تجارة الأحشاء بحي الجزارين مهدّدة بالزوال
هدأت به الحركة، و لم تعد تسمع فيه أصوات القصابين وهم يروّجون لبضاعتهم التي كانت تجد إقبالا كبيرا من طرف العائلات المحدودة الدخل و الغنية على حد سواء، فكل فئة كانت تتجه إلى محلات القصابة المناسبة لنمط غذائها و ميزانيتها، الأولى تقتني الأمعاء و الرئة و المعدة أو رؤوس الأغنام و الثانية  القلب والكبد والطحال لتزين موائدها، فسوق أحشاء الغنم و الأبقار بحي الجزارين وسط مدينة قسنطينة، كان ملتقى كل شرائح سكانها، لكنه أصبح اليوم من بين معالمها المهددة بالزوال.

السوق اختفى منه كذلك رجال ذوو بنية قوية و عضلات مفتولة كانوا يرددون بأعلى أصواتهم «بالك الدّم يوسخك « و العرق يتصبب من جبينهم، وعجلات العربات الصغيرة الوحيدة العجلة «البرويطة» التي يجرونها و تفيض بما كدسوا فيها من أحشاء، كانت تحدث لدى احتكاكها بأرضية السوق المرصوفة بحجارة زرقاء مصقولة، رمز عراقة المدينة، صوتا خاصا يختلط بأصوات القصابين و الباعة و الزبائن الذين كثيرا ما كانوا يدخلون في نزاعات مع هؤلاء الجارين للعربات الوحيدة العجلة، حين تحتك سلعهم المحتقنة بالماء والدماء بأقدام رواد السوق، فتلطخ ألبستهم. عندئذ كانت ترتفع الأصوات ثم تهدأ، بعد أن يعتذر من يجرون العربات المنهكين، انطلاقا من حي ططاش بلقاسم، «الشارع» الذي كان يسكنه يهود قسنطينة قديما، أين كانت تركن الشاحنات القادمة من المذابح التي تزود السوق بمختلف الأحشاء، فشوارع المدينة القديمة لا يسمح ضيقها وكثرة محلاتها بولوج الشاحنات، ومن بينها سوق الجزارين.  كل ذلك اختفى، ولم يعد لهذه السمفونية التي تعزف مع كل صباح إلى غاية ما قبل الظهر، أثرا، فالسوق الذي قصدته مؤخرا النصر مع الساعات الأولى للصباح، فترة أوج الحركة التجارية به في أيام عزه ، لم تعد تسمع فيه إلا أصوات خافتة، لمن بقى فيه من تجاره القليلين، وهم يتبادلون أطراف الحديث حول فريقي المولودية و الشباب وحركة اللاعبين، في ظل  غياب كلي لزبائنه.  بهذا الخصوص قال لنا القصاب ب.أ ، الذي رفض ذكر اسمه كاملا، «السوق  أغلقت معظم محلاته و الحركة التجارية به أصبحت جد محدودة ونحن فقط  نحاول أن نكسب قوت يومنا، بدل الاستسلام للبطالة، و متى سنحت الفرصة، سوف نغادر المكان إلى آخر لتحسين دخل أسرنا» المتحدث توقف عن الكلام، وأشار بيده بأسف إلى المحلات المغلقة.  القصاب ف. عمر،  تجاوز السبعين من العمر، قال لنا بأنه يعتبر نفسه الجيل الثالث في هذا المحل، في العصر الذهبي لسوق الأحشاء الذي لن  يعود ،بعد عملية الترحيل الواسعة التي مست سكان وسط المدينة القديمة، وكذا الأحياء الهشة في الفوبور،  حي الأمير عبد القادر من أرض طنوجي، إلى مختلف أحياء المحاجر، الذين كانوا الزبائن الأساسيين للسوق، وهم من الفئة المحدودة الدخل التي كثيرا ما تقبل على اقتناء  «السقط« أي الأحشاء، لإعداد وجبات تقليدية دسمة لأسرها. و أضاف المتحدث متحسرا »هذا السوق كان في أيام عزه ، تنفد الكميات الهائلة من السلع التي تعرض فيه قبل منتصف النهار، واليوم كما ترى نعرض كمية محدودة  من أمعاء الخرفان، و من المحتمل أنني لن أتمكن من تسويقها، جراء التراجع الكبير للزبائن ، يبدو أن السوق رحلت بدورها مع زبائنها إلى المدينة الجديدة علي منجلي،  فكرت في اللحاق بهم، لكن إمكاناتي حالت دون ذلك».
 و تابع قائلا «إن ارتفاع أسعار الكراء ساهم في توجه السوق نحو الانقراض، وقد بدأت تجارة الذهب تزحف إلى بعض أرجائه».
و أشار إلى أن بعض زملائه غيروا نشاطهم بعد أن أصبح كسبهم اليومي لا يغطي مصروفهم. ولاحظنا بأن بعض الناشطين في الجزارين تأقلموا مع الوضع، وتحولوا إلى صناعة النقانق، لتزويد محلات الشواء والوجبات السريعة التي تضاعف عددها في المدينة، وهم من الشباب الذين يتسمون بروح المبادرة و التحدي، عكس كبار السن الذين تعودوا على تجارة الأحشاء منذ الصغر و لا يعرفون ولا يجيدون غيرها من المهن.  في ظل هذا الوضع، يتجه أكبر سوق للبروتين الرخيص المأخوذ من اللحوم الحمراء نحو الانقراض، ومن المنتظر أن يتحول يوما ما ، إلى اسم على غير مسمى، على غرار سوق الغزل وسوق الزرع وسوق الشبرلة وغيرها من الأسواق التي كانت تعج بها عاصمة الشرق، ولم يبق منها إلا الأسماء، بعد أن تغيّرت نشاطاتها.
ص/ رضوان

الرجوع إلى الأعلى