ياسيــن سليمــاني
ليس هذا المقال موجها لغير المؤمنين بالنقد وأهميته حتى يأمنوا به، فإننا في زمن انفتحت فيه المعرفة بشكل موسع حتى صار من الصعب أن نكرّر مجموعة من المقولات التقليدية التي لا شك أنها لن تضيف شيئا. دون أن تصيبنا لائمة اللائمين وتثريبهم. غير أنّ المقال يأتي ليتحدث لمجموعة من المؤمنين الطيبين بالمسرح وقيمة الفعل النقدي المساوق له.
ليس الناقد أبدا تلك الدجاجة التي توقوق إذا باضت جارتها، كما يحلو للبعض أن يلخص نظرته للنقد. ولكنّ النقد إنتاج للمعنى ...والناقد المسرحي هو كاتب جديد للعمل. وإذا كان شكسبير كاتبا لهاملت مثلا فإنّ بيتر بروك الذي أخرج هذا العمل على الخشبة هو كاتب ثان له، كتابة ركحية، سمعبصرية، والناقد هو كاتب ثالث للعمل. وهو قمين بأن يخرج من كوامنه و ينوس بين عوالمه ليتظهر طائفة من التمثلات والمعميات لم ينتبه إليها المبدع أثناء إبداعه.
إنّ الأصدقاء من النقاد في العالم العربي لا يجدون غضاضة تماما في التعامل مع الفنانين والمبدعين، وهناك شبه تحالف «ضمني» يجعل الناقد يتابع الأعمال دون حرج. صحيح أنّنا نقرأ للبعض منهم كتابات نقدية هي أقرب للمديح والثناء والتزلف، وهي تكتب عن المبدع لا عن إبداعه،كما نقرأ كتابات أخرى هجائية تنتقص من شأن أصحابها وتصمهم بأقبح الصفات بعيدا عن مناقشة واضحة لمنتجاتهم. وبين يديّ كتاب نقدي للسيناريست «مصطفى محرم» بعنوان «عندما شاهدت الأفلام» فيه بعض من السب المشين لكتّاب مصريين من أمثال بلال فضل وغيره.  لكن مع ذلك قرأتُ ولا أزال أقرأ من سنوات، وأكتب في ذات المجلات والصحف المصرية والسورية والعراقية التي يكتب فيها هؤلاء فأجد كتابات رصينة تستجلي الغامض وتستظهر المضمر، وتقول المسكوت عنه .
فإنك تلتقي بمجموعات من (الممثلين) و(لمخرجين) وإن كان بعضهم على قدر لافت من الثقافة والإخلاص للفن الذي يمارسونه. وهم مقتنعون به اقتناعهم بأنهم مخلوقون له وموجودون به. بينما الأغلب الأعم قفز على الخشبة بضربة حظ، ومارس التمثيل وبعضهم اتجه للإخراج ليسد ثغرة في غفلة من محبّي هذا الفن والمدافعين عنه باعتباره واجهة حضارية حقيقية لكل مجتمع وبلد. وأعرف منهم ولا أجد حرجا من تسمية بعضهم بأسمائهم الشخصية لم يفعلوا في المسرح سوى أنهم استغلوا أطفال المدارس ليمثلوا لهم في مسرحياتهم بلا أيّ مقابل ولسنوات، وبعضهم تواطأ مع بعض المسارح الجهوية ليقدم أعمالا بمبالغ طائلة ....
