الشهادات..هل تخدم التاريخ أم تعذّبه؟
من وقتٍ إلى آخر، تظهر وتطفو على سطح المشهد السياسيّ والإعلاميّ تصريحات تنتقص من قيمة وحقيقة بعض رموز الثورة، وقد أصبحنا نعيش نزعة تكذيب شهادات ومذكرات المجاهدين فيما بينهم، تصل أحيانا إلى حد التشكيك في شخصيات من رموز الثورة من مجاهدين وقادة وشهداء.
إستطلاع/ نـــوّارة لحـرش
فلماذا يحدث هذا يا ترى، ولماذا ثقافة التشكيك مُتفشية. ما الهدف من التشكيك والطعن في مصداقية بعض رموز الثورة والمجاهدين والشهداء. ومن ينصف من؟ ومتى تخرج الشهادات التاريخية من عباءة التزييف والتشكيك والاتهامات.
هذا ما سيتحدث عنه أهل الاختصاص من دكاترة أكاديميين وباحثين ومؤرخين في ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، في محاولة لقراءة سياق الاتهامات بين الشخصيات التاريخية ونزعة التشكيك.

محمّد بن ساعو/ باحث أكاديمي وأستاذ التاريخ -جامعة سطيف2
حملات التشكيك هي استمرار لصراعات الثورة
اعتُبِرَت حرب التصريحات المشتعلة في السنوات الأخيرة بين الشخصيات والزعامات التاريخية مثيرة واستثنائية، لأنّها تطرّقت إلى قضايا خطيرة وصُوّبت نحو شخصيات مهمة من مجاهدين وحتى شهداء صنعوا جزءًا من تاريخ الثورة التحريرية، ووصلت هذه التصريحات حدّ التخوين والاتهام بالعمالة، وتقديم معلومات هامة تمس بالثورة للقوات الفرنسية، سواء تحت طائل التعذيب أو التهديد أو طواعية.
هل هو مؤشر إيجابي لأنّه يدفع الفاعلين إلى البوح بما في ذاكرتهم من حقائق تاريخية دفينة قد لا يحفّز الهدوء القاتل على قولها؟ أم أنّ الأمر وراءه تصفية حسابات بألوان مختلفة؟
يثير الموضوع المطروق الكثير من الإشكاليات، ويتيح عِدة مداخل لتناوله، ويبدو من الضروري الالتفات إلى الساحة التي يدور فيها هذا النقاش، ونقصد به الفضاء الإعلامي الّذي أصبح حلبة تُدار فيها الصراعات التاريخية وتروّج فيها التصريحات النّارية، فوسائل الإعلام تتسابق لتلقّف الاتهامات والتصريحات وتوظيفها في عناوين بالبنط العريض وفي قوالب الإثارة والتضخيم بغية تفجير القنابل الإعلامية والفوز بالسبق الصحفي.
وهي في ذلك تتعامل بنوع من التضييق على المسألة، لأنّها أغفلت صوت الأكاديمي، فالمؤرخ والباحث في التاريخ له وجهة نظره الخاصة به، إذ أنّ هذه التصريحات وحتى الشهادات التاريخية لا تُعد تاريخًا في حد ذاتها، إنّما تحتاج إلى جهود كبيرة حتى يمكن توظيفها في تدوين التاريخ واستبعاد ما يتنافى والحقيقة التاريخية، لأنّ عددا كبيرا من المذكرات التاريخية تُحاول أن تصنع لأصحابها شخصيات بطولية وأمجاد أسطورية متجاوزة الحقائق التاريخية.
لقد أصبحت البلاطوهات التلفزيونية في الفترات التي تشهد تجدّد التصعيد والتصريحات في قضايا الثورة والتاريخ والذاكرة الوطنية وكرا للسياسيين وغيرهم من الإعلاميين غير المتخصصين في التاريخ ما زاد من تعميق الشعور لدى الكثير من الجزائريين بأنّ التاريخ «مفخخ» نظرا للتوجيه المُمارس في مثل هذه المناسبات، سواء في الجرائد أو الفضائيات وحتى المواقع الإلكترونية والمنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي. في حين يُستبعد الباحث في التاريخ أو يَستبعد نفسه من الانخراط في هذا اللغط، ربّما لأنّه يُدرك بأنّ الساحة الحقيقية لمعالجة هذه المسائل هي البحث العلمي الموضوعي البعيد عن التوجيه السياسي والإعلامي.
لكن أن نجد ممن يُصنّفون على أنّهم باحثون في التاريخ، يدعون إلى عدم السماح بنشر مذكرات فلان بحجة أنّها تلوّث التاريخ مُحاولة منهم لممارسة رقابة متقدمة، فهذا ليس بالمنطق العلمي، لأنّ القاعدة تقول –كما أسلفنا- أنّ الشهادات والمذكرات التاريخية ليست تاريخا، والمؤرخ هو من يجعلها أو لا يجعلها كذلك.
المدخل الثاني الّذي أردت عدم إهماله في هذا الموضوع يتعلق بالتّلقي، وأركز هنا على الشباب الّذي وجد نفسه أمام تراشق إعلامي رهيب واتهامات خطيرة، قابلها بنوع من الاشمئزاز، مما جعله يُشكّك فيما استهلكه من مادة تاريخية في المدرسة والمحيط. هذا الوضع يؤدي بهم إلى عدم تصديق حتى الحقيقة، أقصد حقيقة النضال المرير الّذي خاضه الشعب ضد الآلة الاستعمارية، فهل تكاد تلك الصورة المُشرقة التي تكونت لدى الأجيال عن بطولات ورموز شخصيات تاريخية أن تسقط وتشوّه؟.
الأكيد أنّ الشباب يدرك بأنّ حملات التشكيك التي تطال بعض القيادات الثورية هي استمرار لصراعات الثورة، لأنّ جل الثورات التحريرية شهدت صراعات وتصفيات وأخطاء لا يمكن التغطية عنها، لكن هذه الحملات تزيد الغموض بدل استجلاء الحقيقة التي يبحث عنها الجميع، كما أنّها في أحيان كثيرة غير بريئة من السياسة.
لا يمكن تحميل كامل المسؤولية لوسائل الإعلام، فهي من جانب آخر تعتبر نفسها مجرّد صوت لما يحدث في الواقع، فــ»لا دخان بدون نار» كما يقول المثل، لكن في المقابل تبقى غير مؤهلة لإصدار الأحكام، لأنّ المؤرخ هو المخول بذلك بعد تمحيص الوثائق التاريخية وإعمال المنهج العلمي ووضع الأحداث في سياقها التاريخي، لأنّ المصادر التي تستند إليها بعض الشخصيات التاريخية التي تتبنى خطابا اتهاميًا في كثير من الأحيان هي وثائق فرنسية تبقى صدقيتها مرتبطة بسياقات إنتاجها، وبالتالي لا يجب أخذها كما هي وبناء الأحكام وفقها.
ختاما ينبغي التأكيد على أنّ ضحايا هذا التراشق كثيرون بداية بالتاريخ الوطني والحقيقة التاريخية مرورا بالشخصيات التاريخية المستهدفة، وصولا إلى الشباب والأجيال الصاعدة... ولا يكون الخروج من هذه الدائرة المُفرغة إلاّ بالكتابة التاريخية الموضوعية، التي يتولاها مؤرخون مقتدرون، مع ضرورة إتاحة كلّ الظروف المُساعدة على كشف الحقائق التاريخية.

سفيان لوصيف/ أستاذ التاريخ -جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2
المذكرات الشخصية ليست توثيقا
منذ ما يقارب العقدين من الزمن استفحلت ظاهرة كتابة المذكرات والسير الذاتية في الجزائر من قِبل قادة الثورة التحريرية والفاعلين فيها من مجاهدين وإطارات ثورية، وقد أثار الكثير منها جدلا حادا ونقاشا عقيما، ليس فقط بين صانعي الحدث بل امتدت صدمة التضارب والتناقض الرهيب في أحداث التاريخ إلى مستوى عامة الناس، الذين اندهشوا مِما يحدث من تراشق وتبادل للتهم بين هؤلاء، حول مسائل وقضايا تاريخية اعتادها الناس مسلمات وثوابت لا يُخاض فيها.
مِما يجعلنا اليوم نتساءل حول قيمة المذكرات الشخصية في كتابة تاريخ الجزائر؟ وهل يمكن التعويل عليها كثيرا كمصدر لكتابة تاريخ الثورة الجزائرية؟ إنّ ما عشناه وبالتفاصيل في مذكرات الرئيس علي كافي وما جاء في محتواها من مواقف والتي جرته للمحاكم، والتُهم المُتبادلة بين المجاهد ياسف سعدي وزهرة ظريف بيطاط بعد صدور مذكرات هذه الأخيرة، والضجة الكبيرة التي حصلت وبلغت مستوى كبيرا من العبث بالتاريخ وتشكيك الجزائريين في ماضيهم، وتغذية الخلاف من قِبل بعض الأطراف والوسائل الإعلامية لِما حدث بينها، وصمت الأسرة الثورية وانسحابها مِما يحدث أمر حيّر الكثيرين.
أمر يدفعنا وبجدية لضرورة أن نعيد وبنظرة تحليلية فاحصة قراءة المشهد قراءة متأنية وخلالها يمكن إصدار الحُكم حول نزاهة صاحب المذكرات من عدمه، لأنّ «المذكرات والسير ذات طابع ذاتي من الصعب على أي إنسان أن يتجرّد فيها من أهوائه وميوله وآرائه ورؤيته للحياة خلال تدوين تفاصيل الأحداث، التي كان طرفا فيها، فالمذكرات الشخصية ليست توثيقا غير منحاز لحوادث الماضي ولكنّها اعترافات وتبريرات واتهامات وتأملات شخصية وذاتية».
إنّ ما جاء فيها ليس كلّه بتاريخ أو حقيقة مطلقة ويقينية، بقدر ما أنّها تترك المهام للمؤرخ والأكاديمي للإحاطة الدقيقة بشخصية كاتبها وموقعه ودوره في الأحداث التي يتحدث عنها، وبالتالي معرفة مدى اطلاعه على تفاصيل تلك الأحداث، ومدى التزامه بالموضوعية والحياد في سرد الأحداث في مذكراته، فأحيانا أتساءل لماذا جاءت المذكرات الشخصية في هذا الوقت المتأخر، خاصة بعد رحيل الرعيل الأوّل الّذي صنع الثورة والاستقلال، والمُدرك حقيقة بخفايا وأسرار النضال والكفاح.
آن الأوان أن ندرك كجزائريين أنّ من قام بالثورة وقادها وعايشها هم «بشر» وليسوا ملائكة ولا منزهين عن الخطأ، ولا يمكن تغافل نزعة الإقصاء عند بعضهم تجاه الآخر، والتي كانت وراءها خلافات عميقة تعود إلى زمن الثورة التحريرية، فالتاريخ يُكتب بإيجابياته وسلبياته، بحلوه ومره، والعِبرة منه هي الاستفادة من أخطاء الماضي وتصحيحها، ثمّ أنّه يمكن اعتبار ما حصل بالظاهرة الطبيعية، لأنّنا لا نزال في خطواتنا الأولى نحو كتابة التاريخ الوطني الّذي لن يكتبه جيل واحد أو جيلين، فالكتابة العلمية للتاريخ والتي تتطلب التجرّد من الذاتية والأهواء مسألة لن تتحقق إلاّ بتعاقب أجيال من الباحثين والدارسين للتاريخ.

بن سالم الصالح/ باحث في التاريخ -جامعة الأمير عبد القادر قسنطينة
جل المذكرات والشهادات التاريخية أقرب لتصفية الحسابات أكثر منها مادة خبرية
لطالما كانت الثورة التحريرية مصدرا للفخر والاعتزاز لدى الجزائريين، ومحل إعجاب وإشادة لدى الأجانب، لكنّها أصبحت منذ العقدين الأخيرين محل تشكيك وإزعاج بل وأصبحت تشكل هاجسا كبيرا يؤرق الفرد الجزائري بصفة عامة ودارس التاريخ بصفة خاصة، وذلك بعد صدور العشرات من الشهادات والمذكرات الشخصية لصانعي أمجاد الثورة التحريرية. هذه الشهادات والشهادات المضادة لنفس الأحداث التاريخية لرفاق الأمس جعلت الفرد الجزائري مجبرا للاصطفاف وراء طرف على حساب الطرف الآخر، كما جعلت المؤرخ والباحث في ميدان التاريخ مهلهل الذات مترددا في اعتماد هذا النوع من الشهادات والمذكرات الشخصية كمصدر أو وثيقة رسمية في أبحاثه ودراساته الأكاديمية.
فتصريح المجاهد ياسف سعدي حول الشهيد محمّد العربي بن مهيدي أعاد فتح الجدل من جديد ، فبمجرّد تصريح مقتضب شرعت الأقلام والألسن في نعت وشتم الرجل بل وتخوينه وتذكيره بقضية علي لابوانت وحسيبة بن بوعلي، والمشكل أنّ العديد من هؤلاء لم يطلعوا أصلا على هذا التصريح الّذي حُرف عن معناه، وفُهم على أنّ الشهيد محمّد العربي بن مهيدي لم يطلق رصاصة واحدة في وجه فرنسا، والأصح أنّ ياسف سعدي والّذي عايش بن مهيدي وصاحبه لمدة طويلة قصد بكلامه أنّ بن مهيدي رحمه الله كان مُنظرا ورجلا سياسيا أكثر منه قائدا عسكريا.
ولا تعتبر قضية ياسف سعدي/العربي بن مهيدي هي الأولى والأخيرة، فقد سبقتها قضية أكبر أسالت حبرا كثيرا، ألاّ وهي قضية مؤتمر الصومام وعبان رمضان، فبينما نجد تصريحات ومذكرات أحمد محساس وأحمد بن بلة وعمار بن عودة تذهب في اتجاه تخوين الرجل واعتبار مؤتمر الصومام طعنة في ظهر الثورة ذهبت تصريحات ومذكرات وشهادات رفاق الرجل كبن يوسف بن خدة وسعد دحلب ولخضر بورقعة إلى اعتبار الرجل من المهندسين الحقيقيين للثورة، وأنّ مؤتمر الصومام جاء لتصحيح الانحرافات التي عرفتها الثورة منذ 1954م. من دون أن ننسى قضية استشهاد العقيد عميروش وسي الحواس، وقضية العقيد شعباني وغيرها من القضايا التي أسالت الحبر الكثير.
أمام هذا الكم الكبير من التصريحات والشهادات والمذكرات الشخصية لقادة الثورة التحريرية ما هو موقف المؤرخ؟ وكيف يتعامل الباحث في التاريخ مع هذه القضية الحساسة؟
أعتقد شخصيا أنّه حان الوقت للمؤرخ والدارس للتاريخ الوطني عامة وتاريخ الثورة بالخصوص الاعتماد على «عِلم الرجال» أو المعروف بمبدأ «الجرح والتعديل» الّذي استعان به المحدثون في تعاملهم مع الأحاديث النبوية بين الصحيحة والمزيفة منها، فطبيعة الإنسان وتأثره بمحيطه الّذي يعيش فيه سينعكس حتما على كتاباته وأحكامه على الآخرين، فيصبح أسير وحبيس عواطفه وميولاته الدينية والعرقية، فيسود لديه مبدأ التفريط والإفراط وبذلك تغيب الموضوعية والعدالة وتغيب معها الحقيقة، وبذلك إذا أراد المُؤرخ أن يعتمد على هذه المذكرات والشهادات كمصدر معرفي لأبحاثه عليه أن يقوم بتشريح نفسي واجتماعي وتاريخي لصاحب هذه الشهادة قبل اعتمادها، فعامل السن والتموقع السياسي والجهوي والديني يلعب دورا كبيرا في فهم مختلف الأحداث التاريخية التي تضمنتها هذه الشهادة أو المُذكرة، فالمُتمعن في جل المذكرات والشهادات التاريخية الخاصة بالثورة التحريرية سيدرك لا محالة بأنّها أقرب لتصفية حسابات أكثر منها مادة خبرية تزيل الغموض والإبهام عن بعض القضايا والأحداث التاريخية.

عبد الباسط شرقي/أكاديمي وباحث في التاريخ – جامعة الجزائر
هناك مشكلة خوف من التاريخ
إنّ الثورة الجزائرية لم تكن بثورة ملائكية وإنّما كانت ثورة بشرية، نعلم جميعا أنّ من أهم تداعياتها على النخبة الوطنية ما عُرف بحرب الزعامات التي كانت حتى أثناء الثورة قد بدأت تطفو على السطح، ولا أعتقد أنّ ما يدور من سِجال ونقاش في المشهد السياسي أو الإعلامي من تصريحات تنتقص من رموز الثورة أو من مذكراتهم وشهادتهم بمنأى عن تلك المؤثرات التاريخية التأسيسية.
ولا يخفى على الباحث المُتتبع لتاريخ ثورتنا المجيدة التأثير العميق لثلاث محطات، يمكن أن نرمز للمحطة الأولى بالصراع داخل حركة التحرّر الوطني، والخلافات التي قادت إلى ما سيعرف لاحقا بالصراع بين السياسيين والعسكريين والّذي سيطفو على السطح بعد تفجير الثورة في الفاتح من نوفمبر 1954. طبعا كانت هذه هي البداية لأنّها ستضع الأساس حول التفاضل بين الحل السياسي والعسكري. ويمكن أن نُرمز للمحطة الثانية بتاريخ انعقاد مؤتمر الصومام 1956، الّذي تمخض عنه ما عُرف بالصراع بين الداخل والخارج والعسكري والسياسي، فضلا عن صراع القادة العسكريين والسياسيين فيما بينهم وإن كان الهدف من هذا المؤتمر بالأساس هو وضع حد لتلك الخلافات. أمّا المحطة الثالثة والأخيرة، فيمكن أن نُشير إلى تداعيات الاستقلال والنقاش المهم الّذي كان يصُب في مسألة من يتوّفر على شرعية الثورة ومن لا يتوفر عليها، وهو نقاش من الأهمية بمكان لو نظرنا إليه بشيء من الإنصاف للجميع. كلّ هذه المحطات الثلاث تُلقي بظلالها على المشهد الراهن ولم تكن أبدا مُستحدثة أو وليدة اليوم.
وعلى كل، ما يمكن أن أضيفه إلى ما سبق ذكره، أنّ هناك مشكلة في عدم الجرأة على كتابة التاريخ الوطني، وهو ما أسميه بالخوف من التاريخ، وكان الأجدر هو الخوف على التاريخ وليس العكس، لقد بات أي قائد من قادة الثورة يكشف عن خلاف ما أو شيء من هذا القبيل إلاّ ويُنظر إليه العامي وحتى بعض المثقفين بنظرة من التقديس والعكس صحيح، وكان الأمر سيكون عاديا لو أنّنا كتبنا تاريخنا بكلّ صدق وموضوعية فمثل هذه الخلافات تحدث في أي بلد خاض معارك من أجل الاستقلال أو بناء الديمقراطية فلابدّ من أن تشمل كلّ هذه التناقضات الطبيعية لتُراكِم لنا شعبا مُتشبعا بقيم العِلم والديمقراطية، وبذلك نحسن فك الخلافات، فأتصوّر مثلا أنّ طفلا يقرأ بنظرة من التقديس حول مؤتمر الصومام في الكُتب المدرسية أو الجامعية ثمّ يسمع تصريح لأحمد بن بلة حين قال: مؤتمر الصومام لا حدث، فإنّه يُصاب بالتشكيك في كلّ ما قرأه وحفظه وتحصل عليه من معارف طيلة مرحلة التحصيل وهذا أمر في غاية الخطورة.

الحاج صادوق/ باحث أكاديمي وأستاذ التاريخ -جامعة الجزائر2
سرية العمل الثوري أشاعت ثقافة التكتّم والتشكيك يضرّ بالتاريخ
كان من المفترض أن تحظى الصراعات التي حدثت داخل الثورة الجزائرية (1954-1962) باهتمام كبير من قِبل المؤرخين الجزائريين، لأنّ ذلك كفيل بفهم الحركية الفكرية والسياسية والعسكرية داخل الثورة ذاتها، ولأنّ المؤرخ مطالب بأن ينظر إلى الأحداث التاريخية كحركية وديناميكية تتقدم إلى الأمام بفعل صراعات رئيسية وثانوية وأن يرفض النظرة الستاتيكية للتاريخ. وليس إطلاق تصريحات تُنقص من قيمة العمل الثوري الّذي قام به الشهداء والمجاهدون وكتابة المذكرات بشيء من الموضوعية.
