الحياة والموت يلتقيان في العين البيضاء  
العين البيضاء.. اسم تجمع سكني يقع جنوب غرب وهران، كان له علاقة بالبياض خلال القرون الماضية، لتوفره على مادة الحجر المسامي المعروف ب»التيف» و لونه أبيض، لكن لم يبق من البياض سوى بعض الأماكن التي لا تزال توفر مادة «التيف»، بينما باقي المنطقة يبدو أن سواد القصدير الذي يلفها و انعدام التنمية، قد جعلاها تجمع بين مواطنين أحياء وسط محيط ميت و موتى يسكنون القبور.
هوارية ب
الحمام الشعبي وسوق باتيور..فضاءات لبعث الحياة
المتوجه نحو حي العين البيضاء بعد تجاوز المقبرة، يشعر وكأنه يغادر المدينة نحو منطقة نائية، حيث يجد بقايا بعض الأراضي الفلاحية ومشتلة تحاول زرع الحياة عند مدخل الحي، و على امتداد النظر تطالعه سكنات تتشابك في ما بينها بشكل فوضوي عمرانيا، فتتلاصق المنازل بشكل لا يترك مجالا لبعث الأمل في وجود حركية ما، سواء تجارية أو ترفيهية أو غيرها، ماعدا بعض المحلات التي تتناثر هنا وهناك، في محاولة لتوفير متطلبات العيش اليومي، أو سوق بسيطة تتباعد طاولاتها فوق أرصفة عشوائية تتراص فوقها القمامة.
تجولنا في الحي وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف النهار، أحسسنا كأن أنفاس السكان انقطعت عن استنشاق الهواء من شدة الصمت الذي يخيم عبر الشوارع الضيقة، لم نجد نساء سوى اللائي تتوجهن إلى الحمام الشعبي أو المغادرات له، تفاجأنا بتجمعهن أمام أحد البيوت وهن يسألن عن سيدة تبين لنا بعد ذلك أنها من أبرز حلاقات الحي و تعمل داخل بيتها.
واصلنا السير لنجد بابا كتب عليه «حلاقة وتجميل»، ربما هذه الأماكن شبه السرية هي متنفس لسيدات الحي و فتياته، ربما هي فضاءات للتلاقي لربط العلاقات بهدف الخطوبة و الزواج مثلا.  وأثناء تجوالنا في الحي وجدنا شبابا في سوق «باتيور» ، وهو أحد الأسواق التي أنشئت منذ سنوات لمحاربة التجارة الفوضوية، لكن لم ينجح المسؤولون في تحقيق ذلك، فظل الباعة فوق الأرصفة وظلت السوق مغلقة، إلى أن فتحها بعض الشباب وتكفلوا بإصلاح ما فسد منها، كونها من نوع البناء الجاهز اعتقدنا أنهم يريدون شغلها لبيع بعض السلع، لكن تفاجأنا عندما أجابنا هؤلاء بأنهم يحضرون المكان ليكون قاعة رياضية لجمع شباب الحي، و تكون متنفسا لهم، عوض جلسات الشوارع و بعض المقاهي، فشباب الحي لا يستفيدون من أي نشاط ترفيهي، أو رياضي لانعدام المرافق.
«البياري» و الدرك أعادوا الأمان للسكان
حديثنا مع بعض أهالي الحي كان مقتضبا، لأن سكان العين البيضاء لا يطالبون سوى بالتنمية و إعادة الحياة، وسبب اكتفائهم بهذا النوع من الردود، هو استفادة الحي قبل سنة من مقر للفرقة المتنقلة للشرطة القضائية ومركز للشرطة لدعم مركز الدرك الوطني، هذه الهياكل الأمنية ساهمت، حسبهم، في عودتهم إلى الحياة، يقول أحد السكان «لم نكن نجرأ على المشي بشكل عادي في الحي بسبب الاعتداءات والسرقات» وتضيف سيدة أخرى « لم أكن أجرؤ على الذهاب إلى مركز البريد لسحب راتبي، كان يلزمني مرافق، لأن مجموعة شباب كانوا يترصدون لنا عند باب المركز». كانت الحياة مرعبة نهارا وميتة ليلا، اليوم تنفس سكان الحي الصعداء، وهم يأملون في المزيد من المرافق لبعث الحياة.
قصور و قصدير في انتظار «عدل»
العين البيضاء تنقسم حاليا إلى ثلاثة نماذج عمرانية تشكل نسيجها وتحضن قاطنيها وتبحث عن انبعاث للحياة، جزء يشكل فيلات فخمة تشبه القصور في عمرانها، متراصة متنفسها تلك المحلات التي أغلبها فخمة أيضا والمنتشرة في الجهة المطلة على الطريق الإجتنابي الرابع الفاصل بين مدينة وهران وبداية حي العين البيضاء، وأخرى مطلة على طريق المقبرة، والجزء الثاني من السكنات متراصة كذلك ومنتشرة بشكل يبدو دائريا، منها المكتملة البنيان ومنها التي تبحث عن هندسة معينة لإتمامها، سكانها أناس بسطاء ، أغلبهم فروا من ويلات الإرهاب خلال العشرية السوداء، و لجأو لهذا المكان وعمروه ببنايات عشوائية التموقع، لم يتم تسوية اعوجاجها العمراني لحد اليوم، أما الجزء الثالث فهو ذاك الذي يلف الحي ويطوقه وكأنه يضاعف اختناقه المميت، إنه القصدير الذي بدوره يجمع النازحين من ولايات أخرى، و يرافقهم السكن تحت الصفيح رعايا أفارقة، وجدوا في الصفيح ملجأ لهم بسبب انخفاض أسعار الكراء، مثلما أوضحت لنا إحدى الرعايا. كوكتيل عمراني يعانق العمران العصري بالتقليدي بالقصديري في حلقة تتوسطها المقبرة التي تذكر الجميع بأنه لا فرق بينهم، عندما يصلون إليها لتطمئن «المغبونين» بأن الاستمتاع بالحياة هو فرصة يجب عدم  تضييعها قبل السكن في القبور.
ورغم هذا الوضع المتباين، إلا أن الأمل في ترقية الحياة وبعثها من جديد، سيكون بعد تسليم أكثر من 2000 سكن من صيغة البيع بالإيجار «عدل» ، وهي السكنات التي تشرف على انتهائها، معلنة توسعة جديدة للحي تربطه ببلدية السانيا و تقربه من بلدية مسرغين، وانبعاث الحياة في العين البيضاء، سيكون بعد اكتمال المرافق التي ستدعم سكنات عدل من مركز بريد و وكالات تجارية لمؤسسة المياه وشركة الكهرباء و كذا مرافق الترفيه للشباب والأطفال.
المقبرة ..دليل الحي وقلبه النابض
بمجرد سماع كلمة العين البيضاء بوهران، يتبادر إلى ذهنك اسم المقبرة الرئيسية للمدينة، لكن ما أن تطأ قدماك التجمع السكني المحاذي للمقبرة، تشعر وكأن «هنا تنتهي الحياة»، فالحي نموذج لانعدام الحياة  لدى سكان الأحياء مثل سكان القبور.
رغم بعده عن مدينة وهران ببضعة كيلومترات فقط، إلا أن أغلبية الوهرانيين يعرفون المكان من خلال المقبرة الرئيسية لوهران التي تعج بآلاف الزائرين يوم الجمعة، إنها مقبرة العين البيضاء التي أنشأتها القايدة حليمة، وهي من النساء البارزات في تاريخ وهران، حيث تبرعت بمساحة تفوق 130 هكتارا من أملاكها لتجعلها مقبرة للمسلمين الذين لم يجدوا خلال ثلاثينيات القرن الماضي ، مكانا لدفن موتاهم، ومنذ ذلك الحين و إلى غاية اليوم لا تزال مقبرة، و قد افتتحها المستعمر بعد تسوية وضعيتها القانونية سنة 1956، بينما شهدت مؤخرا ضم أكثر من 14 هكتارا لتوسيعها وهذا بعد ترحيل سكان البيوت القصديرية المحاذية لها في المكان المسمى «الفيراج»، أين يوجد مكان الوادي القديم المسمى، حسب بعض الباحثين، «واد الهايج»، أين كان ابن سيدي الهواري يصول ويجول و يمارس بعض السلوكات العدوانية وكان يلقب ب «الهايج»، فسمي المكان باسمه.
خلال العشرية السوداء نزحت هناك عشرات العائلات التي اتخذت البيوت القصديرية مأوى لها، قريبا من سكان القبور الذين هم موتى ولكن يبعثون الحياة في الحي في كل يوم جمعة، حين يقصد مئات المواطنين المقبرة للترحم على موتاهم، ليجد بعض سكان العين البيضاء الفرصة سانحة لممارسة أنواع من التجارة البسيطة على حواف مداخل المقبرة، ومنهم من يعرض خدمات خاصة للذين يريدون دفن موتاهم، وهكذا يبعث الأموات الحياة في الحي.

الرجوع إلى الأعلى