يقترحُ الشيخُ على الأحياء تدعيم أرصدة الموتى  عبر عملية «فليكسي» يتم بموجبها إرسال الحسنات، ويعطي أمثلة بمتواصلين معه نجحوا في العملية كرجل ابتنى مسجدا بجوار المقبرة التي يرقد فيها أقاربه ولم يتردّد الشيخ في تحديد إحداثيات مرور الحسنات من الجامع إلى الجبانة فوق الطريق التي تفصل بينهما. ويبدو الشيخ وهو يخاطب جمهوره عبر قناة تلفزيونية جزائرية خاصة متأثرا ب»كتاب الموتى» الشهير الذي يضع أمام الراحلين دليل العيش في العالم الآخر وكيفية كسب قلوب الآلهة تجنبا للأذى ومخادعتهم بالصلوات والأدعية، وزاد عليه المتغيرات التكنولوجية الطارئة التي لم يعرفها الفراعنة في عصرهم، كالشرائح الالكترونية التي أحدثت ثورة في حياة الإنسان.
ولكي يثبت الشيخ ذاته أنه رجل دنيا أيضا، يؤكد لمشاهديه أنه ينقل انشغالاتهم إلى المسؤولين ويؤكد لهم تسوية مشكلة تعبيد طريق في ضواحي العاصمة بعد اتصاله برئيس البلدية.
تكفي متابعة حصة من حصص الفتاوى التي تبث على التلفزيونات أو الإذاعات للوقوف على عدة ظواهر تستدعي الدراسة في المجتمع الجزائري، منها اللجوء إلى رجل الدين في شؤون بسيطة يقوم به راشدون وحتى شيوخ (نتمنى لهم طول العمر) تؤكد  أسئلتهم أنهم مروا إلى جانب الحياة، وكذا السلطة غير المرئية التي يتمتع بها رجال الدين في حياتنا والتي لم تنل منها مظاهر المدنية ولا التشريعات والقوانين سارية المفعول، حيث يفضل مواطنون تقديم الشكاوى إلى الشيوخ عوض الاحتكام إلى الجهات القضائية  أو طلب استشارات قانونية، ويتعلق الأمر هنا باستدعاء للقداسة، على اعتبار أن الشيخ وسيط موثوق بين الأرض والسماء.
وكثيرا ما يستغل «الوسطاء» هذه الثقة ويوسعون مجالاتها إلى قطاعات معقدة فيرتدون مآزر الأطباء مثلا ويشرعون في علاج أمراض مستعصية، والكثير من قصص القتل والاغتصاب في هذا المجال أصبحت شائعة بعد أن تداولتها الصحافة ذاتها التي مكّنت للشيوخ والرقاة في الأرض. ورغم الحوادث المروّعة المسجلة  ورغم تزايد عدد المتمدرسين  وعدد المدارس والجامعات، إلا أن موقع المذكورين أعلاه في المجتمع لم يتغيّر وهو ما يطرح أسئلة جدية عن مدى تمدننا ودخولنا في الحياة المعاصرة، خصوصا حين تنخرط مؤسسات هي في الأصل نتيجة انتساب إلى الحداثة في ممارسات بدائية من قبيل وساطة الشيخ في وقت كان عليها أن تستقبل شكاوى ومقترحات المواطنين الكترونيا، ولا حرج في ذلك، فما دام الشيخ أباح الاستفادة من التكنولوجيا في التواصل بين الأحياء والموتى، فإنه سيجيز بلا ريب استخدامها بين الذين لم يموتوا بعد.
سليم بوفنداسة

 
    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    • سوط

      تمنح ُ الحرب القذرة الدائرة الآن  الوجاهة للروايات التي تتحدّث عن حكومة خفيّة تقود العالم، وعن جماعات شيطانيّة تتحكّم في المصائر، وتؤكد أنّها لم تكن بالضرورة مجانبة للصواب، شأنها في ذلك شأن الخطابات التي تسفّه القيّم الغربيّة وتُسقط عنها...

    • عن الوحشيّة عموما وعن الغرب بالخصوص

      قد تبدو الكلماتُ تعيسةً أمام الأهوال التي تحدثُ، وقد يبدو كلّ موقفٍ لا يغيّر الحال مجرّد انفعال بلا أثر، أمام الجدران التي أقامتها وسائل الإعلام الغربيّة ووسائل إعلام عربيّة مُتصهينة، حاولت اختزال ما يحدثُ في ردّة  فعل على اعتداء لمنع...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى