كيف حضر الثالوث المحرّم: «الدين، الجنس والسياسة» في الرّواية الجزائرية؟ هل تجلّى ذلك بوضوح أو كان بحياءٍ وخفوت؟ وهل يمكن القول أنّ روايات كثيرة تناولت وبكثرة وجرأة هذا «الثالوث» ومن جوانب عديدة ومختلفة ما جعل تيمات «الدين والجنس والسياسة» تسقط من/وعن جذع الثالوث المحرّم، لتصبح مُتاحة ومُتداولة وبعيدة عن بقعة وحيّز الخطوط الحمراء والمحظور والمسكوت عنه؟
استطلاع/نـوّارة لـحـرش
حول هذا الشأن يتحدث بعض الكُتاب والنُقاد والدكاترة الأكاديميين، في ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، ويتطرقون كلٌ من زاوية نظرته الخاصة لهذه الإشكالية، وهذا ما جعل الآراء و وجهات النظر تختلف وتتباين، لكنّها تتقاطع في الكثير من النقاط.
محمد الأمين بحري/ ناقد وباحث أكاديمي وأستاذ محاضر - جامعة بسكرة
ما يزال المسكوت عنه بهرجاً لفظياً أكثر منه اشتغالاً فنياً
إذا نظرنا للموضوع من وجهة نظر فنية؛ نجد بأنّ غالبية من وظف هذه التيمة من كُتابنا، قد انطلق من الثنائية السطحية: (مسكوت عنه/ مُصرح به)، وإذ قرر بعضهم أن يصرحوا بالمسكوت، فإنّ تصريحهم لم يتجاوز مستوى التلفظ الخطابي (الملفوظات). بعيدا عن الاشتغال الفني على التيمة واستثمارها في توليد الدلالات والمؤولات الخطابية وصهرها ضمن نسيج حكائي متنام، سواء على المستوى البنائي أو التدليلي أو التمثيلي في حياة النص المُقدم للقارئ.
هناك مثلا، إشكالية التواصل والانفصام، وهنا نقول: إذا كان العالم والمجتمع يعرفان اختراقات أخلاقية وتنظيمية طبيعية في سيرورته وتحولاته، فماذا يعني أن يسكت الفن والأدب والإبداع عموماً عن هذا الجوهر المتفاعل الّذي يمنح للحياة ديناميتها، بل ومعناها الحركي الدائب التغير، بل أكثر من ذلك، فإنّ اختراق القوانين الوضعية والشرائع والخطوط الحمراء هو ما يضع القوانين التنظيمية البشرية على محك التفعيل، ويمنحها فضاءً للتجدّد والتأكد، وإذ لم تسلم أمة أو مجتمع من كلّ ألوان الاختراقات البشرية للأعراف والنُظم التي سنتها البشرية نفسها، فإنّ هذا المكوّن الإختراقي (الاجتماعي والنفسي والأخلاقي) الّذي نُطلق عليه فنياً مصطلح «المسكوت عنه»، هو ما يمنح المبدع وعمله روابط الاتصال الوثيقة مع ما يجري من حوله من تفاعلات حيوية ترسم وجه الإنسانية بكلّ ملامحه الجمالية والشائهة، وحيث يتجنب الأديب الخوض في مسكوتات مجتمعه، ويقتصر وحسب على تكلف التحيّز للتقيد بالنُظم الأخلاقية والمُثل والمبادئ التي تشهد اختراقات يومية في مجتمعه، فإنّ هذه الكتابة خليقة بأديب مُنفصم عن واقعه وعالمه وبشريته، ولن يكون عمله مُتجها إلى أحد من البشر بقدر ما يكرس حالة فصامه وعزلته، وزيف ما يكتبه إزاء هذا العالم المُحتدم بكلّ الاختراقات من حوله.
