الحياة في العمارة..  فوضى وخلافات لا تنتهي
تطغى الخلافات اليومية حول النظافة والصيانة وتسيير الأجزاء المشتركة على يوميات سكان العمارات، الذين يشكو معظمهم من مشاكل سوء الجوار وعدم القدرة على التكيف، وهو وضع يشترك فيه سكان  التجمعات ذات الطابع الاجتماعي  مع المقيمين في الأحياء الراقية، ما يؤكد أن الظاهرة لا علاقة لها بالحالة المادية للساكن،  إنما هي نتاج إختلالات في العيش الجماعي يفسرها أخصائيو علم الاجتماع بظهور سلوكيات جديدة وبتأثيرات العنف الحضري وما خلفه من هوة بين الجيران.
النصر قامت بجولة استطلاعية بوسط مدينة قسنطينة و مختلف المناطق الواقعة بأحياء عديدة، و تحدثت إلى الجيران من مختلف الشرائح العمرية، فاستخلصت بأن الحياة داخل العمارات مرادفة للضوضاء والمناوشات  وتبادل التهم بالتقصير وعدم التحضر، بعيدا عن البحث عن نقاط إلتقاء تعيد نسج العلاقات بين الجيران.
تسربات المياه .. جحيم يومي
وجهتنا الأولى كانت المدينة الجديدة علي منجلي، فكانت الفوضى تعم أرجاءها و معالم العمارات غير واضحة، إذ وجدنا صعوبة في تحديد الباب الرئيسي للعمارات، نظرا لكثرة المحلات و استغلال الأرصفة في نشاطات تجارية فوضوية أو لركن السيارات، و قد قال لنا الشيخ محمد الشريف و هو في 70 من عمره يقطن بسكن اجتماعي بالوحدة الجوارية 8 ، بأنه منذ أن تم ترحيله سنة 2002 لم ينعم بالراحة و السكينة، بسبب مشاكل مع الجار الذي يقطن في الطابق الأعلى، بسبب تسربات المياه المتكررة عبر أسقف غرفة الاستقبال و المطبخ و الحمام، حيث طلب منه عديد المرات أن يصلح قنوات الصرف و أرضية منزله و تقاسم أعباء الأشغال ، إلا أنه رفض، موضحا بأنه رغم الضغط النفسي الذي سببه له ، إلا أنه يرفض مخاصمته ،كما لا يسمح لأبنائه الشباب بالتحدث إليه تجنبا لوقوع جريمة، ما يضطره للقيام كل عام بتهيئة الأسقف و طلاء الجدران، مضيفا بأنه يرغب حاليا في العودة إلى بيت يملكه بمنطقة قرارم قوقة بولاية ميلة و الذي اضطر لإخلائه في العشرية السوداء، و شراء بيت قصديري في سيدي مسيد، فتم نقله إلى هذه الشقة، لكنه لم يعد يطيق حياة العمارات و يود أن ينعم بالهدوء ما تبقى له من العمر في مسقط رأسه.
توجهنا بعد ذلك إلى عمارات ذات صيغة الترقوي العمومي، أين كانت الصورة مغايرة لما سبق، حيث بدا نمط الحياة مختلفا تماما، يطبعه الرفاهية و الهدوء،  إذ يشعر المار بالمكان بأنه في حي راق، سكانه متحضرون ، ما دفعنا لمحاولة الدخول إلى النسيج العمراني الذي كان محاطا بجدار مرتفع تتوسطه بوابة كبيرة يقف خلفها حارسان، غير أننا لم نتمكن من الدخول لأننا لسنا من السكان و لا من أقاربهم، ما اضطرنا إلى انتظار أحد السكان لتسهيل المهمة، فالتقينا بالدكتورة أمينة، طبيبة بإحدى المؤسسات  الاستشفائية ،  و بمجرد أن سألناها عن طبيعة النمط المعيشي و مدى تضامن السكان في ما بينهم، ردت باستياء « أنا حقيقة كرهت، أريد الرحيل من هذه العمارة سأبحث عن منزل آخر، لم أعد أطيق العيش هنا، لأن الجيران ليسوا متحضرين، يفتقرون لثقافة الجوار و احترام الآخر، يرفضون دفع مستحقات تصليح المصعد و عاملة التنظيف، بحجة أنهم اقتنوا المنزل بأموالهم الخاصة و ليسوا ملزمين بكل هذه الأعباء، كما أن جل أصحاب الشقق يقومون باستئجارها، ما يجعل من هب و دب يقطن بها».
الأحياء الترقوية لا تخلو من الضوضاء
انتقلنا إلى عمارات السكن الاجتماعي بحي زويتة ببلدية حامة بوزيان، للإطلاع على نمط العيش هناك، باعتبارها بنايات قديمة و قاطنوها قضوا سنوات فيها، لاحظنا أن مداخل العمارات و السلالم نظيفة نوعا ما و معالم البنايات واضحة، ما يظهر بأن هناك انسجام بين قاطنيها، فتحدثنا إلى السيدة فضيلة المقيمة  بالطابق ما قبل الأخير في العمارة، فقالت بأنها اقتنت الشقة منذ  11 سنة تقريبا،و لم تواجه مشاكل في البداية مع الجيران، لكن بعد قدوم جارة جديدة تقطن في الطابق الأعلى بدأت معاناتها، حيث تخرج كل صباح بحكم أنها موظفة، و تترك الحنفيات مفتوحة كما تقوم بنشر الغسيل و الزرابي فوق النوافذ، دون أن تعلمها بذلك بحكم أن أغراضها منشورة، ما اضطرها إلى عدم فتح النوافذ و تثبيت حبل في رواق بيتها لنشر الغسيل، و أضاف ابنها قائلا بأن ثقافة احترام الجار منعدمة لدى الشباب، اذ يسهرون في مداخل العمارات و تحت الشرفات، و يتحدثون بصوت عال مستعملين الكلام القبيح، إلا أن لا أحد يحتج تجنبا للمشاكل .
في حين قالت زهيرة و هي تقطن بعمارة في حي أول نوفمبر بذات البلدية ، بأنها و منذ حصولها على سكن هناك في ثمانينيات القرن الماضي لم تواجه مشاكل مع الجيران، الذين يعتبرون من السكان الأصليين للعمارة، حيث يتضامنون في ما بينهم في تنظيف السلالم و إصلاح الأعطاب المختلفة و وضع الكتامة... إلخ. كما أنهم يساعدون بعضهم في المناسبات، حيث يسير العمارة شيخ طاعن في السن ، و هو المسؤول عن تهيئة العمارة و تنظيفها بالتعاون مع الرجال، كما يعتبر بمثابة أب لكل نساء العمارة، إذ يتدخل لفك النزاع بينهن و بين أزواجهن ، كما يحرس الأبناء في حال غياب الأولياء.
نمط العيش في عمارات وسط المدينة لا يختلف كثيرا عما سبق التطرق إليه، فسكانها يعانون من الإزعاجات و الضوضاء نظرا لفوضى ركن السيارات و كذا عيادات الأطباء و المحامين التي تعج بها مختلف العمارات السكنية، بالإضافة إلى كون جل القاطنين بها ليسوا من أبناء وسط المدينة ، و إنما حضروا من ولايات مجاورة و لم يتكيفوا بعد مع حياتهم هناك، حسبما أفادتنا به سارة القاطنة بعمارة بحي الكدية، حيث أشارت إلى أن جل الجيران القدامى انتقلوا إلى بنايات فردية في مناطق مجاورة ، ما جعل نمط الحياة يتغير تماما بالحي، و أصبح كل جار منطويا على نفسه.
المختص في علم الاجتماع البروفيسور محمد طايبي
ظهور عادات غير معهودة أفقد الثقة بين الجيران
البروفيسور محمد  طايبي، مختص في علم الاجتماع، أرجع سبب تغير النمط الاجتماعي داخل الأنسجة العمرانية، إلى تغير ساكنيها باستمرار، حيث لا تنسج علاقة تواصل و تكافل بسهولة، خاصة في الأحياء الجديدة، لأن التعايش فيها يكون صعبا،عكس الأحياء القديمة التي يكون في الغالب ساكنوها من أبناء الحي القدامى، كما أن العنف الحضاري جعل الهوة بين الناس أعمق، و ظهور عادات و سلوكيات غير معهودة في المجتمع الجزائري، كالسرقة و الاعتداء على بنات الجيران، خلق حالة انعدام الثقة في ما بينهم، كما أصبحت الحياة ريفية مدنية و ليست مدنية خالصة، ما تسبب في خلق عالم هجين. و هذه الهجانة، حسبه،  خلقت بسبب الاختلاط ، أي اختلاط الشرائح الاجتماعية، مضيفا بأن مجتمع اليوم غير مكرس و سلطة الحي غائبة، على خلاف ما كان سابقا و ذلك لغياب كبار الحي، و بالتالي انطوى الجيران على أنفسهم و أصبح يسكنهم الخوف و الظنون. كما أن التراتبية الاجتماعية تلاشت و أصبح الصغار لا يحترمون الكبار، و تفكك السلم الاجتماعي و سادت الفوضى في العلاقات الأسرية و الاجتماعية، ما أدى إلى غياب مظاهر التمدن عن حياة معظم سكان العمارات.
أسماء بوقرن

الرجوع إلى الأعلى