تفترش المساء الكئيب وتمدّ يدا لا تنتظر شيئا من العابرين. هكذا انقلب الحال. تغيرت الوجوه. لا أحد يناديها باسمها القديم، لا أحد يمدّ يده.
  تناقص الأليفون واحدا واحدا، حتى أولئك الذين يعودون لتفقد ما تبقى من جدران المدينة القديمة وتشمّم دروبها لا يثير وجودها اهتمامهم.
 كل مساء تجلس "ريتمو" بجوار الفندق المهجور  وتمدّ يدها التي لا تنتظر شيئا من عابري "باب الوادى" قبل نزول الكآبة السوداء على المدينة، ويحدث أن تمسك بزبون قديم  مسترجعة شغبا ضمر بمرور السنوات فيعرض متنكرا للذكرى.
صعدت "ريتمو" من أطلال
«باب الجابية» إلى «لابريش»  حين تعدّدت أسباب الموت، وكانت تظهر كل مرّة بعد رواج أخبار عن ذبحها، مثيرة جلبة في المقاهي الخالية. لم تكن تكترث بأخبار موتها، ولا بالصخب الذي يثيره شبان تأبدوا في المكان، أكبرهم على ما يبدو بمعطفه البني ونظارتيه السميكتين عادة ما يكون أول القادمين، يطلب قهوة ثم يشرع في شربها مع كتاب يخرجه من جيبه ويرفعه إلى عينيه، وبعد حين يلتئم الجمع الذي قد ينضم إليه ضيوف من حملة الكتب. لم يكسر أيّ منهم جدار الصمّت بينها وبينهم، عدا أنها كانت تسمع اسمها منطوقا في تهديد بزيجة  يُلقى على كبيرهم الذي ينادونه “سارتر” والذي يرتفع صوته كلّما جاء تلميذه “إبليس”، الفتى المسكون بالمسرح المتحسّر على مآلات المدينة التي يبرهن كلّ مرّة على أن أجداده سكنوها قبل عشرة قرون، قبل أن يروي ما رصدته  عينه الخبيثة  من «تكتيكات» متبادلة بين التجار والنساء في «الرّصيفْ»، أو يجادل المعماري الذي وجد حلا لأزمة الاسمنت ببناء مدن طينية تأوي الجموع الشاردة.
  لم تهاجر «ريتمو» إلى مدينة أخرى كما فعلت كثيرات في تحايلهن على ما تبقى من حياة. اختفى شاربو الكتب من الساحة. تغيّرت الساحة نفسها: نبت فندقان عصريان ترتادهما الصغيرات الجميلات. اختفى الأليفون. فقدت «ريتمو» أسنانها. تراجعت أسباب الموت بعد اكتشاف القتلة مصادر أخرى للحياة. اختفى العمّال من المراقد الرخيصة. اختفى العمل. اختفت شركات وطنية. اختفت المساءات الطويلة. اختفى الليل. أضاع «سارتر» الطريق إلى سيدي بوعنابة. وحدها «ريتمو» ظلت صامدة تمدّ يدها لتلفت انتباه الغائبين.

سليم بوفنداسة

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    • سوط

      تمنح ُ الحرب القذرة الدائرة الآن  الوجاهة للروايات التي تتحدّث عن حكومة خفيّة تقود العالم، وعن جماعات شيطانيّة تتحكّم في المصائر، وتؤكد أنّها لم تكن بالضرورة مجانبة للصواب، شأنها في ذلك شأن الخطابات التي تسفّه القيّم الغربيّة وتُسقط عنها...

    • عن الوحشيّة عموما وعن الغرب بالخصوص

      قد تبدو الكلماتُ تعيسةً أمام الأهوال التي تحدثُ، وقد يبدو كلّ موقفٍ لا يغيّر الحال مجرّد انفعال بلا أثر، أمام الجدران التي أقامتها وسائل الإعلام الغربيّة ووسائل إعلام عربيّة مُتصهينة، حاولت اختزال ما يحدثُ في ردّة  فعل على اعتداء لمنع...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى