياء مهمة جدا عن تاريخنا الثقافي، لكن كتاباتهم لم تُثمن من طرف مؤسسات الدولة، حتى أنّهم وجدوا لاعب كرة القدم الشاب يتقاضى مرتبات بالملايير ويتحدث عنه في اليوم عشرات المرات من طرف وسائل الإعلام الثقيلة، بينما هو يستجدي ليكسب قوت يومه.
أمّا في ما يخص التاريخ الرسمي، فأعتقد أنّه لم يكن للجزائر أبدا كُتابا للتاريخ الرسمي، لأنّه لو كان لنا كُتاب وكتابة رسمية للتاريخ لما قحطت الساحة التاريخية الآن من المصادر ومن المراجع، ومن هنا لا أحسب أنّ الجزائر تكتب تاريخا رسميا الآن، بل سنعيش فراغا مرعبا، لا قدر الله، في مخزوننا التاريخي للجزائر ولثورتنا المجيدة.

محمد بن ساعو: باحث في التاريخ -جامعة سطيف2
الشباب أمام تحدي تنقية التاريخ من الايديولوجيا والرسمية والمناسباتية
خضعت الكتابات التاريخية بعد الاستقلال على قلتها لتوجيهات إيديولوجية وميولات سياسية، فتحوّل التاريخ إلى وسيلة إقناع سياسي ونضال إيديولوجي وتوجيه ثقافي، ورغم ظهور كتابات نضالية نقدية إلاّ أنّها لم تنسلخ من العباءة الإيديولوجية. ليبدأ الانفراج قليلا مع الانخراط في ما يُسمى بالتعددية، فأصبح الإنتاج التاريخي في الجزائر يتناول قضايا التاريخ الوطني بنظرة أكثر موضوعية -إلى حد ما-، ومع ذلك فإنّ الكتابات الأكاديمية الجادة بقيت إلى وقت غير بعيد مُحاصرة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
أراد المؤرخ الجزائري تنقية التاريخ الوطني من القراءة الكولونيالية، لكنّه وجد نفسه مُكبلا بشباك التاريخ الرسمي. وفي ظل هذا الوضع يجد الجيل الجديد من المؤرخين الشباب أنفسهم أمام مهمة في غاية الصعوبة: كيف لهم أن يتجاوزوا التقاليد المكرّسة في كتابة وتناول التاريخ الوطني؟
الناظر في الإنتاج التاريخي للمؤرخين الشباب خاصة ما تعلّق بالثورة التحريرية (1954-1962)، يبدو له بأنّهم لم يقدموا الجهد الكافي بمقارنتهم مع الطرف الفرنسي، غير أنّ هذا الحكم لا ينفي وجود أقلام شابة تحاول التأسيس لكتابة تاريخية برؤى جديدة، من خلال امتلاك الأدوات والآليات الكفيلة بذلك.
لا يَخفى أنّ عديد الأعمال التاريخية حول الثورة تندرج ضمن متطلبات نيل درجات علمية، وهو ما يؤدي بالباحث إلى تطويق نفسه بجملة من المحاذير حتى ينأى بنفسه عن الدخول في سجالات قد تؤثر على مسيرته العلمية، وهذا الاعتبار واحد من التفسيرات التي تُقدّم حول طبيعة الكتابات التاريخية للباحثين الشباب. لكن، وقبل إصدار أي حكم بعجز المؤرخين الشباب أو تهاونهم في التأسيس لكتابة تاريخية تـنتقل من النصّ الكلاسيكي والتاريخ الرسمي نحو التجديد المنهجي والموضوعي، يجب أن نكون على وعي بالعراقيل التي تواجههم وتعقّد من مهمتهم، وفي مقدمتها صعوبة الحصول على الوثيقة، فبعض الأرشيف غير مُتاح للاستغلال والبعض الآخر يُسيّر بطريقة بدائية. إلى جانب قلة المذكرات والشهادات الشفوية وصعوبة التعامل معها، لأنّ عددا منها تحوّل إلى بيوغرافيات ميثولوجية تستبيح الحقيقة التاريخية لبناء مجد ذاتي وهمي، وبعضها موجه لتصفية حسابات وتخوين أطراف معينة.
كما أنّ نصيب الشباب المؤرخ من محاولة مأسسة البحث التاريخي في الجزائر يبقى ضئيلا، فالمراكز والمخابر البحثية تبقى أبوابها مُوصدة أمام الشباب الباحث، إذ يستحوذ عليها الجيل القديم ممن لا يعوّل عليهم كثيرا في تفعيلها بسبب ضبابية تسييرها، فأصبحت لا تقوم بدورها رغم توّفر الأطر والهياكل والدعم المادي السخي. لكن السؤال المطروح هنا ونحن نتحدث عن مؤسسات حكومية للبحث التاريخي: هل يمكن التعويل على السلطة في كتابة التاريخ؟، وهل الحقيقة التاريخية فعلا من اهتمامات السلطة؟ الأكيد أنّ رغبة السلطة في كتابة تاريخ وطني وليس تاريخ رسمي تبقى مؤجلة إلى حين، لكن من الضروري أن تعمل على توفير المناخ الملائم للمؤرخين خاصة الشباب منهم.
من جهة أخرى، تأثر المؤرخون الشباب –بما أنّهم منتوج الجامعة الجزائرية- بمستوى التأطير الّذي يشهد تراجعا رهيبا في مستوى التكوين، دون أن ننسى أنّهم كانوا قبل ذلك ضحية التعريب الفوضوي والسياسة العرجاء في تعليم اللغات الأجنبية التي يتطلب البحث التاريخي إتقانها. وبما أنّ هؤلاء الباحثين يمارسون وظائف حكومية تطرح إشكالية «المثقف الموظف»، حيث يجد هذا المؤرخ نفسه في كثير من الأحيان أمام ضرورة الانخراط في الخطاب التاريخي الرسمي، وحينها يصبح التاريخ ترجمان السياسة. هذا الأمر يهدّد بأن نصبح كائنات لا تفرق بين التاريخ والماضي، وشتان بينهما.
تأسيسا على ما سبق، يتّضح أنّ المؤرخ الشاب تواجهه عراقيل كثيرة مرتبطة بأدوات وآليات التأريخ وعراقيل أخرى متعلقة بالمحيط السياسي والثقافي، لذلك وفي ظل استمرار هذه الظروف يكون من العسير عليه تحقيق النقلة المرجوة، وإن سلّمنا بأنّ الإنتاج التاريخي في الجزائر يتطوّر، لكن هذا التطور في عمومه ليس سوى كمّيًا، ومع ذلك يبقى التراكم ضروريا في التأسيس لأي مشروع، مع وجوب تبني الباحثين الشباب لمعايير علمية في الكتابة التاريخية لتنزع نحو الأبعاد الفلسفية التي تغيب في الكثير من الدراسات التاريخية، وكأنّ عملية التدوين التاريخي مجرّد حشد وتجميع للمصادر والمراجع ثمّ وصل وتركيب. وفي نهاية المطاف نجد أنفسنا أمام كتابات ملحمية رسمية، هي أقرب إلى التاريخ العبء منها إلى التاريخ الحافز وفق منظور «قسطنطين زريق».
انطلاقا من هذه المسؤولية، يتضح أنّ المؤرخ الشاب بحاجة إلى تجديد كتابته منهجا ومضمونا، فإذا كان التاريخ في فترة سابقة بحاجة إلى تصفيته من الاستعمار، فإنّه اليوم بحاجة لتنقيته من الإيديولوجية والرسمية والخطاب الملحمي المناسباتي الّذي يملأ الأرجاء.

هشام ذياب: أكاديمي وباحث في التاريخ المعاصر - جامعة محمد خيضر- بسكرة
عقبات كثيرة لكتابة تاريخ الجزائر وثورتها التحريرية
تطرح مسألة الجيل الجديد من المؤرخين وحقيقة كتابتهم للتّاريخ في الجزائر وتحديدا تاريخ الثورة العديد من التساؤلات، وهل لهذا الجيل مقدرة على استنطاق الوثائق التي كثيرا ما يقوم بقراءتها قراءة آلية دون تمحيص واستنطاق، وهل حقا أنّه لم يستطع الخروج من عباءة التاريخ الرسمي ومن عباءة المؤرخين الأوائل؟
وللإجابة على هذه التساؤلات وأخرى، علينا أولا أن نعرف الشروط والمؤهلات التي يجب أن تتوّفر في المؤرخ، والتي تتمثل أساسا في شخصيته، قيمته الروحية، تكوينه التقني، مهاراته، وثقافته الواسعة، فالمؤرخ الكبير ليس فقط ذاك الّذي يحسن طرح الإشكاليات، وإنّما الّذي يُضيف إلى ذلك مخططا علميا للبحث يسمح له بانتقاء المصادر الأكثر وثوقا بها، كما وجب عليه أيضا أن يكون مُلمًا بالعلوم المساعدة كعِلم الاقتصاد، بما في ذلك عِلم الاقتصاد السياسي، الّذي يتناول الحقائق الاقتصادية من توزيع الثروات ومستوى المعيشة، ونوعية وسائل الإنتاج وأسلوب العمل وكيفية الاستهلاك وغيرها، والعلوم السياسية التي تهتمّ بمعالجة العوامل المختلفة التي تشكل الظاهرة السياسية مثل طبقات وطواف السكان، والمعتقدات الدينية والمذاهب الفكرية التي تتحكم في المجتمع، والفلسفة التي تُمكن المؤرخ من فهم سير الأحداث من خلال التصوّر الفلسفي أو التطوّر الفكري والحضاري، وعِلم النفس الّذي يعرفنا على جوانب وقضايا النفس البشرية من خلال العوامل النفسية والدوافع الذاتية التي تتحكم وتوجه سلوك الأفراد والجماعات، وعِلم الاجتماع الّذي يدرس الإنسان من خلال التعرف على القوانين التي تتناول أفعال الناس وعلاقاتهم مع بعضهم، وما يتصل بذلك من مظاهر التغيير الاجتماعي.
هذا وعلى المؤرخ أيضا أن لا ينتظر ويبقى مُترقبا حتى تجتمع لديه كلّ الشروط في الكتابة، مع أنّ الحادثة اليومية تصبح من الماضي في اللحظة التي يكتمل فيها المشهد، بل عليه أن يستعين ويوظف نتائج الأبحاث الفلسفية والسياسية عن الجزائر في إعادة ما أصبح يتداول اليوم باسم «تدوير التاريخ». وعليه يتعيّن على المؤرخ السعي في هذا الاتجاه وإبداء الرأي فيه، لإثبات جدارته وأحقيته في اقتحام هذا المجال الخصب، الّذي لا يمكنه أن ينضب، في سبيل تراكم معرفي سيكون سندا للأجيال القادمة. وبالنظر إلى هذا كلّه، لا يمكننا اتهام الجيل الجديد من المؤرخين في الجزائر بالتقصير في كتابة التاريخ، ذلك أنّ مشكلة كتابة التاريخ تكمن في وجود بعض الفاعلين الذين دخلوا في صراع مع الذاكرة، كما يجب أن نقر بالضغط المُمارس من طرف السلطات التي ربّما تريد أن تستحوذ على كتابة التاريخ بالكيفية التي تناسبها، إلى جانب محاولة هذه الجهات طمس بعض الحقائق وحجبها عن المهتمين بمعرفة ذاكرتهم. ولعلّ المقصود هنا وجود عقبات أمام هذا الجيل من الشباب لكتابة تاريخهم وبالتحديد تاريخ الثورة التحريرية، وهو عدم إتاحة الفرصة لهم للاطلاع على الأرشيف الوطني – المادة الأولية للمؤرخ- لأنّه حسب التشريع الجزائري وفي ما يخص الأرشيف العام: فقد حدّدت آجال بعض أنواع الوثائق التي تمس بالسيادة الوطنية والنظام العام وشرف العائلات، أمّا الأرشيف الخاص: فلا يُسمح بالاطلاع عليه إلاّ بترخيص من المالك، وكما هو معروف كذلك عند العام والخاص أنّ معظم هذا الأرشيف ليس في الجزائر وإنّما هو في فرنسا أو ما وراء البحار كما يُقال.