من جهة أخرى، أرى أنّها ليست أزمة موضوع قيمي وإنّما أزمة تأليف وكيفية توظيف فني. إذ لم يكن طرق المحرمات الاجتماعية والأخلاقية والعقدية والسياسية إشكالاً إبداعياً يوماً؛ بل على العكس يصبح عدم التطرق إلى تلك المسكوتات في مجتمع بشري مجبول على الخطايا؛ هو المشكلة القيمية للكتابة، وهنا يحق لأفراد هذا المجتمع من القراء مساءلة الكاتب: إلى أي عالم توجه خطابك الامتثالي؟ وأين نجد مجتمع الفضيلة الّذي تحدثنا عنه؟ وإلى أي عالم ينتمي القارئ الّذي تكتب له؟
يصبح المسكوت عنه إشكالاً إبداعياً في حالة وحيدة؛ حين يفتقد المبدع آلية التخييل، وجماليات التوظيف الأدبي للظواهر المطروقة، وتخونه صنعة التمثيل للفعل والنموذج البشريين، وإعادة خلق النماذج البشرية وخطة توزيع الحدث والفعل والوظيفة والممثل وربطهم بعلاقات محبوكة وفق المنطق التخييلي والجمالي للحكاية لا علاقات النُظم والأخلاقيات السائدة خارجها.
وتتكرس أزمة المسكوت فعلياً لدى من لا صنعة أدبية لهم، كمثل تلك التي أرادت أن تكون مُطربة، فخانها الصوت واللحن والأداء والفن، فلجأت إلى إبراز مفاتن جسدها لجلب المتابعين وإثارة الجماهير، وهي الطريقة المُبتذلة نفسها التي يسلكها أدعياء الأدب والكتابة، حين تخونهم الصنعة الأدبية وامتلاك آلة التخييل والتمثيل الجمالي وأساليبه، فيلجأون بشكل فج إلى تلك الغرفة السوداء ليؤثثوا بها عالمهم الكتابي المُتهالك في غياب أدبية الأدب وجمالياته وأساليبه، بل حتى النصية التي تفترض وجود علاقات نسقية بين مكونات العالم السردي ومنطقاً للحكي يحكم الجميع بما في ذلك القارئ.
لقد أفلح كثير من أدبائنا، في تحويل موضوع المسكوت عنه من صورته الشائهة اجتماعياً وأخلاقيا في المجتمع إلى منجز فني مُتعالي الخطاب ومُتعدّد الأصوات والدلالات والتآويل. ودبجه بألوان من الفكر والتخييل، ما يجعل النص قطعة عالمية يمكن أن تنفذ إلى دخيلاء كلّ قارئ محتمل تعبيراً وتأثيراً وإمتاعاً، بما تقدمه من نماذج بشرية في قوالب فنية تخييلية تستوجب النقد الفني للجنس الأدبي لا الأخلاقي الخاص بالجنس البشري. ويمكن تقسيم كُتابنا من خلال تناول هذه التيمة إلى ثلاث فئات:
أولا، فئة المحترفين: ويمثلها أصحاب الصنعة في تكييف النماذج السردية، ممن أبدعوا في التوظيف والتحويل الجمالي لتيمة المسكوت عنه، على نسق لوحات الأدب العالمي؛ نذكر من هم مثالا لا حصراً: أمين الزاوي، واسيني الأعرج، محمد بن جبار، لحبيب السائح، ورشيد بوجدرة.
والفئة الثانية يمثلها كُتّاب الإكسسوار الذين يشتغلون على الأشكال الفضفاضة للغة التي تبدو ملفوظاتها ثائرة وجريئة، بينما استخدامها وظيفياً هو تكييف للتيمات مع النُظم والأخلاقيات. وهي فئة لا تستعمل المسكوت عنه (كما باقي التيمات لديها) إلاّ في ظاهر الملفوظات، بينما في المحتوى النصي تلفه بسدائم من القيم والأخلاقيات حتى يفقد وهجه الفني وشحنته الإحساسية، وتلبس صبغة الأخلاقي. وغالباً ما تتم مُغالطة القراء في هذه الكتابة، بحيث يظنون أنّ الكاتب يخترق المسكوتات (في المظهر اللفظي) بينما هو يتوسلها لتكييفها الأخلاقي خارج فن الأدب، ما يشكل اختراقاً غير فني للتيمة. ويمثل هذه الفئة كلّ من أحلام مستغانمي وفضيلة الفاروق وكثير من الأقلام المحدثة التي تناسلت عن هذا النوع من الكتابة، التي سارت على نهج أخلقة الخطاب الإحساسي للجسد (l’éthique du charnel).
والفئة الثالثة، فئة متطرفة تكتب لذاتها، وتضع خطوطاً حمراء للأدب، تستحل منه ما تجيزه إيديولوجيتها، وتحرم منه ما حرم تيارها الفكري وانتماؤها العقدي، فبعضها تجد كتاباتها تتنكر لأي موضوع من موضوعات المسكوت عنه، بدواعي طائفية وإيديولوجية تحرم على منتسبيها طرق مواضيع محددّة منها المسكوتات، حيث اختار أصحابها أن يكتبون لأنفسهم أو لطوائفهم الفكرية التي تقاسمهم النزوع الفكرية والإيديولوجي. وليس للقارئ المتعدّد أو الكوني. وعادة ما تنتج هذه الفئة المتزمتة أعمالاً لا يمكن أن تنسب لأي جنس في الأدب. نظراً لانفصال أصحابها عن فهم آلية الكتابة وغائيتها وطرائق صنعتها ومساراتها، من جهة، ومن جهة أخرى انفصالهم عن المجتمع الّذي يعيشون فيه ويقدمون مفضلين الكتابة للنفس والفئة المغلقة التي ينتمون إليها ما يجعل هذه الأعمال مطروحة على قارعة الأدب والفكر والمجتمع والواقع. وقد كثر ممثلو هذه الفئة في عصر الطائفية والتطرف المذهبي لمراكز فكرية معروفة، لا تتحدث إلاّ بلون وصوت وحيد. فمن المعربين نجد أمثال محمد جربوعة في وعظياته النثرية التي يقدمها عائض القرني ويسميها روايات، وفي المفرنسين كمال داود وبوعلام صنصال وكثير ممن يكتبون بالوصاية لدى طوائف يمثلونها، ولا يخرجون عن مدار لونها وصوتها وفكرها المتوحد الدائر حول نفسه. دون أن يعني أدبها الإنسان الكوني. أو يتجه للقارئ المتعدّد والمختلف.

آمنة بلعلى/ ناقدة وباحثة أكاديمية -جامعة مولود معمري- تيزي وزو
الثالوث المحـرّم ارتبط بحضور مـؤسّسـة الرّقابة على الإبداع
ارتبط حضور الثالوث المحرم بحضور مؤسّسة الرّقابة على الإبداع، وقد مرّت الرقابة على الإبداع بأشكال عِدة، وفرضت في كلّ مرحلة طُرقا شتّى من القوانين التي تسبّبت في خلافات حادة بين الكُتاب والمؤسّسات الدّينية والسّياسية والاجتماعية التي تُقنّن للثقافة والكتابة حسب رغبتها، ونجم عن ذلك كثير من الصراعات والمقاومات، وأحيانا تواطؤات، كان لها آثار على الكتابة أسفرت على نشوء ما يُسمّى بالثلاثي المحرّم (الدين والجنس والسياسة) الّذي عادة ما ترتبط أسبابه بانفتاح أو انغلاق البنية الاجتماعية.
ولذلك، هناك مؤشّرات مرتبطة بتاريخ الشعوب تشير إلى أنّ الرقابة على هذه السّرديات الصغرى هي من إنتاج الثقافة والمجتمع. فالمجتمع الّذي صاغ طريقة الكلام كان هو الرقيب الأوّل باعتباره المُنتج والمُعلم الأوّل لاستعمال اللّغة وتدبير الكلام لدى الأفراد، ولذلك، كانت القوانين التي صيغت من أجل عملية الإبداع، وآليات التلقي، مُنسجمة مع طبيعة هذه المجتمعات الثقافية والاجتماعية، وهي نفسها التي تتبناها المؤسسة السياسية أو الدينية، ولذلك نُلاحظ أنّ الاجتماعي يتحوّل إلى سياسي، فتتداخل المُحرمات ذاتها فما نعتقده سياسيا يتحول إلى ديني وما نعتقده دينيا يتحول إلى سياسي وهكذا.
كانت الرّواية فضاء لاشتغال الصراع حول هذه الأقانيم الثلاثة التي تشغّلها المؤسسات سالفة الذِكر بكثير من التواطؤ، على الرغم من الصراعات الواضحة والخفية التي كانت بينها. وكانت الرّواية الجزائرية محل مُراقبة شكّلت في كثير من الأحيان إكراهات فرضت نموذجا خاصا من الإبداع، وتمّ تهميش ما لا يدخل ضمن ذلك النموذج، وخاصة مع الرّواية الإيديولوجية في السبعينيات، ولذلك عمدت المؤسسة السياسية آنذاك إلى التعتيم على بعض الروائيين الذين يكتبون باللّغة الفرنسية ومصادرة أعمال البعض مثلما حدث لــ»زمن النمرود» للحبيب السايح، في الوقت الّذي فُسحت فيه المجال لممارسة حرية التعبير في الحديث عن الدين والجنس مثلما نجده لدى رشيد بوجدرة مثلا والّذي تولّت المؤسسة الأخلاقية والاجتماعية من خلال قرائها الذين اتخذوا من العرف المقدّس الّذي يستمد قداسته من قداسة الدين ذريعة لمحاكمة النص الروائي، فتبلورت ترسانة احتراسية سوف يعتمدها الروائيون بالتخفي والإخفاء والتعمية والكناية والتلميح والترميز والإضمار، وأحيانا بخلق عوالم تخييلية استطاعت أن تفلت من مؤسّسة الرقابة الأخلاقية التي لم تكن تملك وسائل القمع التي تمتلكها المؤسسة السّياسية كالسجن والنفي والقتل ومصادرة الإبداع.
أثناء العشرية السوداء، تفككت منظومة الرقابة السياسية التي عملت على مراقبة صناعة التمثيل الأدبي واللغوي والتي كانت، في الحقيقة، رقابة على الرغبات وعن وجهات النظر وحاجة الإنسان لكي يكون مختلفا. وقوّضت أركان الثالوث المحرم، ظاهريا، على الرغم من الرقابة السياسية والأمنية الكبيرة، ووجدت المرأة الروائية في هذا الانفلات فرصة للاحتماء بفضاء التغيير والتحرّر والنضال النسوي وتجاوز استراتيجيات التخويف التي حاولت المؤسسة توظيفها باسم الوطنية والقومية وباسم الانتماء الحزبي أو الإيديولوجي فسعى الروائيون إلى تنشيط أنظمة تمثيلية أخرى قامت بتفكيك الدوغم الديني خاصة ليفسح المجال لمزيد في الحرية في التعاطي مع ما كان محظورا، وتولّت المرأة تقويض مؤسسة المجتمع الأبوي والتمرّد عليها مثلما نجده لدى فضيلة الفاروق، وأصبح الثالوث المحرّم موضوعات مُتداولة، إلى حدّ كبير، في الرّواية الجزائرية بعد العشرية السوداء، لينخرط الروائيون في نقد المؤسّسة السياسية بعد الاستقلال ثم مؤسّسة الشرعية الثورية، لنشهد مع بداية الألفية الثالثة تلاشي أضلاع المثلث المحرّم بشكل لافت، مع حفاظ المؤسسة السياسية على سلطتها في توجيه الثقافة.
ومع متغيرات العولمة السريعة وعصر التكنولوجيا الجديدة، بات الإيمان راسخا أنّ مؤسّسة الرقابة قد تفكّكت، مثلما تفكّكت باقي المؤسسات الأخرى التي ظلّت توظّفها، وأصبحنا نتحدّث عن مزيد من التحرّر في استعمال اللّغة وفي الكتابةّ تماما كما نعيش التحرّر في هذا الفضاء العام للحرّيّات الّذي يوفر أنماطا متعدّدة من القيم الجديدة والتفاعلات الإيجابية مع المؤسسة اللغوية ذاتها، وخاصة، بعدما أصبحت علاقاتنا بأنظمة أخرى كالصورة والرقمنة أكثر حميمية، وطُرحت كبديل ينذر بإمكانية تلاشي علاقتنا الوجودية مع اللّغة؛ حيث نجد هناك من يربط زوال مؤسسة الرقابة بزوال الإيديولوجيات والسرديات الكبرى.
وفي ظل التحولات التي يشهدها العالم المعاصر، وما أحدثته الثورة التكنولوجية الجديدة من انفتاح، بات الاعتقاد أنّ الحرية التي منحتها هذه الوسائط الجديدة، قد قوّضت مؤسسة الرقابة، وفتحت مجالات عِدة لتحرر المبدع والكتابة، غير أنّ الواقع يؤكد بروز سياسة رقابية أخرى لا تقل تأثيرا وخطورة عن سابقاتها، واتسع المثلث، ليصبح التحريم مرتبطا بموضوعات الشذوذ الجنسي وليس بالجنس، وبالإرهاب وليس بالدين، وبالمعارضة وليس بالسياسة، وبالإثنيات وليس بالوطنية وغيرها.
وهكذا يؤكد لنا الواقع بأنّ الرقابة هي بمثابة الأخطبوط، فلا تزال التقارير الرسمية والخاصة، المحلية والدولية، تسجل أساليب جديدة ومتعدّدة وأحيانا معقدة، تمارسها السلطة على المثقفين والروائيين، وخاصة بعد الذي سُمّي الثورات العربية، كحجب المواقع وتعطيل القنوات التلفزيونية والتشويش على محركات البحث، بل تتّخذ الاستراتيجيات المتّبعة في صياغة فنون المراقبة أبعادا أصبحت فيها الرقابة خطابا يسيّر العقول ويصوغ التمثلات الذهنية للمثقفين قبل أن يسنّ قرارات المنع والإقصاء أو المصادرة.
وبالموازاة مع كلّ هذا، لا تزال رقابة القراء تشتغل بنفس الأساليب وتشتغل في صمت ليتم محاصرة نمط معين من القراء لروائيين بعينهم لا يزالون يخوضون في موضوعات الثلاثي التقليدية مثلما يحدث لأمين الزاوي ورشيد بوجدرة، كما لازلنا نشهد أساليب تكفير الروائيين ومحاكمتهم استنادا إلى أقوال شخصياتهم مثلما حدث لكمال داوود. وغير ذلك من أساليب المنع والمصادرة لبعض روايات الشباب مثلما حدث في المعرض الدولي للكتاب2017.
من جهة أخرى اكتشفت أجهزة الرقابة، في ضوء التحولات العالمية التي طغى فيها مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان، أنّها مُلزمة بتغيير آلياتها كما غيرت الأنظمة الديكتاتورية آليتها أيضا، لتساير هذه التحولات، فعمدت إلى تنشيط استراتيجيات جديدة، وتفعيل آليات ذكية، يصبح الكاتب، بموجبها، تابعا لها، بجهد أقل، ودون أن تدخل معه في خلافات وصراعات، فقد حوّلت أشكال الرقابة المادية إلى أشكال رمزية فعّالة؛ وعمدت إلى إنشاء ما يمكن تسميته بالرقيب الذاتي، وهو حالة فكرية ووجدانية وثقافية توجه الكاتب نحو الخضوع لحاجات المؤسسة من ذاته هو، بناء على معرفته المسبقة بمنطق المؤسسة واحتياجاتها.
وبدعوى الانفتاح على الثقافة والمثقفين والتواصل معهم صارت تشغّلهم كموظفين لديها بإغراءات متعدّدة مثل المناصب الإدارية والسياسية وتدفع بهم إلى الانخراط في منظماتها وأحزابها ومؤسساتها، والدفاع عن مصالحها التي يعتقد، واهما، أنّها مصالحه أيضا. وفي هذه الحالة تتوارى المحظورات بالمفهوم التقليدي لتبرز أقانيم أخرى من المحرمات تفرضها المصالح والشللية وأساليب تدجينية توفّر عن المؤسسة عناء الرقابة التقليدية.
إنّ الموضوعات التي ينظر إليها على أنّها محظورات توجّهها، في حقيقة الأمر، أصوات تعتقد أنّها تمتلك الحقيقة، ولعل الصراع بين من يعتقدون أنّهم يمتلكون حق الدفاع عن هذه الموضوعات باعتبارها من الثوابت، وبين من يعتقدون بأنّ لهم الحق في الحديث عنها، إنّما هو محض صراع إيديولوجي ولو تم التوصل إلى أن لا حقيقة داخل الإيديولوجيا، لتم استبدال التواصل والاختلاف بالخلاف والعداء.
لا شك أنّ دور السّلط والمؤسسات التقليدية قد خفت اليوم، إلى حد كبير، لأنّ هناك مؤسسات أخرى  يمكنها أن تصمت ولكنّها تخلق أساليبها الخاصة لمراقبة الإبداع، ولعل الصخب الفكري والإبداعي الّذي أثارته قضية الثالوث المحرم لم يعد اليوم صامدا أمام الصخب الّذي يحدثه نشوء سرديات كبرى توجّه تفكير الإنسان في هذه الظواهر التي هي جزء من وجوده وهي الدّين والجنس والسياسة، وتجعل من هذه الظواهر براديغمات موجّهة للأفكار والمجتمعات سوف تخلق مزيدا من الصراعات الجديدة حول موضوعات لم تكن تخطر في بال الروائيين.

عبد الحميد ختالة/ كاتب وناقد -جامعة عباس لغرور- خنشلة
مصطلح «الطابو» لم يعدّ ذا قيمة فاعلة في الرّواية الجزائرية
تعدّ الرّواية الناقل الحيوي والفاعل جدّا للحياة بكلّ أصولها وفروعها، ولمّا كان الأمر كذلك يسلّم القارئ المعاصر بأنّ مصطلح «الطابو» لم يعدّ ذا قيمة فاعلة في الرّواية بعامة وفي الرّواية الجزائرية بخاصة، فالّذي لا يختلف فيه قارئان أنّ الصحف والجرائد التي تعدّ لسان حال يوميات الجزائري حُبلى بالأخبار المتطرفة أخلاقيا وسياسيا ودينيا، ولا نختلف كذلك في أنّ حيرة القارئ قد خفتت كثيرا لحظة تلقيه لعناوين صحفية بالبنط العريض، تتمرّد عن المألوف سياسيا ودينيا وأخلاقيا.
من هذا الّذي سبق أصبح السؤال أكثر إلحاحا في مدى توسّل الرّواية الجزائرية للجنس والدين والسياسة من أجل ضمان كينونتها الإبستيمية وفاعليتها في القارئ؟
الحق أنّ الرّواية الجزائرية بمنجزها الثقيل لم تعدّ بحاجة إلى المُخالفة المفضية للتعريف، كما أنّ ثِقل الأسماء الجزائرية في قائمة الروائيين العرب المتوجين بجوائز التميّز أصبحت تنأى بالروائي الجزائري عن الاتكاء على التصعلك الفني من أجل ضمان قدر محترم من القرّاء، هذا إذا قرأنا «الطابو» على أنّه إستراتيجية كتابية يتوسلها الروائي من أجل المعراج من درجة الهواية إلى الاحتراف، فالطابو في العُرف الكتابي خروج عن المعهود وخرق لحجب الطهر والحياء الفني يغازل بواسطته الكاتب انتباه القراء.
