لن يكون منظر عساكر تركيا وهم يقتادون في وضع مهين لتقديم الحساب مجرد مؤشر على فشل انقلاب عسكري في هذا البلد، بل سيكون إعلانا عن نهاية حقبة تحكم فيها العسكر في مصائر شعوب وإعلانا عن سقوط نخب أسطرت الجيوش، أيضا.
وإذا كان ما حدث في مصر قد  أيقظ شهوات الحكم لدى نخب عسكرية في بلدان عربية، فإن ما حدث في تركيا سيطفئ هذه الشهوات ويسكت بعض الأصوات التي أصبحت تجد  الكلمات للدعوة إلى انقلاب عسكري في وسائل إعلام عربية (طبعة ما بعد الربيع الذي لم يكن ربيعا). هذه الأصوات حاولت أن تلعب نفس الأدوار التي لعبها مثقفون وإعلاميون في المراحل الأولى من البناء غير السليم للدول الوطنية، حيث روّجت خطابات مضلّلة لأنظمة استبدادية تم استنباتها في مواقع الاستعمار لتتحول إلى عبء يعيق تطور المجتمعات العربية ويحول دون دخولها في التاريخ الحديث. ومع اكتشاف هشاشة البناء تلجأ “نخب” إلى أرشيف الديكتاتوريات لتستخرج مقولات “بديعة” عن ضرورة تولي عسكريين قيادة الأمة لحساسية المرحلة  التي تتميز بتهديدات وتحرشات بالاستقلال الوطني أو لفشل الطبقة السياسية و محدوديتها.
و بالطبع ستظل المؤسسات والنخب العسكرية معصومة من الخطأ وغير قابلة للحساب أو المساءلة حتى في حال فشل سياسات الدفاع التي تسطرها و حتى عند ضياع الاستقلال. وقد تحول العسكر في هذه البلدان إلى نواة صلبة يُدار بها الحكم إلى درجة أنه أصبح مصدرا لإثارة الخوف وليس لإشاعة الأمان معززا البنية الأبوية لمجتمعات حُرمت من فضائل الحرية و التنمية و الرفاه، بحرمانها من الديمقراطية التي تتيح لها اختيار من يحكمها وتنحيته بطريقة سلمية لا ضرورة فيها  لسقوط مئات الآلاف من القتلى.
ولأن محاولات التحول نحو الديمقراطية لم تبتسم لغير الإسلاميين، فقد تم الإبقاء على دور حارس المعبد للعسكر في البلدان التي عرفت التجربة، حارس  تحول إلى سلطة ضبط للدول والمجتمعات.
و اللافت أن الجيش التركي أصبح في العقود الأخيرة  نموذجا  يشير إليه بافتتان ساسة ومثقفون عرب، على اعتبار أنه يحمي الديمقراطية ويحافظ على علمانية الدولة، حتى وإن كان العرب لا يحصون ديمقراطية تحتاج إلى حماية أو علمانية تُصان.
غير أن فشل الانقلاب في تركيا قدم نموذجا جديدا للعرب المعذبين، نموذج الشعب الذي يحافظ على اختياره، وقدم قصة مفادها  أن الديمقراطية ستحافظ على نفسها بنفسها إذا كانت “حقيقية”. 

سليم بوفنداسة

 
    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى