عنـدما تحشـر الحيـاة في زاويــة مظلـمـة..  
عندما يتسلل الظلام  وتهدأ الحركة في عاصمة جيجل، يرى المار في شوارع المدينة، أشخاصا دون مأوى يختارون الأركان و الزوايا الأقل صخبا و الأكثر دفئا، من أجل الخلود  بعض الوقت للنوم و الراحة، تراهم هادئين و مسالمين، لكن إذا  أزعجتهم، لن تسلم من صراخهم، صراخ فقدان الأمل في العيش الكريم.
واقع مؤلم دفع أفراد الأمن الوطني بجيجل، إلى تنظيم خرجة ميدانية للتكفل بهذه الفئة المحرومة من دفء البيت و العائلة، بالتنسيق مع مصالح النشاط الاجتماعي، و الهلال الأحمر الجزائري، و بحضور الحماية المدنية، و قد رافقت النصر الفرقة المتعددة الاختصاصات في مهمتها الإنسانية .
نقطة اللقاء في تمام الساعة الثامنة و النصف ليلا أمام مقر مديرية النشاط الاجتماعي، فوجدنا أربع سيارات إسعاف في انتظارنا، انطلقنا نحو محطة المسافرين الشرقية، لأنها تستقطب عادة الأشخاص دون مأوى ، و لدى وصولنا، بدأ أفراد الفرقة يبحثون عن أشخاص يشتبه بأنهم دون مأوى.

محمد .. معاناة ترفض البوح بأسرارها
كانت الانطلاقة  موفقة، حيث لمح الحضور  شخصا يحمل عكازات، و يبدو في ملامحه التعب الشديد و الإرهاق، تقدمنا إليه، و شرع ضابط الشرطة في التحدث معه، فأخبره بأن اسمه محمد من ولاية تيارت، و حاول أن يقدم روايات بدت غير واقعية حول حياته و أسباب تواجده هناك، قائلا» أنا هنا و غدا سأسافر، إني أنتظر وصول الأموال».
و لدى تحدث ممثل مديرية النشاط معه، قدم رواية أخرى، « للأسف قاموا بتجميد راتبي، و لن أستطيع السفر»، و بعد أخذ و رد، اطمأن محمد لأفراد الفرقة، و لمح بأنه يعاني من عدة مشاكل، و طلب منه حارس بالمحطة أن يتحدث بصراحة،  مؤكدا  « بعد اليوم لن أستطيع أن أساعدك بشيء، لقد أتت الفرقة لتقديم يد المساعدة لك، و يجب أن تخبرهم بكل شيء».
طلب منه أعضاء الفرقة التوجه معهم إلى دار المسنين بالعوانة، و عدم البقاء في الشارع البارد و القاسي، لكن محمد رفض ، فبذلوا قصارى جهدهم لإقناعه، و بعد تردد طويل وافق ، و قدمت له وجبة ساخنة في عين المكان، ثم نقل إلى  سيارة الإسعاف، و قد تبين لاحقا بأن محمد يبلغ من العمر 38 سنة، حاولنا الحديث معه عن الظروف التي جعلته يبيت في العراء، لكنه رفض الحديث.
وحيدة تعاني من اضطرابات نفسية
بعد ذلك توجهنا إلى محطة المسافرين الغربية، فلم نجد بالمكان، ما يوحي بوجود أشخاص يبيتون في العراء، أكملنا السير، و توجهنا إلى باب السور، فوجدنا امرأة جالسة هناك، فأخبرنا ضابط الشرطة، بأن المعنية، تدعى وحيدة، و تعاني من اضطرابات نفسية، و ذكر بأنهم يحاولون في كل خرجة ميدانية إقناعها بمرافقتهم لكن دون جدوى، نزلنا من السيارة، و توجه إليها أفراد الفرقة، حاولوا إقناعها لكنها ظلت صامتة، فقدموا لها وجبة عشاء ساخنة.
الوجهة التالية هي الحديقة المجاورة للمستشفى الجامعي ، و شرعت الفرقة في البحث عن كهل اسمه صالح من بلدية أولاد يحي خدروش الجبلية، تعود أن يفترش أرضية الحديقة للمبيت.
بعد دقائق وجدناه في ركن بالحديقة ، و لدى اقتربنا منه، قام بتحية الحاضرين، و كان حديثه يوحي بأنه يعي ما يقوله، و  رفض هو أيضا الذهاب إلى مركز الإيواء، و قال بأنه سيرحل عن المكان، و شرع في سرد قصص لم نفهم معناها، توحي بحجم الألم الذي بداخله، و كان يردد عبارة « أين كنت، و أين أصبحت»، ويبدو من خلال حديثه مع أفراد المجموعة بأنه يعرفهم جيدا، وسبق أن تحدث إليهم ، و قد أكد ذلك ممثلو النشاط الاجتماعي و الهلال الأحمر، مشيرين إلى أنه سبق و أن وعدهم بأن يرحل و يرجع إلى حياته العادية، و بعد تقديم وجبة العشاء له، تنقلنا للبحث عن حالة أخرى.

يامينة تفترش الكارطون
كانت الوجهة التالية  عدة أماكن أخرى، كان يستغلها عادة الأشخاص دون مأوى للمبيت، فلم نجدهم ، فتوجهنا إلى شارع الأمير عبد القادر، أين وجدنا الأم يامينة، و قد افترشت «الكارطون» للمبيت في زاوية إحدى البيوت، دون غطاء، و قد نال منها البرد.
تقدم منها أفراد الفرقة، فرحبت بهم، و قالت بأنها تنتظر موعد الطبيب ليوم الغد، و بعد ذلك ستعود إلى منزلها، المتواجد خارج مدينة جيجل، فقاطعها أحد الحاضرين، وأخبرها بأنه تعود على رواياتها الخيالية، فأخبرته مباشرة بأنها ترفض التوجه إلى دار المسنين، و قد سبق و أن أخذوها إليها، لكنها غادرتها.
و أخبرتنا بأنها أم لعدة أبناء ، دون أن تقدم تفاصيل أخرى ، فقدم لها أحد أفراد الهلال الأحمر الجزائري غطاء، ثم قدم لها شرطي وجبة عشاء و تركتها الفرقة هناك ، لتتوجه إلى مكان آخر على بعد أمتار، فأخبرنا مواطنون بأن فتاة تفترش زاوية إحدى المحلات، لكننا لم نجدها.
واصلنا عملية البحث عن الأشخاص دون مأوى، فلاحظنا بأن قصصهم تختلف من شخص إلى آخر، و كذا أسباب  تواجدهم في الشارع، فهناك شباب قالوا بأنهم لم يجدوا دعما وتكفلا عائليا وهناك كهول قست عليهم ظروف الحياة ولم يجدوا سندا  اجتماعيا  ففضلوا العيش في الأركان الدافئة نسبيا بشوارع المدينة ليلا ، ويرفضون التوجه إلى مراكز الإيواء، بالرغم من برودة  الطقس في موسم الشتاء.، لكننا لم نستطع تحديد  الأسباب الحقيقية .
جل الحالات مصابة بأمراض عقلية
و أوضح ضابط الشرطة بأن هذه الخرجة تدخل في إطار المبادرات الجوارية و الإنسانية للمديرية العامة للأمن الوطني،بالتنسيق مع مديرية النشاط الاجتماعي، الحماية المدنية
و الهلال الأحمر الجزائري بولاية جيجل، من أجل التكفل بالأشخاص دون مأوى، و تأتي هذه الخرجات الميدانية في ظل مساعي المديرية العامة للأمن الوطني، الرامية إلى التكفل و التضامن مع مختلف شرائح المجتمع لاسيما الفئات الهشة و الأشخاص بدون مأوى و التي من شأنها التخفيف من معاناتهم ،خاصة في ظل الاضطرابات الجوية التي ميزت الولاية في المدة الأخيرة.
و أضاف بأن هذه العمليات تتواصل بصفة دورية للتكفل بكل الحالات الجديدة التي يتم تسجيلها، و ذكر ممثلو النشاط الاجتماعي و الهلال الأحمر، من جهتهم فذكروا بأن جل الحالات المسجلة بالولاية، تتطلب تدخلا من قبل مصالح مديرية الصحة، بسبب وضعيتها المتأزمة،  فجل الأشخاص الذين قاموا بإحصائهم يعانون من أمراض عقلية، مما يستدعي نقلهم و التكفل بهم في المصحات العقلية، أما الأشخاص الطبيعيين و الذين يقبلون التكفل بهم، فيتم  نقلهم إلى مراكز الإيواء المخصصة لذلك من طرف الدولة.                                  
 كـ / طويل

الرجوع إلى الأعلى