خلال السنوات الماضية كتبتُ عشرات المقالات والدراسات النقدية، ظهر الكثير منها في الصحافة الجزائرية والعربية، ومجلات ثقافية وأخرى محكّمة في الوطن العربي كما نشرتُ عدة كتب داخل البلاد وخارجها. وكان الهدف دوما محاولة المشاركة العالمة في الفعل النقدي بوصفه صنواً للإبداع، وبوصف الناقد مجاورا للمبدع لا خصما له أو عدوا، كما ليس شرطا أن يكون الناقد صديقا للمبدع. إنّ كلّ واحد يقوم بالجهد الذي يقوم به فإن التقت أفكارهما واتّفقت فهذا جيد، وإن اختلفت فإنّ هذا لا يفسد في أمرهما شيئا. ما دام الاختلاف محكوما بتقاليد الاحترام والتقدير لكليهما
غير أنّنا في الجزائر نصطدم كثيرا بمجموعة من «الكتبة» ومن «القافزين على الخشبة»  ممثلين أو مخرجين، بعضهم وجد الفرصة سانحة مع بعض المسارح الجهوية خاصةً فقدم أعمالا لا يمكن لمبتدئ أن يقدمها، ولا لهاو أن يتجرأ على دعوة المشاهد لرؤيتها، وعندما امتلأت الجيوب، وبعد الجيوب امتلأت الأرصدة، وبدل العمل الواحد قدم هذا أو ذاك أعمالا أخرى حتى ظنّ المخرجُ أنه مخرج، وحتى ظنّ السينوغراف أنه سينوغراف. فلمّا قيّض القدر لهم من يكتب عن أعمالهم الشوهاء قراءات نقدية في مجلات وصحف شرّفتهم بذكر أسمائهم في صفحاتها وتحليل أعمالهم فيها، ثم ولمّا قرأ هؤلاء ما كُتب ودُبّج، ثارت الثائرة، وأرغد هؤلاء وأزبدوا. وسبوا ولعنوا.
في واحدة من أسخف ردود الفعل عن واحد من مقالاتي عن عرض مسرحي سابق أرسل لي أحد الممثلين-بعد سب وشتم لا يليقان بمن يصعد على خشبة المسرح المقدسة التي وقفت عليها شخصيات شكسبير وموليير- يطلب مني أن أريه شهاداتي في المسرح والإعلام، فلمّا أخطره بعض الأصدقاء بسذاجة ما كتب، ودلوه على بعض من أعمالي ومشاركاتي  وبأنّ المسرح الذي قفز عليه قفزا درسته أنا دراسة أكاديمية في جامعة وهران لسنوات على يد أساتذة كبار إليهم يعود الفضل في تكوين أهم من في الساحة الوطنية وناقشت فيه رسائل، وبفضله نشرتُ تلك الكتب والدراسات التي هي أعزّ ما عندي فلكأن «جمرة ورميت في الماء»
ليس هذا إلاّ مثالا واحدا لا غير. وطوال السنوات الماضية تأتيك بعض هذه الردود المسيئة.   
وهذا تماما ما حدث مع النقد المسرحي، أو ربما النقد بوجه عام. فإنك ترى أنّ المبدعين ينقسمون انقساما لافتا في رؤيتهم له. وإني لأعتقد أنّ التطرف لا يبتعد إلاّ نادرا عن هذين الصنفين. الأول منهما
ولكن أظنّ أنّ قدر الناقد الجزائري أن يكون مثل هيرقليس الذي كتب عنه يوربيدس مسرحيته «هيرقليس ساخطا» أن ينزل إلى الجحيم ليقيّد المسخ «سربير» ذا الرؤوس الثلاثة حارس الجحيم ويخلّص الملك. إنّ الناقد وحده يجمُلُ به أن ينقذ مملكة المسرح من مرتزقتها. صحيح أنّ الناقد ليس بسبّاب ولا لعّان، ودوره يتلخص فيما ذكر بدءا في هذا المقال غير أنّ بعض المواطن لا يمكن إلاّ للطلق الناري أن يعلن حربه على كل هذه المسوخ التي تدّعي أنها أعمال مسرحية.
على كل حال، ليس هذه إلاّ خاطرة في هذا الفعل النقدي كما أؤمن به، وكما يجب أن نؤمن به، شاء من شاء وأبى من أبى.

الرجوع إلى الأعلى