تعتمد التنظيمات الثورية على السريّة في نشاطاتها، ولهذا من الصعب جدا أن يتخلص أعضاء هذه التنظيمات من هذه الطبيعة التي تصبح جزءًا منهم حتى بعد انتهاء الأعمال السرية التي كانوا يقومون بها، خاصة إذا كان العمل الثوري قد استمر لمدة طويلة، وبهذا السبب يمكن لنا تفسير صمت الكثير من المجاهدين خاصة الذين هم على عِلم بالكثير من القضايا التي اعتبرت من طابوهات الثورة، ومنها تلك الصراعات التي كانت تصل في بعض الأحيان إلى العنف الدموي، ونعتقد أنّ الكثير من المجاهدين لم يستوعبوا بعد، أنّ الظروف قد تغيرت بعد استرجاع الاستقلال، ولعلّ بعضهم لازال متأثرا أو تحت صدمة الإعدامات التي طالت بعض زملائهم بتهمة إفشاء سر من أسرار الثورة مهما كان بسيطا وما بالك بعدم التكتم التام حول الصراعات التي كانت تحدث داخل الثورة الجزائرية.
إنّ الثورة الجزائرية قد عرفت صراعات حادة مثل غيرها من الثورات والمجتمعات، لكن ما ميّز الجزائري عن كلّ هؤلاء هو الخوف من الحديث عنها أو حتى الإشارة إليها في بعض الأحيان سواء كان مثقفا أو من العامة أو مشاركا في صنع أحداث الثورة، ومنها الصراعات الداخلية التي عرفتها، وهذا الابتعاد عن الخوض فيها يعود إلى عوامل بعضها مرتبط بطبيعة ونفسية الإنسان الجزائري، أمّا البعض الآخر فيعود إلى طبيعة النظام الجزائري الّذي ساد بعد استرجاع الاستقلال، وقد لاحظنا أنّه كلّما ابتعد النظام عن طبيعته الأحادية كلّما تشجع البعض للحديث عن هذه الصراعات، ونعتقد أنّه يجب أن يفهم الجزائريون ومنهم المثقفون وعلى رأسهم المؤرخون أنّ الكتابة عن الصراعات التي عرفتها الثورة هي في الحقيقة ظاهرة صحية وليست مرضية، كما يريد أن يُفهمنا إياها البعض من الذين يخافون التاريخ، لأنّ الكتابة عن الصراعات لا تسمح لنا فقط بفهم ميكانيزمات سير المجتمع الجزائري، بل هي أيضا شرط أساسي في نظرنا لبناء مجتمع ديمقراطي يرى أنّ التناقضات أمر طبيعي في أي مجتمع، وأنّ الديمقراطية هي الحل الأمثل لتسيير هذه التناقضات ولحل مشكلة السلطة كي لا تتحوّل مختلف التناقضات إلى صراعات دموية بدل أن تكون عاملا ديناميكيا وإيجابيا في عملية بناء الدولة الوطنية والمجتمع الجزائري داخل الثورة.
إنّ ظهور مثل هذه التصريحات التي تمس رجالات الثورة الجزائرية، يعود إلى الانفتاح الّذي عرفته الجزائر حول ذاكرة الثورة التحريرية والحركة الوطنية في عهد الشاذلي بن جديد، وهو منعرج خطير، فمنذ الاستقلال اعتمدت السلطة على فكرة أنّ «الشعب هو البطل الوحيد للثورة، ولا يوجد شخص بعينه له الفضل في الاستقلال»، لكن بعد حدوث الانفتاح بدأت تظهر الميول الفردية والبطولات الفردية.
يجب على الذين يكتبون مذكراتهم أن يكشفوا بالدليل كلّ كذبة صدرت في مذكرات الآخرين، لأنّ عودة نظرية التشكيك في ولاء فلان وعلان للثورة بعد 55 سنة من الاستقلال يمثل خطورة على نفسية الآخرين وحتى على الوطن، فإن كانوا يملكون حقًا وثائق عن الآخرين، فإنّ هذه الوثائق يمكنها أن تُشكك حتى في نزاهة قادة الثورة فالكل معني، حتى أصبح كلّ مجاهد يقول عن الآخر إنّه لم يكن مخلصا للثورة، فمثل هذه التصريحات تضر بتاريخ الثورة الجزائرية في نظر الأجيال الحالية التي هي لم تعد مهتمة بالماضي، ما سيُدخل الشك في نفوسهم.

الرجوع إلى الأعلى