"طيطومة".. متوفية على الأوراق تعيش في قسنطينة منذ 60 سنة
في بيت صغير و هش آيل للسقوط بحي باردو بقسنطينة، يفتقر لأدنى متطلبات العيش الكريم، تقطن السيدة « طيطومة» و هي عجوز مقعدة و وحيدة ، ليس لها أي دخل أو معيل ، شاءت الأقدار أن تترعرع في كنف خالها و زوجته اللذين لم يرزقا بأبناء، لكنها بقيت وحيدة بعد أن خطفتهما يد المنية، فتقدم بها العمر و أنهكت جسدها النحيف مختلف الأمراض، من بينها ارتفاع ضغط الدم و مرض ألزهايمر، وزاد من متاعبها أنها لا تحوز على أي وثيقة تثبت هويتها، حتى أن عائلتها الحقيقية تظل غير معروفة، و تؤكد جاراتها اللائي تطوعن للتكفل بها، بأنهن اكتشفن بأنها قيّدت في عداد الأموات في سجلات الحالة المدنية.

 و هو الأمر الذي حققت فيه النصر و تأكدت من صحته، فعقب مغادرتنا لبيتها، انتقلنا لإحدى المندوبيات البلدية بقسنطينة، أين تمكننا من الإطلاع على شهادة ميلاد طيطومة و اسمها الحقيقي دليلة نغموشي ، البالغة من العمر 69 عاما في الواقع، و المقيدة على الورق «ميتة» و عمرها  لا يتجاوز 9 أشهر.
النصر زارت “ طاطا طيطومة”، كما يحلو لجاراتها مناداتها، بعد أن اتصلنا بسميرة التي تتكفل بإطعامها و تنظيفها، بمعية جارتيها زهور و شهرة.

وجدنا سميرة في انتظارنا في مدخل الحي و رافقتنا إلى بيت طيطومة الصغير

 و القديم الذي تقيم فيه بمفردها، و هو يطل على درب السياح و يكاد ينهار، بسبب الانزلاقات الناجمة على الأشغال الجارية أسفل جسر سيدي راشد.


مريضة و مقعدة تعيش في كوخ مهجور  آيل للسقوط

صعدنا سلالم متشققة قبل أن تقوم مرافقتنا بفتح باب بيت “ طيطومة” الحديدي المغلق من الخارج، بواسطة قفل و سلسلة حديدية ، كان المنزل في حالة مزرية و مغطى بصفائح الترنيت، اعتقدنا لأول وهلة بأنه شاغر و مهجور، فباب الغرفة لا يفصله عن المنحدر المطل على درب السياح سوى رواق ضيق و جدار جزء منه إسمنتي آيل للسقوط ، كما أن أرضية و جدران الغرفة متشققة و في وضعية كارثية، هناك توجد عجوز ممددة على سريرها و مغطاة بوشاح صوفي، تتأمل أرجاء الغرفة التي تقضي معظم وقتها بها.
و عندما لاحظت وجودنا صوبت نحونا نظرات استغراب، ثم تحدثت إلى مرافقتنا سميرة، غير أننا لم نتمكن من فهم ما قالته، لأنها تتحدث بصعوبة كبيرة، و شرحت لنا سميرة بأنها تريد أن تشرب الماء، و تقلبها على الجانب الثاني من جسدها،  حاولنا أن نتحدث إليها، فتعذر علينا ذلك لأنها تتلعثم و تتلفظ بكلمات غير مفهومة، نظرا لوضعيتها الصحية الصعبة، لكننا و رغم كل شيء، تمكننا من فهم بعض ما رددته من جمل مثل “ لقد حاولوا الدخول إلى هنا ليلا” ، و “يوم الجمعة المقبل سنرحل إلى المدينة الجديدة”.
بهذا الشأن قالت السيدة سميرة، بأن ما يؤرقها كثيرا هي و جاراتها عملية ترحيلهن المبرمجة في شهر جوان القادم إلى المدينة الجديدة علي منجلي بالوحدة الجوارية 20، حيث أن طيطومة  ليست معنية بذلك، لهذا توجه نداء من خلال النصر إلى السلطات المحلية من أجل ترحيلها معهن ، فبمنحها هي أيضا سكنا فرديا، يلتزمن بمواصلة التكفل التام بكافة احتياجاتها، كما يفعلن الآن بدافع الحب و الإنسانية و التضامن، و أضافت محدثتنا بأنهن حاولن عدة مرات إقناع هذه العجوز المريضة و الوحيدة التي ليس لديها أي معيل، بالإقامة مع إحداهن في شقتها الجديدة بعد الترحيل،إلا أنها ترفض ذلك بشكل قاطع.
و أكدت لنا الجارات الثلاث بأنه من المستحيل أن تقيم طيطومة في دار المسنين، نظرا لتصرفاتها و سلوكاتها الغريبة و العنيفة في كثير من الأحيان، حيث سبق و أن تدخلت بعض الجهات و نقلتها إلى دار العجزة و المسنين، إلا أنها لم تستطع البقاء هناك، و أعيدت مرة أخرى إلى كوخها، حيث اتصل بهن مسؤولو الدار و أخبروهن بأنها لا تكف عن مناداتهن ، ما جعلهن يسعين لإعادتها إلى الوسط الذي تعودت على العيش فيه.

