المسرح التفاعلي كجنس جديد استفاد من الأدب
الأدب في عصر الرقمنة ينتقل إلى مرحلة جديدة ومختلفة مُحدثا تحوّلا جديدا
 في هذا الحوار، يتحدث الناقد والباحث الأكاديمي والكاتب المسرحي الدكتور حمزة قريرة، عن علاقة المسرح والمسرح التفاعلي بالأدب، كما يتطرق لبعض القضايا ذات الصلة بهذا الموضوع، وفي ذات الآن يحاول تسليط الضوء على جوانب محدّدة من المسرح التفاعلي الذي بدأت تتشكل بعض ملامحه في المشهد المسرحي العربي، معرجا على الأدب التفاعلي وأجناسه، وكذا مسألة هوية النصّ المسرحي، متناولا في ذات السياق بعض إشكالاته التي تظل محل نقاش. كما يتحدث عن مدى استفادة المسرح التفاعلي من الأدب ومن التقنيات الوسائطية، وكذا عن مفهوم الأدب التفاعلي والنصوص الرقمية. مؤكدا أنّ الأدب في عصر الرقمنة ينتقل إلى مرحلة جديدة ومختلفة ليُحدث تحوّلا جديدا نحو وسيط أكثـر تطوّرا وخلقا في العملية الإبداعية وهو الوسيط الإلكتروني.
حاورته/ نــوّارة لــحــرش
لك اهتمامات ودراسات كثيرة حول علاقة المسرح بالأدب وكذا حول المسرح التفاعلي الّذي بدأت تتشكل بعض ملامحه في خارطة المسرح العربي. ما الّذي يمكن أن تقوله في هذا السياق؟
حمزة قريرة: انطلاقا من الثورة الرقمية الهائلة التي شهدها العالم المعاصر بعد دخول الحاسب الآلي مسرح الحياة وظهور الشبكة العنكبوتية التي طوت المسافات وغلّفت العلاقات بأنساق خاصة، ليظهر تأثيرها على مختلف جوانب الحياة الإنسانية التي استفادت من هذه التقنيات المتجدّدة، فاختصرت الزمن وغيّرت مفهوم الكثير من الأشياء والمعاملات بين الناس، وعبر تغلغلها في الحياة على اختلاف جوانبها من الاجتماعية إلى السياسية والاقتصادية تأتي المجالات الثقافية بكلّ روافدها لتأخذ من منهل هذه التقنيات الرقمية المعاصرة التي دُعّمت بالشبكة العنكبوتية العالمية لتجعل التواصل أسهل وتمرّر الأفكار بطريقة أفضل، وعبر استقصاء الأشكال والأنساق الثقافية التي استفادت من هذه الموجة نجد الكثير منها، انطلاقا من الشّعر والرّواية والسينما والفنون التشكيلية وصولا إلى المسرح الّذي يعد نسقا متميّزا في حضوره قبل التقنيات الرقمية، فهو أكثر الفنون الأدائية تعقيدا من حيث تداخل الأنماط على سطحه، ففي كنهه حكاية تُعرض بسرد وحوار، وقد تأخذ لغته بعض الجوانب الشّعرية، وفي الوقت ذاته يتم تحويل نصه إلى فعل حركي على الخشبة مما يجعله فنا ناطقا ومتحركا: «إنّه فن حي».