ومن جانب آخر فالجيل الجديد من المؤرخين مُطالب بتقديم تاريخ سليم خالي من التكهنات التي باتت تطبع الكتابات التاريخية المبنية على كلّ شيء ما عدا الحقائق والموضوعية، وبذلك وجب عليه فتح باب التشاور والتواصل مع الفرنسيين خاصة من أجل تقديم تاريخ مبني على التشاور والنقد المتبادل وأن ترد الكلمة لأصحاب التخصص الذين باستطاعتهم تقديم أبحاث موضوعية إلى أقصى حد ممكن بعيدا عن لوبيات الذاكرة المختلفة.
وبالنظر إلى ما كتبه الباحثون من أساتذة وصحافيين ومجاهدين وهُواة بعد الاستقلال حول إعادة كتابة تاريخهم الوطني قديما وحديثا بناءً على ما تحصلوا عليه من وثائق وأرشيف وشهادات، فالملاحظ أنّ بعضها غلبت عليه الذاتية وأنّ معظم هذه الكتابات تناولت بالدراسة منطقتي القبائل والأوراس، ولا نقصد الجهوية هنا بل وبكلّ بساطة قد يعود ذلك إلى اهتمام بعض الأقطاب بهذه المناطق لا غير، ويبقى السؤال المطروح: لماذا لم يكتب هؤلاء عن مختلف الولايات. كما يمكن تفسير ذلك بغلبة الذاتية بحكم أنّ معظمهم من المشاركين في الثورة، وقد أجاب عن ذلك المرحوم الدكتور أبو القاسم سعد الله في حوار له مع مجلة الجيش عندما قال: (إنّني أعرف بعض المؤرخين الجزائريين الذين كتبوا عن الحركة الوطنية، كتبوا عنها من وجهة نظر أحزابهم، أو الهيئات التي كانوا منتمين إليها قبل الثورة، وأعتقد أنّ مؤرخي الثورة سيتأثرون أيضا بدورهم فيها وحدود مشاركتهم ومسؤوليتهم). ومعناه أنّه كان يخشى أن يكون من ضمن هؤلاء المؤرخين، مما يمكن أن يفقده سلطته الأكاديمية فيما بعد.
والمسؤولية هنا كبيرة على عاتق الجيل الجديد من المؤرخين في كتابة تاريخهم بكلّ موضوعية وبعيدا عن الذاتية وكلّ أنواع التزييف والطمس للحقائق. فالتاريخ الحقيقي هو الّذي يكتبه أبناء البلد أنفسهم لأنّه جزء منهم ولهم.
وبالرغم من وجود العديد من الباحثين الجزائريين في مختلف الأطوار التعليمية (ليسانس/ماستر/دكتوراه) يقومون بعملية تكرار أو إن صح التعبير اجترار لما تمّ كتابته من قبل، ووجود عقبات أمام الجيل الجديد من المؤرخين في ظل غياب الأرشيف وضعف اللّغة إلاّ أنّنا نجد بعض الجامعات الجزائرية على غرار جامعة المسيلة وسيدي بلعباس وقسنطينة وبعض الجامعات الأخرى التي كرست لكتابات أكاديمية ارتقت للعالمية، ذلك أنّها بحق تميّزت بالجدية في الطرح وبعيدا عن كلّ ما هو ذاتي أو جهوي..، فضلا عن وجود اهتمامات متزايدة من طرف الباحثين بالمناطق الأخرى غير منطقتي الأوراس والقبائل.
ونحن من خلال هذا الملف، نهيب بالجيل الجديد من مؤرخينا للبحث وتقصي الحقائق بكلّ همّة وعزيمة من أجل كتابة تاريخ حقيقي سليم مُعافى من التكهنات بعيدا عن الضغوطات المختلفة وفق منهجية تاريخية واضحة.

 

الرجوع إلى الأعلى