رسائل من العصر الحجري لا أحد يقرأها بقسنطينة !
تقاوم النقوش والرسومات التي خلدها فنانو العصر الحجري الحديث على صخر كاف تاسنغة ببلدية ابن باديس بقسنطينة عوامل الزمن المختلفة، حيث تشهد على عمر المنطقة ومدى امتدادها في التاريخ، في وقت أهملها فيه الجزائريون وأبقوا عليها كموقع مجهول وغير معروف إلا لدى أهل الاختصاص من الجامعيين، كما يندُر ذكر تفاصيل عنها في المراجع باللغة العربية، ولا يقتصر إلا على إشارات عابرة مضمنة في الحديث عن مجموعة أخرى من محطات سكان ما قبل التاريخ المنتشرة عبر الولاية وتعرف أغلبها نفس الوضع، مقابل توفر مادة مفصلة عنها باللغة الفرنسية جمعها المستكشفون خلال العهد الاستعماري. ويعبر سكان قريبون منها أيضا عن استغرابهم من عدم الاستثمار فيها سياحيا على الأقل مع وضع بعض الآليات لحمايتها، مثلما هو معمول به لدى مختلف الدول الأخرى.
روبورتاج: سامي حباطي
قاطنون بمناطق قريبة يجهلون الطريق إلى الموقع
لم يكن الوصول إلى كاف تاسنغة بالأمر الهين، فقد استوقفنا العديد من مستعملي الطريق الرابط بين ابن باديس عبر منطقة بني يعقوب بولاية سكيكدة لسؤالهم عن الموقع، لكننا وجدنا بأن الكثير منهم لم يسمع عن المكان من قبل، في حين أرشدنا آخرون إلى وجهة خاطئة، فتتبعنا سيارة أحد الفلاحين حتى اقتربنا من المنعرج المؤدي إليها، أين التقينا بشابين يسيران بالقرب من مزرعة واسعة ترعى بالقرب منها مجموعة من الخيول، فأخبرونا بأنه علينا مواصلة سيرنا بشكل مباشر. مررنا براعي غنم بعد ذلك بحوالي الكيلومتر، فأكد لنا بأننا على الطريق الصحيح.
تقدمنا بعد ذلك ببضع مئات من الأمتار لنرى في الأفق على الضفة اليسرى من الطريق نتوء حجريا بارزا ترامت على إحدى جوانبه مجموعة من الصخور الكبيرة وتحيط بها أراض مستوية، حيث بدا لنا عند اقترابنا منه وكأنه فم مفتوح لحيوان خرج من الأرض بشكل عمودي ليلتهم تشكيلة أخرى من الصخور الأصغر منه حجما. وصلنا إلى المكان ووجدنا مراهقا جالسا على صخرة مقابل مربع مزروع بالبطيخ الأصفر وكان يتناول واحدة منها، كما كانت مجموعة من الأبقار ترعى بالقرب من الحقل. استقبلنا الفتى بحفاوة ودعانا إلى مشاركته طعامه، ثم قادنا إلى الجبل الصخري عندما أخبرناه عن الغاية التي جئنا من أجلها.
عائلة فلاحين حمت الرسومات من التعرض للتشويه
ولاحظنا بأن عائلة مرشدنا تعيش في المكان، حيث تمارس الزراعة وتربية الأبقار، ويرجع إلى أفرادها الفضل في حماية الموقع من التعرض للتشويه وفي بقاء النقوش على حالها، فالزائر لا يستطيع الوصول إليها دون المرور عبر حيز محاط بسياج معدني ومفروش بتربة خاصة لكي تحبس داخلها المواشي خلال الفترة المسائية، وهي تمثل امتدادا لمسكن العائلة الواقع على الجهة اليمنى من الجبل، لكن المراهق أخبرنا قبل مرورنا بأن النقوش الأثرية موزعة على قسمين، تظهر بأحدهما صور بشر في مساحة مسطحة مثل الجدار على الجهة الخارجية من الجبل، وهي تبدو واضحة لمن يقف بالقرب منها لكونها محفورة في الصخر، لكنها مرتفعة عن الأرض بأكثر من مترين.
وقفنا أسفل النقوش وأخذنا في تأملها، حيث يظهر فيها ثلاثة أشخاص حُفرت أشكالهم في الصخر بصورة بدائية تشبه إلى حد كبير رسومات الأطفال، ومُثلت بطونهم وصدورهم بخطين متوازيين لم تحترم فيها نفس المقاييس، لأن الخطين في الإنسان الثالث على الشق الأيمن أكثر تقوسا في جهة البطن ما يشير إلى أنه ربما كان أكثر سمنة من الآخرين، في حين صُورت أذرعهم والأجزاء السفلية من أجسادهم بخطوط أكثر دقة، فضلا عن أن سيقانهم منفرجة مع امتداد بارز في وسطها أسفل البطن يعبر عن الأعضاء التناسلية للأشخاص في الصورة ويؤكد بأن المعنيين بالنقوش الثلاثة ذكور وعراة.

رسائل من العصر الحجري تنتظر من يفك رموزها
وتحيط بصورة الإنسان الثالث «المفترض أنه الأكثر سمنة» نقوش أخرى لم نتمكن من قراءتها جيدا بسبب اختفاء أجزاء كبيرة منها، لكن ما زالت تبرز فيها آثار أداة مقوسة طويلة يحملها في يده اليُسرى مقابل أداة على شكل نصف دائرة في اليد الأخرى، تبرز من منتصفها أسنان حادة نوعا ما وأسفلها خطوط محفورة ليست واضحة لكنها تشبه قرني ثور، نظرا لتناظر شكلين متماثلين ملتصقين ببعضهماوينتهيان إلى رأس مدبب. رجح أحد مرافقينا بأن يكون الإنسان القديم الذي قام بحفر هذه الرسوم ضخما حتى تمكن من «وشمها» على الصخر عاليا، فنحن لم نتمكن من أن نلمسها بأيدينا إلا بعد أن صعدنا فوق صخرة كبيرة، لكننا لاحظنا بأن الأرضية ترابية وربما تكون هي التي انخفضت مع مرور الزمن فمن الواضح بأن تاريخ النقوش يعود إلى آلاف السنين.
وتعززت فرضيتنا بأن تكون الأرضية الترابية الواقعة على الجهة الخارجية قد انخفضت بفعل عوامل الزمن، عندما تجاوزنا السياج المعدني نحو النقوش التي تصور الحيوانات ووجدنا بأن مستواها متناسب مع طول الإنسان العادي، حيث تكون قد حافظت على مكانها لأنها مسجلة على سطح تحمله أرضية صخرية أيضا ما زالت تقاوم ولم تتزحزح، لكن الوصول إليها ليس بالسهل، فهو يتطلب تسلق مجموعة من الصخور الضخمة والملساء.
صخرة ملساء قد يكون السقوط فيها مميتا
وإن كان السكان يطلقون تسمية «الكاف» على الموقع –تعني باللغة العربية الكهف- فإن آثار تاسنغة ليست موجودة فعلا في كهف، فالمكان عبارة عن تجويف مغطى بشكل جزئي بفعل تكوم الصخور على بعضها، لكن المشي عليها خطير بسبب تباعدها ما يستوجب القفز، كما تتخللها تشققات واسعة يصل الفراغ الموجود بينها إلى غاية أسفل الجبل على علو يفوق الستة أمتار، ما قد يؤدي إلى تهشم عظام من يسقط فيها. لكن السطح القريب من النقوش الأخرى الحاملة لصور الحيوانات أكثر أمنا وتماسكا فضلا عن أنه محمي من الأمطار وأصبح حاليا مسكنا للحمام المنتشر في جميع زوايا وثقوب الجبل.
مشينا على الأرضية الحجرية بحذر، فقد تخوفنا من التعرض للسعات أفاعي أو حيوانات أخرى، قبل أن يطمئننا يوسف –المراهق الذي وافق على إرشادنا- بأن الكهف يخلو من الأفاعي والزواحف لأنه بارد، كما يبدو بأن سلفنا الذي قطن ربما داخل كاف تاسنغة لم يكن يختار أماكن حفر لوحاته عشوائيا، حيث وجدنا للمرة الثانية بأن جميع الحيوانات صورت في الجزء الأكثر استواء من الصخر بما يشبه الجدار أو سبورة أقسام التدريس، فيما يحتل الجزء الأكبر من اللوحة حيوان كبير يشبه الجاموس بقرنين بارزين ورأس صغير مقارنة مع جسم ضخم وأربعة قوائم قصيرة وذيل، كما تظهر آثار نقر بأداة حادة على نصف جسده بشكل مائل، ربما أراد صاحب النقش أن يبرز من خلالها انعكاس الضوء على ظهر الحيوان.
زرافة وأسد وجاموس في النقوش
وتنتشر بنفس الموقع رسوم لحيوانات أخرى أقل حجما، حيث يظهر طائر على الجانب الأيمن ويبدو من الحجم الكبير لطول ساقيه وارتفاع صدره، بالإضافة إلى نقش لحيوان يشبه النمر او الأسد الإفريقي وتبدو أطرافه أقصر في الأسفل، في حين جسد الإنسان القديم حيوانا آخر برقبة طويلة ورأس صغير يعلوه قرنان مقوسان وجسده ممتلئ ينتهي إلى أربعة خطوط قصيرة تمثل قوائمه وذيلا على جهته الخلفية، حيث رجح مرافقونا بأن تكون زرافة، لكن لا يمكن الجزم بشيء في ظل غياب تقارير من خبراء في علوم الآثار. وتوجد بنفس المكان صورة أخرى لحيوان بقوائم مستقيمة وطويلة وقرنين مرتفعين تشبه قرون الغزلان، فيما تشير بعض الخطوط الأخرى المنتشرة بالسطح إلى إمكانية وجود نقوش أخرى اختفت مع مرور الزمن.