لا يجعلنا هذا الحكم نغض البصر عن بعض الحقائق التي نقرؤها في الرّواية الجزائرية، فرغم قناعتي بأنّ مفهوم «الطابو» قد هُدّم اجتماعيًا قبل أن يُهدم فنيًا، إلاّ أنّنا نقرأ أحيانا نصوصا تتعامل مع طابو السياسة كما الدور الّذي يقوم به التنويري في إشاعة الكامن، وإغراق الفني في المُضمر والمسكوت والمبحوح، وهنا أجد أنّ دور الرّواية يتجاوز ذلك إلى رصد القواعد الخلفية لمخابر السياسة ومصانع السياسيين وهذا المابعد طابو الأجدر بالصوغ السردي، وفي فلكه نقرأ رواية مثل «العربي الأخير» لواسيني الأعرج.
لا يخفى أنّ بعض النصوص الروائية الجزائرية شغلت قارئها عندما ركزت على الجنس كمادة سردية، والغريب أنّ هذه النصوص لم تتميّز سرديًا بقدر ما شدّت إليها عين النقد كنص مُتفلّت ومتمرّد عن المألوف سرديًا، مثل رواية «اكتشاف الشهوة» لفضيلة الفاروق، لكنّي أجد أنّ الجنس مَلمحٌ طبيعي في حياة الإنسان وسيبقى طبيعيا في الرّواية، ما لم يكن هو المُعوّل عليه للتميّز والحضور، وإذا كان فحينها ستسقط الرّواية فنيًا وسرديًا، لأنّ الجنس الّذي يكون قد أسهم في نجاح السينما، سيكون سببًا في انهيار إمبراطورية الرّواية إن كان هو أساسها.
يرى «أمين الزاوي» بأنّه من لا يكتب عن الطابوهات والمسكوت عنه ليس روائيا، وهذا رأي الروائي وليس الناقد، فقد ينسكن الروائي بالجنس والدين والسياسة فيكتبها جميعا، لكنّه إن توسلها وقصدها أصبح مجردًا من الفن بعيدا عن جماليته. فما قدمه «جورج طرابيشي» على أنّه تحرّر للمرأة في الرّواية العربية أجده محض قراءة تُخطّئها قراءات أخرى، والرّواية التي يعرّفها «أندريه جيد» على أنّها حياة، تتجاوز أن تكون مخدعًا لإفراغ المكبوت.

عبد الحفيظ بن جلولي/ كاتب وناقد
حضوره في الوعي الروائي خرج عن إطاره الفنّي ليدخل ضمن بنية التسويق
تمثل الرّواية الوجه السردي لما يدور في يوميات الإنسان وهو يبحث عن المعيش والمصير والمعنى، أي إنّها تمتلك الرؤية التي تنقص الواقع وهو يتدحرج في مأساته وملهاته، ومن ضمن ما قدّمته الرّواية وهي تشاكس الواقع وتعارض ما اصطلح عليه نقديا بالثالوث المحرّم: الدين، الجنس والسياسة، وهنا يواجهنا مفهوميا ما نعنيه بمعالجة الرّواية للمحظور. هل هو الإسقاط الواقعي المباشر حتى تخرج من كونها علاقة متخفية وممنوعة، أو تناولها ضمن فنية الإخراج الروائي المتوافق مع التخييلي والجمالي. ويمكن أن يمثل بحث كمال داوود عن لغة شبقية كما هي اللّغة الفرنسية مختلفة عن لغة متكتّمة عربية يمثل بالنسبة للشغف الآلي بتوظيف المحرّم في إطار لغة واصفة مفارقة للمعنى الجمالي/القيمي الكامن فيها، فما يجعل المحظور ديمومة وحضور هو التعرض له في إطار المعيار الإنساني الموسوم بالقيم، لأنّه حتى القرآن الكريم وهو النص المقدّس المُتعالي تعرّض لأشد هذه المحرّمات منعا وهو الجنس لكن بتدفّق لغوي ومعنوي تغلّفهما العفّة المبتغاة في مجتمع أهم ما يميّزه أنّه إنساني بالدّرجة الأولى.