سميرة ، شهرة و زهور ... أنجبهن الزمن لـ”طيطومة”

الجميل في حكاية “طيطومة” أن لها ثلاث بنات و كأن الزمن أنجبهن خصيصا لها، هن  سميرة و شهرة في العقد الرابع و زهور في العقد السابع من العمر،  متزوجات و لهن أبناء و يعتبرن هذه العجوز فردا من أفراد أسرهن، حيث يسهرن على تنظيفها و إطعامها و نقلها إلى الأطباء على حسابهن الخاص، فهي لا تملك أي دخل أو معيل أو وثيقة تثبت هويتها، و  قالت إحداهن بأنها ذهبت إلى البلدية في وقت سابق، و  كانت لديها آنذاك نسخة من بطاقة التعريف الوطنية الخاصة بها لاستخراج شهادة ميلادها، فقيل لها بأن المدعوة دليلة نغموشي مقيدة على أساس أنها متوفية، وتساءلن كيف يمكنهن أن يفعلن في حالة وفاتها فعلا.
و بالرغم من أنها وحيدة و أهلها غير معروفين، إلا أنها تحظى بالتكفل الكامل من قبل جاراتها، حيث يضعن برنامجا خاصا لذلك، إذ تتكفل السيدة زهور و هي امرأة مسنة  بتحضير وجبة الفطور لها في الصباح، فيما تتكفل شهرة و سميرة بتحضير وجبتي الغذاء و العشاء لها، بشكل يومي، كما أنهن يتعاونن لتنظيفها حوالي 4 مرات في الأسبوع، بحكم أنها مقعدة و لا تسطيع القيام بذلك بمفردها، كما أنها تعاني من اضطرابات ذهنية و تقوم بسلوكات غير طبيعية، حيث أنها ترفض السماح لهن بتنظيف جسمها، و التنظيف المستمر لغرفتها و فراشها و ملابسها، و قد لاحظنا في زيارتنا المفاجئة بأن البيت نظيف، بفضل جاراتها اللائي يتناوبن على إطعامها و تنظيفها و كذا تنظيف بيتها الصغير جدا.

جارات طيطومة يطلبن المساعدة

سميرة زهور و شهرة باعتبارهن كافلات العجوز طيطومة يوجهن نداء للسلطات المحلية من أجل تسوية وثائق هويتها و توفير سكن لائق لها، ليتم ترحيلها معهن في جوان المقبل و لا يتركنها وحيدة في قبضة مصير مجهول ، كما يناشدن السلطات و المحسنين تزويدهن بحفاظات و كذا ألبسة لطيطومة، حتى و إن كانت قديمة، و كذا قفازات و كمامات واقية ، بالإضافة إلى مواد التنظيف، لأن ظروفهن الاجتماعية قاسية جدا و لا يستطعن توفير كافة احتياجاتها.
المتحدثات شددن بأن وضع طيطومة  الصحي حرج و معقد، إذ تعاني من ألزهايمر و ارتفاع ضغط الدم، و سبق و أن أجرت عمليتين جراحيتين على ساقيها، لكنها لا تخضع للمتابعة الطبية عند مختصين و لا تتناول أي دواء،  إلا في حالة تعرضها لمضاعفات صحية، عندئذ تنقلها جاراتها بإمكاناتهن الخاصة إلى الطبيب و يشترين لها الأدوية، كما يتكفلن بتسديد فواتير الكهرباء، حتى لا تبقى في الظلام.
و قد أشرن من جهة أخرى بأن طيطومة، بالرغم من ظروفها الاجتماعية الصعبة و معاناتها من الفقر المدقع، كانت قبل سنوات، نموذجا للمرأة “الفحلة” و الطيبة و الكريمة المعطاء التي تؤثر الغير على نفسها في كل شيء، لكن المرض ألزمها الفراش، فوجدت قلوبا رحيمة تحتضنها و تساعدها و تحفظ كرامتها و إنسانيتها، و تتمنى أن تواصل ذلك إلى آخر رمق.
النصر و بعد أن علمت من جارات “طيطومة” ــ في إطار نقل حالتها الاجتماعية ــ بأنها مقيدة في السجل الوطني للحالة المدنية بأنها متوفية، انتقلت لإحدى المندوبيات البلدية بولاية قسنطينة، و حققت في الموضوع ، حيث تبين بعد تحرير اسمها الحقيقي و هو دليلة نغموشي في السجل الوطني، بأنها متوفية يوم 14 سبتمبر 1948 بعنابة، دون تحديد رقم شهادة الوفاة ولا الشخص الذي صرح بذلك.
 و جاء في شهادة ميلاد دليلة نغموشي التي تحمل رقم 00322 ،بأنها ولدت يوم 12 فيفري 1948، على الساعة الرابعة صباحا بولاية عنابة، و هي ابنة السيد عمار بن سعيد و السيدة الزهرة بنت رابح،  و حاولنا الإطلاع على شهادة الوفاة غير أن ذات المصالح لم تتمكن من العثور عليها إلكترونيا، و تبقى القضية تطرح عديد التساؤلات حول القصة الحقيقية لهذه العجوز الميتة على الأوراق ،و الحية على أرض الواقع.
تحقيق أسماء بوقرن

الرجوع إلى الأعلى