ويمكن للزائر أن يرى بسهولة أن طبقة من الكلس قد تشكلت داخل الخطوط المحفورة في الحجر، في حين روى لنا مرشدنا ما شاهده عندما تسلق الصخرة الضخمة المقابلة لنقوش الحيوانات، وتمكن من الدخول عبر إحدى التجاويف إلى الجبل ومشى في أنفاق طويلة ومتشعبة، كما أرانا مجموعة من الحفر الصغيرة المرتبة بشكل متصاعد على الصخرة المؤدية إلى داخل الأنفاق واعتبر بأنها «آثار حذوات بغال»، لكن الحفر المذكورة تبدو مثل السلالم أو الأدراج، حيث تسلقنا عبرها مستعملين أيدينا وأقدامنا وشعرنا بسهولة كبيرة في الوصول إلى فوق، رغم أنها تنتهي إلى حافة تطل على هوة عميقة ومنحدرة بشكل مائل، ما يستوجب على الإنسان أن يقفز مباشرة إلى الصخرة المقابلة لها لكي يتجنب الوقوع نحو «المجهول».
ووجدنا داخل تجويف بالقرب من مدخل ما أسماه مرشدنا يوسف بـ»النفق» جمجمة صغيرة لحيوان، تبدو لكلب أو خروف صغير ولم يمض على وجودها زمن طويل لأنها ما زالت محافظة على لونها العاجي، كما أنها تمثل جزءا من مجموعة كبيرة من عظام المواشي المنتشرة بالقرب من الجبل، بحسب ما أوضحه لنا يوسف. لم نتمكن من التقدم أكثر نحو النفق، فالأمر يتطلب بعض وسائل التسلق، كما أننا سمعنا صوت خفافيش في المرتين اللتين اقتربنا فيهما من المدخل ما جعلنا نتراجع ونعدل عن فكرة المواصلة، في حين نزلنا من الصخور بصعوبة شديدة لانحدارها. تجولنا حول الجبل بحثا عن آثار أخرى لكننا لم نعثر على شيء.

كنز حضاري بدون لافتة تدل على وجوده
غادرنا الموقع مشبعين بالتساؤلات عن سبب بقاء كاف تاسنغة مجهولا رغم أنه منارة تدل على مرحلة مفصلية في تاريخ الكائن البشري وتطوره الحضاري، فالنقوش والصور المطبوعة على الصخر تعكس واحدة من الفترات الأولى التي مر عليها الإبداع من خلال الممارسة الفنية، باعتبارها فسحة فائضة لتلبية حاجات نفسية وجمالية لدى الإنسان فرضها عليه مساره نحو التحضر، كما أنها تمثل بدايات التفكير الفلسفي الساعي إلى تحليل علاقاته بمحيطه الطبيعي والبنية التحتية لما سيعرف فيما بعد بالمجتمعات وما يحكمها من قوانين تنظم الحياة الجماعية وما زلنا نحتكم إلى بعضها إلى غاية اليوم.
ويعتبر موقع كاف تاسنغة وغيره من الأماكن التي توجد فيها آثار إنسان ما قبل التاريخ، على غرار خلوة سيدي بوحجر وآثار عين نحاس، إرثا وطنيا ومعلما مهما في تاريخ قسنطينة والجزائر، ومن الغريب ألا تتداول معلومات حوله إلا بين المختصين في علم الآثار والتاريخ من الجامعيين، كما لم نجد عند اقترابنا منه أية لافتة أو إشارة تدل على وجوده، في حين أخبرنا يوسف بأنه من النادر جدا أن تأتي وفود لزيارته، مشيرا إلى أن زوجين فرنسيين قدما للإطلاع على النقوش ذات يوم قبل عدة سنوات، وهي الزيارة الوحيدة التي ما زال يتذكرها.
المصادر بالعربية لا تحمل إلا مجرد إشارات إليها
قمنا ببعض البحوث على شبكة الأنترنيت، فلم نجد باللغة العربية إلا إشارات في صفحات مختلفة وبعض الأبحاث إلى وجود آثار إنسان الكهوف بكاف تاسنغة بالإضافة إلى مجموعة من النقوش والرسوم بكهوف أخرى، لكن دون تدقيق أو وصف لماهيتها ولا لموقعها الجغرافي، في حين تمكنا من الوصول إلى معلومات مفصلة باللغة الفرنسية، فقد ذكر ستيفان غزال في أطلسه الأركيولوجي للجزائر وجود نقوش مهمة بالموقع المذكور، لكن الفضل في اكتشافها يرجع للفرنسيين جوزيف بوسكو ومارسيل سولينياك قبل مائة عام في 1916.
وأعد مكتشفا الموقع تقريرا مفصلا للحكومة الاستعمارية المركزية ذكرا فيه أربعة نقاط مهمة توجد بها لوحات الكهوف لإنسان ما قبل التاريخ، تقع في منطقة الهرية جنوب الخروب وتتمثل في كل من كاف سيدي صالح وحجر الغراب وكاف طرفانة بالقرب من وادي طرفة، لكنهما أفردا الحيز الأكبر –أكثر من ثلاث صفحات- للحديث عما وجدوه في كاف تاسنغة وقالا عنه «إنه صخرة رملية ضخمة لا تبعد عن مجموعة من الآثار الرومانية المتناثرة، كما تشكل جدران الجهة الجنوبية بعض التلبيسات التي استعملها الفنانون البدائيون». وقال الباحثان أيضا إن الحفريات التي أجريت بالمكان لم تعط أية نتيجة، مرجحين بأن يكون أصحاب الرسوم ينتمون لمجموعة بشرية تعيش خارج الكهوف في مناطق مكشوفة، في حين وجدا طبقة كربونية بها بعض بقايا الفخار من العصر النيوليتي فضلا عن عظام متحجرة وأسنان لحيوان الخلد.
وتحدث الباحثان عن وجود صورة لما يسمى بـ»الثور الكبير» وحيوانات أخرى منها الطائر لكنهما لم يذكرا الزرافة، في حين أشار المستكشفان إلى تصارع أحد الشخوص المجسدة خارج الكهف مع ثور وهو يحمل في يده أداة تشبه الفأس وفي اليد الأخرى شيئا يشبه المنجل، فضلا عن أن الفنانين رسموا الأعين والفم بثلاثة ثقوب في كل وجه، لكننا وجدنا بأنها لم تبق ظاهرة إلى على وجه واحد فقط، ما يدل على أن النقوش بدأت بالاختفاء مقارنة بما كانت عليه قبل قرن. ونبه صاحبا التقرير إلى أن تقنية النقش بخطوط متباينة في العرض لتعطي انعكاسا جماليا مع الضوء غير مسبوقة ولم يلاحظ آنذاك استعمالها في آثار إنسان الكهوف الأخرى بإفريقيا الصغرى.

اتصلنا بعدد من المختصين من أجل إطلاعنا على مزيد من المعلومات حول النقوش الأثرية لموقع تاسنغة، لكننا لم نحصل على جواب شاف إلى حد الساعة بعد أن طلبوا منا مهلة لجمع بعض المعطيات حولها، لكننا التقينا بمختص في التاريخ على هامش محاضرة حول عصر ما قبل التاريخ بقسنطينة نظمت بالمتحف الجهوي سيرتا، وأكد لنا بأن عمليات التنقيب عن الآثار التي تعود إلى الحقبة المذكورة توقفت مع نهاية سنوات الستينيات لتركز البحوث بعد ذلك على الفترة الإسلامية لحوالي ثلاثين سنة، ولم تستأنف إلا مطلع سنة 2000. وقد أشارت الأستاذة التي ألقت المحاضرة آنذاك إلى آثار كاف تاسنغة إلى جانب مجموعة أخرى من النقوش الشبيهة بها.
نقوش موقع تاسنغة تحمل دلالات دينية
وتطرقت النصر إلى موضوع كاف تاسنغة قبل حوالي أربع سنوات، حيث أخبرنا الدكتور عبد العزيز بلحرش مدير قسم التاريخ والعلوم الإنسانية بجامعة قسنطينة حينها بأن النقوش تعود إلى العصر الحجري الحديث، أي يبلغ عمرها ما بين 5200 إلى 7 آلاف سنة، كما أن هذه المرحلة المسماة بـ»النيوليتية» تعتبر آخر عصور ما قبل التاريخ، وعرف فيها الإنسان الزراعة وتربية الحيوانات، فيما قال أن النقوش عبارة عن رموز تحمل دلالات يمكن أن تترجم إلى عدة معاني، كما أنه من المثير للاهتمام معرفة من رسمها وفهم مقصده منها.
وأضاف الباحث حينها بأن النقوش المذكورة تعبر عن معاني دينية أيضا، لكنه نبه بأن بعض الاعتقادات الدينية لسكان المنطقة المعاصرين ساهمت في بقاء الموقع مجهولا كونهم اعتبروا بأنها تعكس فكر الجاهلية.
س.ح

الرجوع إلى الأعلى