وعبر دخول عصر الرقمنة استثمره المسرح وحاول أن يقدّم جديده عبره بما عُرف بالمسرح التفاعلي وهو اصطلاح قد يتداخل مع إحدى الأشكال المسرحية التفاعلية التي تشْرك الجمهور في العرض (المسرح التحفيزي)، لكن يختلف عنه في أنّه يستخدم الوسائل والتقنيات الرقمية خصوصا الشبكة العنكبوتية في نقل نصه وإثرائه، كما يطرح المسرح التفاعلي عدة قضايا واشكالات على مستوى بنائه وآليات قراءته، فهل يملك نصا مكتوبا أم هو مجرّد تجريب يقوم به مبدعون مختلفون، وكيف يمكن استثمار الوسائط المتعدّدة في إثراء نصه؟. ما هي البرامج الحاسوبية التي تمكّن كُتاب هذا النمط من الكتابة والتفاعل وأيّها أنجع في عملية التأليف المشترك؟ وهل يكفي الحاسوب وما يحمل من تقنيات لعرض شامل لكلّ هذا الإبداع، وكيف يمكن للجمهور تلقي هذا النص والتفاعل معه؟ هل الجمهور العربي مؤهل لتلقي مثل هذه النصوص؟
إلى أي حد استفاد المسرح التفاعلي من الأدب ومن التقنيات الوسائطية، وهل يمكن القول أنّ هذا المسرح ذاهب صوب الوسائطية واستثمارها أكثـر؟
حمزة قريرة: إنّ المسرح التفاعلي أو المسرحية التفاعلية كجنس جديد استفاد ويستفيد من الأدب ومن كلّ التقنيات الوسائطية والثورة المعلوماتية ليقّدم ذاته في تخلّق مختلف ووفق آليات أكثر تعقيدا من مختلف الأجناس الأخرى، فهي جميعا وسيطها التقليدي الورق لهذا لم تجد إشكالا كبيرا في تحوّلها إلى الرقمية، لكن المسرحية في وجودها تعد نصا وعرضا وتفاعلا مع الجمهور وهذه الخصائص صعّبت دخولها لعالم التفاعل الرقمي.
أيضا إنّ المسرحية التفاعلية تقدّم ذاتها كنص وعرض عبر الوسيط الإلكتروني مشركة كلّ المتلقين في بنائها وتوجيه شخوصها، وهو ما يطرح عدة إشكالات في ذلك، على رأسها طبيعة البناء وكيفياته، وحدود التجريب في ذلك، وكيف يتم تكييف التقنية والبرمجيات لاستيعاب هذا التعدّد، إضافة لطبيعة المتلقين ومستوياتهم المختلفة في حال إشراكهم في العمل، وغيرها من القضايا.
لكن هذا كلّه يصيبه التحوّل من جديد والتشظي الأكثر غرابة وتيها لما يدخل هذا العمل المضطرب في أساسه إلى العالم الرقمي وتكنولوجيا التواصل السريع، لتتحوّل المسرحية إلى التفاعل وتأخذ بعْدا ومفهوما مغايرا لما كانت عليه، وتجدر الإشارة في هذا الموضع إلى تداخل كبير في مفهوم المسرحية التفاعلية بين بعْدها الرقمي الّذي نقصده وبعدها التفاعلي الواقعي كما في المسرح التحفيزي حيث يشارك الجمهور في العرض بتفاعله المباشر والحي مع الممثلين وليس شرطا أن تكون هناك خشبة ومقاعد. ولو حاولنا المقارنة بين الشكلين فإنّنا قطعا سنقوم بالإشارة فقط للشكل التفاعلي التحفيزي الّذي يعد أحد مستويات التفاعل لكنّه غير المقصود، لهذا فتوجهنا أكثر للتفاعلي الرقمي.
هذا يعني وجود بعض الفوارق والاختلافات بينهما؟
حمزة قريرة: أجل. فإضافة لما تقدّم يمكن تتبع الكثير من الفوارق بين الشكلين المسرحيين لدرجة أنّنا نصل في بعض المستويات لاعتبار المسرح التفاعلي/الرقمي جنس آخر يختلف عن المسرح بشكل نهائي وذلك لافتقاده لآنية المشهد والتفاعل الحقيقي الواقعي بين الممثلين والجمهور، كما يناقض أهمّ مبادئ المسرح الكلاسيكي في وحداته الثلاث، لكنّنا لن نغالي في اعتباره خارجا عن المسرح بل هو شكل متطوّر له، وضرورة فرضتها التقنية المعاصرة والثقافة الرقمية التي تختصر الزمن والمسافة، فما كان للمسرح إلاّ الأخذ بها ليرتقي ويصل إلى كلّ الشرائح محققا أهمّ أهدافه في التوعية والتعليم والترفيه، كما يعد في شكله الجديد وسيلة استقصاء مهمة لتوجهات الجماهير من خلال تعليقاتهم ومشاركاتهم في العمل، كما يقرّب المسافة أكثر بين المبدع والمتلقي الّذي تحوّل بدوره إلى مبدع من درجة ما. بهذا فالتحديات كبيرة أمام المسرح التفاعلي ليؤسس جماليته الخاصة ويوجّه الذائقة إلى تتبّعه بالشكل المطلوب مرافقة هذا التحوّل الجديد، الّذي يبني نفسه بالتكنولوجيا والأدب معا، من أجل تطوير هذا الفن/المسرح.
وماذا عن مفهوم الأدب التفاعلي والنصوص الرقمية؟
حمزة قريرة: انطلاقا من المفهوم العام للأدب في اعتباره التعبير اللغوي الأرقى على كلّ ما يتعلّق بالإنسان من قضايا سواء على مستوى ذاته أو علاقاته بمحيطه، فهو جدّ مهم في ترجمة حياة الإنسان وحفظها في نصوص لغوية، وقد طوّر الإنسان أساليبه في التعبير الأدبي عبر مسيرته الطويلة فانتقل من الشفاهية إلى الورقية/الكتابة، وهو الآن في عصر الرقمنة ينتقل إلى مرحلة جديدة ومختلفة، ليُحدث تحوّلا جديدا نحو وسيط أكثر تطوّرا وخلقا في العملية الإبداعية، إنّه الوسيط الإلكتروني ممثلا في جهاز الحاسوب ومتعلقاته من برمجيات، وما توفّره الشبكة العنكبوتية لهذا الجهاز بوصله بالعالم وتزويده بقنوات يقدّم من خلالها منتوجه، فقد تحوّل لأهم أداة عالمية لتسريع الزمن وقطع المسافات المكانية بلمح البصر مما جعل التواصل أبسط وأيسر ولم تعد المعلومة حكرا على أحد، ونظرا لهذه الميزات الإيجابية لم يبق أي تخصص أو علم أو مجال إلاّ ودخل عالم الرقمنة لما تضمنه من انتشار وتعدّد، والأدب كغيره من التخصصات حاول استثمار هذه التقنيات لصالح انتشار وتلق أوسع، فجاء ما عُرف بالأدب التفاعلي، مستفيدا من مختلف الصياغات التي ظهرت في النص الشبكي.
وعبر هذه النصوص الرقمية ذات الوجود الافتراضي برز أدب من نوع خاص سواء في بنائه أو جماليته أو تلقيه، إنّه أدب فريد، حيث ينتج عند أديب متميّز عما عهدناه في الإبداع الورقي إنّه تكنولوجي بامتياز يزاوج بين التقنية والأدب، فيؤسس نصه بكيفيات متعدّدة مستفيدا من الروابط التشعّبيّة والمتفرّعة التي تنفتح بها التعدّدية النصيّة، كما تتيح للمتلقي خيارات كثيرة لاستعراض النص وقراءته. كما قال الناقد العراقي رحمن غركان.
وبهذا فالأديب في هذا المجال الإبداعي الرقمي يستثمر كلّ الطاقات التي تمنحها التكنولوجيا لتقديم إبداعه أيا كان جنسه. وبهذا فالأدب التفاعلي كما تقول الناقدة فاطمة البريكي: هو «الأدب الّذي يوظف معطيات التكنولوجيا الحديثة في تقديم جنس أدبي جديد، يجمع بين الأدبية والإلكترونية، ولا يمكن أن يتأتى لمتلقيه إلاّ عبر الوسيط الإلكتروني»، مما يتيح له الخروج عن البعْد اللغوي مستثمرا كلّ الطاقات التعبيرية والرمزية في العلامات غير اللغوية كالصور والأصوات والألوان وغيرها مما تتيحه الوسائل الرقمية كمساند للنص اللغوي وأحيانا كعنصر رئيس في النص/العرض المقدّم خصوصا مع الأجناس التصويرية كالرّواية والمسرحية، بهذا فالأدب التفاعلي هو في جوهره أدب لكنّه متّحد بالتقنيات الرقمية لهذا تعد الإبداعات الأدبية التفاعلية كما يقول سعيد يقطين: هي «التي تولّدت مع توظيف الحاسوب، ولم تكن موجودة قبل ذلك، أو تطوّرت من أشكال قديمة، ولكنّها اتخذت مع الحاسوب صورا جديدة في الإنتاج والتلقي»، وعبر هذا الاتحاد يزيد هذا النوع من الأدب من قوته التأثيرية وانتشاره كما يضيف أبعادا جمالية أخرى يكتشفها المتلقي عبر مشاركته الفاعلة في العمل. وعليه فمفهوم وحدود هذا الأدب تُظهر أنّه ينتج عن حالة تفاعلية وليس مجرّد إنتاج من طرف واحد وهنا تكمن خصوصيته، في أنّه يُشرك المتلقي في عملية البناء، إضافة إلى شرط تلقيه عبر الحاسوب دون غيره وهذه الميزة تمنحه التعدّد والانفتاح غير المشروط.
هل من الممكن التمييز بين بعض الضوابط والشروط العامة للأدب التفاعلي؟
حمزة قريرة: طبعا يمكن التمييز بين عدة ضوابط وشروط عامة للأدب التفاعلي ومنها: أن يحرر مبدعه من الصورة النمطية التقليدية في التأليف، وتقديم عناصر النص وفق تلك العلاقات. وأن يعترف –كما جاء في كتاب «مدخل على الأدب التفاعلي» لفاطمة البريكي، بدور المتلقي المحوري في بناء النص. وعبر هذه الشروط وغيرها ينتج أدبا تفاعليا يمتاز بميزات خاصة تجعله متفرّدا مقارنة بغيره من النصوص وفق وسائط أخرى، ومن ميزاته: هو أنّه نص مفتوح وبلا حدود ولا ضوابط تقيّد انتشاره وجنسه، ومنح المتلقي إحساس الملكية للنص، فلم يعد مجرّد مستهلك. أيضا نزْعه الفرادة على المبدع الأوّل للنص، فقد أصبح النص ملكا جماعيا ومشاعا بين المتلقين، كلّهم يساهم فيه حسب توجهه ومرجعيته وقدراته. أيضا من ميزاته، أنّه لا يعترف بالبدايات والنهايات فهو نص مفتوح وعابر للزمن ومتعدّد الخيارات القرائية. كما تتعدّد من جهة أخرى صور التفاعل في هذا النص خلافا للنص التقليدي بسبب تعدّد تشكيلاته وبناه التي يُقدّم بها إلى المتلقي.
هذا ربّما يجعل من الأدب التفاعلي أدب تجريب وتجديد؟
حمزة قريرة: أجل، عبر هذه الميزات التي سبق ذكرها، يُصبح الأدب التفاعلي أدبا موغلا في التجريب وأداة مهمة للتعرّف على الآليات التي يتبعها المبدع أثناء إنتاجه العمل الأدبي، لكوْن النص في هذا النمط يتم إنتاجه آنيا (في الكثير من الأحيان) فيُمكن للدارس تتبّع العملية الإبداعية في لحظة تشكّلها، وهذا أمر بالغ الأهمية في نظرية الإبداع.
ن.ل

الرجوع إلى الأعلى