لو نعود إلى المدوّنة الروائية الجزائرية، لوجدنا أنّها كانت حاضرة في أفق السرد المُناهض للواقع وهو يتدثر أسمال المُراوغة والانكفاء في مجال الثالوث المُحرّم، ولا بدّ للانتباه هنا إلى هرمية المجتمع المبني على قيمية مُعيّنة تتميّز بالحياء وتربي عليه الذائقة العامّة للأفراد، ومنه يستحضر الروائي بوعي أو لا وعي الرقابة الجمعية وهو يفكّك بنية المُتخيّل ليلج متاهة السرد باحثا عن أفق جمالي للتواصل مع الوعي.
إنّ حضور الثالوث المحرّم في الوعي الروائي، خرج عن إطاره الفنّي الدرامي ليدخل ضمن بنية التسويق للعمل والقبول به في وسط أصبح همّه الوحيد الشهرة والشيوع وذيوع الصّيت دون إعارة أدنى اهتمام لما نُطلق عليه بالشرط المعرفي/ الجمالي للرّواية، وهو ما أفنت أجيال عربية عمرها منذ «زينب» لحسين هيكل وإلى آخر رائد لهذا الفن النبيل، لأجل التثبيت له وتقديم الذات العربية من خلاله وهي تناضل من أجل خلق فضاء جمالي/ إنساني تتنفس فيه قيمتها ووجودها، ولعلّ الرّواية الجزائرية منذ رضا حوحو في «غادة أمّ القرى»، وبن هدوقة في «ريح الجنوب» والطاهر وطار في «الزلزال» أبانت عن جذر هذا المنحى في التأصيل لفن الرّواية في بداياته التأسيسية.
لا يُنكر على الرّواية وهي تحل محل الحكاية الشفوية أن تلامس الثالوث المحرّم، بل لزام عليها أن تفعل ذلك، لكن ليس بالفجاجة التي تمرّر شريطا بورنوغرافيا أمام شاشة تلقي القارئ، ولا بذلك الصِدام الّذي يهوي على القيم الدينية بمطرقة المفارق للشعور الجمعي، ولا أيضا بذلك الابتذال الّذي تواجه به مفارقات الواقع السياسي، إذ الغالب في الرّواية هو الوعي الجمالي/المعرفي ونقل الواقع عبر وسيط الفن وخوض رهان اللّغة، وإلاّ انزلقنا داخل ما أسماه الدكتور محمد الأمين بحري بـــ»الإنتاجية والتسويق»، أي إنّنا داخل سوق كبيرة تعرض إنتاجا علينا ونحن نشتري كما لو كنا في حالة تبضّع بسيطة، ويرى بأنّ التعرّض لهذه المحظورات كان «بالتلميح الإشاري، والرّمز الإيحائي، والتدليل العلاماتي»، وفي اعتقادي هو ما يجعل من بعض النصوص مجالا للحفر في النّشاز الّذي تثيره الممارسة لهذه القيم باعتبارها فضاء الذات وهي تنحت هويتها وتهفو إلى إدارة رشيدة لشأنها العام وتحقيق توافق بين رغائبها الجسدية ومقتضيات وضعها القيمي.
في سياق المدوّنة الرّوائية الجزائرية لا يمكن الحسم بأنّ الرّواية كانت واضحة أو متسترة في تناولها للثالوث المحرّم، لأنّ في ذات النص الّذي يشتمل على معالجة مشهدية للمحظور تتوالى رمزيات عالية التوظيف لها أيضا، كما هو الحال بالنسبة للروائي لحبيب السايح  وجيلالي خلاص وحتى رشيد بوجدرة، ويبدو في روايات محمد مفلاح تلك المعالجة المتوازنة للمحظور السياسي، وإشكالية علاقات المرأة بالرجل باعتبارهما موضوعا المحظور الجنسي والسياسي والديني، ويمكن أن تكون فضيلة الفاروق وأحلام مستغانمي ومليكة مقدّم أكثر تحرّرا وتطرّفا في تقديم المدلول الجنسي المحرّم في مجتمع تهيمن عليه الذكورة.
ن.ل

 

الرجوع إلى الأعلى