شرفات الجزائريين  فضاءات مصفحة لاحتواء  الخردة  
تتميز مدن كثيرة في العالم بشرفات منازلها الجميلة البارزة، التي تزينها النباتات و الزهور و تستغل عادة كفضاء للراحة و الاسترخاء، مطالعة الجرائد و شرب القهوة الصباحية، هذه الصور تختلف كثيرا عن واقع مدننا، أين تلغى الشرفات تماما أو تسيج بالحديد و تغلف بواجهات الألمنيوم، التي لا تفتح إلا لنشر الغسيل، أما فضاؤها الداخلي، فيستغل عادة كبديل للقبو أو السقيفة أين يحتفظ بالخردوات،و السبب، حسب مختصين، يرجع إلى جملة من الرواسب الاجتماعية و الثقافية التي خلفت عمرانا منفرا و شوهت الذوق العام.
نور الهدى طابي
إجراءات ردعية اصطدمت بواقع التنفيذ
الهدف الأساسي من تصميم الشرفات، هو تنفيس الفرد عن نفسه بعد العمل، لكنها في بلادنا أصبحت مكانا إضافيا أو مساحة لتوسيع الغرفة المجاورة لها، إذ يتم في أغلب الأحياء، إكمال بناء السور، لتوفير مكان ينام فيه فرد إضافي، و في سنوات الثمانينات أصدرت السلطات الجزائرية قرارا يمنع المواطنين من نشر الغسيل و المفروشات على شرفات المنازل و العمارات ، واعتبرت السلطات ذلك تشويها للمناظر و للعمران، وقادت حملة إعلامية كبيرة لحث الجزائريين على الحفاظ على الطابع الجمالي و تحويل الشرفات إلى مكان للورد و نباتات الزينة.
وفي سنة 2012 عادت لتشن حملة ضد المقعرات الهوائية، لكن المساعي  الرسمية في المرحلتين فشلت أمام غياب ثقافة الشرفة في مجتمع يعتبر هذا الفضاء مكانا لنشر الغسيل أو لوضع ‘’الخردة ‘’، حتى أن البعض ألغوه تماما من تصميم المنزل و ضموه إلى المطبخ أو إلى غرفة النوم،  في محاولة للتوسع خصوصا في ظل احتدام أزمة السكن.
الهاجس الأمني و ثقافة الاحتشام تعزل الشرفة
سألنا بعض الأشخاص عن طريقة استخدامهم للشرفة في منازلهم، فأكدت السيدة مسيكة من بلدية عين سمارة بقسنطينة، بأنها لا تستخدم الشرفة إلا لنشر الغسيل و الزرابي، و لا تفكر في تزيينها و استغلالها للاستجمام، لسببين، الأول هو أن زوجها يمنعها من الوقوف في الشرفة وهي بدورها ترفض الجلوس مطولا فيها لأن ذلك يعتبر « عيب» في مجتمعنا المحافظ، سواء تعلق الأمر بالمرأة أو الرجل، كما عبرت.
أما السبب الثاني فهو أنها تحيط الشرفة بسياج لا تفكر في إزالته، كونه يحمي المنزل، حسبها، فضلا عن ذلك، فإن المحيط الخارجي مليء بالأتربة و الأوساخ التي قد تتسرب إلى الداخل من الشرفة، لذا فهي تفضل غلقها.
مساحات ضائعة في نظر البعض و ظهر مكشوف بالنسبة لآخرين
نفس الأسباب تقريبا ذكرها جل من سألناهم، حتى أن كثيرين اعترفوا بأنهم ألغوا الشرفة تماما، و ضموا مساحتها إلى مساحة قاعة الاستقبال أو المطبخ، للحصول على فضاء أكبر، لأن شققهم ضيقة و صغيرة، مقارنة بعدد أفراد الأسرة، مؤكدين بأنها لا يمكن أن تستغل كما يفترض ، بسبب غياب الأمن ما يحتم تسييجها بشكل كلي، و أحيانا مضاعفة الحاجز بواجهة من الألمنيوم، لإعطاء  بعد جمالي و الحصول على خصوصية أكثر، فضلا عن قطع كل السبل أمام اللصوص.

مؤخرا انتشرت عبر الشرفات بقسنطينة سياجات متنوعة الأشكال و الألوان، تختلف عن النمط القديم الشائع، فاستفسرنا عددا من المواطنين حولها، فأخبرونا بأنها تنجز حسب الطلب، وفق تصاميم جميلة لتخدم هدفين، أولا حماية المنزل، و ثانيا إضفاء صورة جميلة على واجهة البيت، و عادة ما يختار لها اللون الأبيض مع إضافات باللون الذهبي، لتختلف قليلا عن السكنات الاجتماعية، مؤكدين بأن تزيينها بالورود ممكن، لكن في حدود وضع نبتة صغيرة  في الخارج لا أكثر، لأن فتح الشرفة يعني غياب الأمن.
أخصائي علم النفس الاجتماعي و التربوي
الجزائري لا يعتبر الشرفة جزءا من المنزل
يرى  عبد الحميد بوعرورة، أخصائي علم النفس الاجتماعي و التربوي، أن تصميم الشرفات يحتاج إلى دراسة متأنية، خصوصا بالنسبة لمساحتها وشكلها، وهو عنصر مفقود في مجتمعنا ، فالجزائريون يفضلون التفنن في الديكور الداخلي للمنزل، لكنهم يتوقفون عند الشرفة، لاقتناعهم بأنها إضافة ثانوية وليست جزءا من المنزل أين تمارس الحياة الخاصة، لذا يفضلون الإبقاء عليها كفضاء منعزل مغلق، لأسباب عديدة ، أبرزها خصوصية المجتمع المحافظ وكذا الجانبين الأمني و الثقافي، فأغلب آبائنا ، كما قال، ولدوا وترعرعوا في منازل مغلقة من الخارج مفتوحة من الداخل، تعرف ب» ديار عرب»، لا تزال نماذج منها موجودة في المدينة القديمة مثلا، بالإضافة إلى ذلك، فإن الأسرة عموما تعاني نوعا من الفوبيا الأمنية، سواء الخوف من العوامل الخارجية كالسرقات، أو الخوف على الأبناء و محاولة حمايتهم من السقوط و غير ذلك.
كل هذه العوامل مجتمعة، غيبت ثقافة الشرفة لدى الفرد الجزائري الذي يغفل دور هذا الركن من المنزل، في تخفيف الضغط و الشعور بالانتماء للحي و المحيط العام.
المهندس المعماري نبيل قحام
أزمة السكن حولت الشرفة إلى تفصيل ثانوي
يرجع المهندس المعماري رئيس مجلس أخلاقيات مهنة الهندسة سابقا نبيل قحام،  غياب نسق واضح ومناسب للشرفات في مدننا، سواء تعلق الأمر بالبنايات أو حتى الفيلات، إلى أسباب اجتماعية ـ  ثقافية، كما عبر،  أبرزها غياب هوية عمرانية هندسية محددة للبناء،على اعتبار أن أغلب سكان المدن حاليا، ذوي خلفية ريفية، و بالتالي فإن أسلوب العمران لديهم غير واضح، فنحن، كما أضاف، لا نتبع النسق الإسلامي الذي كان سائدا قبل الاستعمار و لا نملك خلفيات كتلك التي يعتمد عليها الأوروبيون، و بالتالي ينظر إلى الشرفة كتفصيل دخيل نوعا ما على بناياتنا التي كانت توجه الفضاء المفتوح نحو الداخل « وسط الدار»، لذلك فبداية الشرفات كانت مع بروز النمط الكولونيالي في العمران، و الذي لم يدمج بشكل لائق في ثقافة البناء لدى الجزائريين، الذين يميلون للاعتماد على بنائين، بدلا من مهندسين معماريين.
المختص أكد بأن الفرد الجزائري يقضي 8 ساعات فقط من أصل 24ساعة، بين العمل و المنزل، فبعد العودة من العمل يتوجه إلى  المطبخ أو غرفة المعيشة، لذا لا يوفر مساحات للاستجمام و الترويح في بيته، كما هو الحال في المشرق و أوروبا ، كما يوفر المساحة غير المستغلة للمعيشة و النوم، كمرآب أو مكان لجمع الخردة، ما يدفعه للبحث لاحقا عن بدائل بمجرد تغير نمط الحياة، كما هو الحال في رمضان مثلا ، فيلجأ للخروج بسبب غياب فضاء مفتوح ذي تهوية طبيعية داخل بيته.
أما بخصوص المساحة المخصصة للشرفة في البنايات الجزائرية عموما، فتقدر حسبه، بمتر و 20 سنتيمترا، تتقلص بسبب سمك الجدار الخارجي العازل، ليصبح عرض الشرفة متر واحد، عادة ما يترك له منفذ واحد بعلو متر تقريبا، هو عبارة عن باب صغير.
 وحتى بالنسبة للبناءات الفردية أو الفيلات، فإن بعضها لا يتوفر سوى على واجهتين أمامية و أخرى خلفية، لا تعطى فيها للشرفات أهمية كبيرة، بل تعد استكمالا للبناء وفقط، وهنا قد يكون السبب راجعا لأزمة السكن وتركيبة الأسرة و عدد أفرادها، ما جعل  الجزائري يميل لاستغلال أكبر قدر من المساحة المبنية في توفير فضاءات المعيشة كالغرف مثلا، بمعنى أنه يفضل التوسع داخليا وليس خارجيا، و نفس المبدأ، كما قال، يطبق على نماذج العمارات.
 المهندس انتقد أيضا استخدام مواد غير نبيلة في البناء و سوء توظيف الألمنيوم في غلق الشرفات، مشيرا إلى أننا مطالبون بتحسين أذواقنا و لما لا الاعتماد على زجاج حافظ للطاقة الشمسية، إن كنا مصرين على غلق الشرفات.
وهو نفس الطرح الذي أكدته المهندسة حنان بوالجدري، مضيفة بأن إهمال الشرفة يعود لسببين، الأول غياب الأمن و بالتالي الرغبة في غلق كل فضاء مفتوح على داخل المنزل، و الثاني هو طبيعة المنازل القديمة التي تعتمد على وسط الدار و التي رسخت ثقافة الخصوصية.
 كما أن أزمة السكن لعبت كذلك دورا في تقزيم أهمية الشرفة، إذ يفضل الجزائريون عادة توفير مساحة أكبر للعيش أو النوم، بدلا من تركها  فارغة، مشيرة إلى أن هناك نوعا من الانفتاح على نمط معماري جديد، مستمد من نموذج « وسط الدار»، لكن بأسلوب عصري بدأ يطبق في ورقلة، حتى في العمارات، قد يحسن النظرة الاجتماعية للشرفة في حال عمم استخدامه.     
ن.ط

الرجوع إلى الأعلى