صالح باي و زواوي الحنصالي..إلتقاء ذاكرتين بزاوية سيدي محمد لغراب
بأعالي منطقة الغراب الواقعة على بعد 8 كلم شمال غرب قسنطينة، تقف إحدى إقامات صالح باي، المشيّدة في القرن 18 و التي تخضع منذ فترة إلى أشغال الترميم لإعادة الاعتبار إلى مكان تاريخي، ظل لزمن طويل محجا للكثير من العائلات القسنطينية،التي تعوّدت على زيارة ضريح أحد أشهر الأولياء الصالحين بالمنطقة :محمد لغراب الذي حيكت حوله الكثير من الأساطير.
الوصول إلى المكان يتطلب عبور طريق تملؤه المنعرجات بالإضافة إلى المنحدرات المطلة على وادي الرمال، قبل أن تقابلك بناية قديمة لا يختلف نمطها المعماري كثيرا عن تلك الموجودة بالمدينة العتيقة، يحيط بها سور خارجي، به باب صغير، يطل على فناءواسع، بنيت على شماله شقة، يعيش بها حارس المكان أو  “الشاوش”، و هي شقة صغيرة مر عليها عدد من المقيمين  الذين كرّسوا حياتهم لحراسة و حماية زاوية سيدي محمد لغراب التي تحوي ضريح هذا الولي الذي اختلفت  الآراء، بخصوص هويته الحقيقية،رغم حمل المكان لنفس الإسم منذ أكثر من أربعة قرون، حيث أكدت المؤرخة فاطمة الزهراء قشي وجود ضريح الولي قبل امتلاك الباي صالح، البناية ضمن مجموعة كبيرة من الأراضي بالمنطقة التي جعل بها أحد أهم إقاماته المخصصة للراحة.
و قد عايشت عائلات الشاوش على مر السنين مختلف الطقوس التي كانت تمارس خلال الولائم و «الوعدات» المعروفة بشرق البلاد باسم “النشرة”باعتبار الإقامة تحوي ضريح الولي سيدي محمد لغراب، الواقع بمدخل الإقامة في زاوية خاصة بمحاذاة بيت “الشاوش”، حظيت باهتمام الأوفياء لدرجة التقديس و التبرّك، أين كانت الكثير من العائلات تزور المكان و تظل به طيلة أسابيع، بحثا عن الراحة و الشفاء.

قصة محمد لغراب محفورة في ذاكرة صالح باي

و لعل، ما يثير انتباه الزائر و هو يلج الفناء الثاني الذي يفصل بينه و بين الأول سور يبدو أعلى من سابقه، تلك الأكوام من الأحجار و الصخور المرّتبة بطريقة متميّزة جعلتها أشبه بمجسمات أضرحة ملكية قديمة، عرفنا من إحدى القاطنات، بأن المشرفين على مشروع ترميم البناية التاريخية، حرصوا على إعادة استغلال الصخور المسترجعة من المكان الذي كان مهددا بالسقوط، في عملية الترميم التي انطلقت منذ فترة، قبل أن تتوّقف من جديد، بسبب عوائق سجلتها لجنة الصفقات العمومية، ليبقى الفضاء أشبه بموقع للآثار النوميدية و الرومانية، لتنوّع أشكال القطع الصخرية المسترجعة وكذا الأعمدة ، خاصة بالغرفتين الرئيسيتين اللتين كان يستغلهما الزوار للصلاة و المبيت أيضا، حيث  لا تزال آثار محراب تقف شاهدا على استغلال المكان كمصلى.
مرافقتنا سردت بأن الكثير من العائلات المعروفة بالمدينة، كانت تقضي عطلتها بالمكان و منها من تمضي عدة أسابيع في سيدي محمد لغراب، في أجواء تطبعها الألفة و التضامن بين الزوار، حيث كان يتم تقسيم الغرفتين باستعمال قطع قماش كبيرة للفصل بين أفراد كل عائلة، لأجل النوم سواء في فترة القيلولة أو الليل، فيتحوّل المكان حسب وصف محدثتنا إلى شبه خيام كبيرة، تخفي حميمية كل عائلة تحضر بدافع التبرّك بالمكان و الاستجمام في آن واحد، حيث تقضي النساء وقتهن  في تجاذب أطراف الحديث بإحدى زوايا المكان الشاسع، سواء بمقعد صالح باي أو بالأفنية أو بوسط الفناء الرئيسي الذي يتم فرشه بالزرابي الجميلة و الأفرشة التقليدية، كما في حفلات الأعراس، و تتزيّن النساء بأجمل ما لديهن من أزياء و حلي، يوم “النشرة” التي تنشطها فرقا تقليدية يتم اختيارها حسب اللون و الطابع الذي تميل إليه كل عائلة، فمنهم من يفضل إحياء و ممارسة طقوسه على وقع الوصفان، و منهم من يختار وقع لخوان أو عيساوة و منهم من يكتفي بفرقة البنوتات أو الفقيرات لإثارة المرح و الفرجة.

«البورمة» سر بركات لغراب تغرق في الأوساخ

بالجهة اليمنى لثاني باحة رئيسية بالمبنى العتيق، يقع أغرب مسبح للاستحمام بقسنطينة، لما روي و نسج حوله من قصص تثير الدهشة، و التعجب، كتضاعف نسبة مياهه، بمجرّد نحر الثيران أو العتاريس أو الديكة أو أي شيء يتم تقديمه كقربان خلال «النشرة»و ما يرافقها من طقوس الرقص و المسح بدم الحيوان المنحور قبل الدخول إلى البورمة و السباحة في مياهها دون خشية ظلمة المكان الأشبه بدهليز، قبل إضاءته بنور الشموع الموضوعة بزواياه الأربعة.  غير أن المسبح الذي كانت له مكانة خاصة، لدى الكثير من العائلات القسنطينية، يشهد اليوم حالة من التسيّب، تطفو فوق مياهه الأوساخ، فبات أشبه ببركة ماء، تسبح فيها بعض الاسماك الصغيرة التي تظهر من حين إلى آخر، كلما مرت أشعة الشمس من المنفذين الصغيرين اللذين تم غلقهما بشباكين حديدين، بعد حادثة غرق ابن الشاوش السابق، منذ سنوات.

نخلة في وضعية ركوع، تستعيد شكلها الأول كلما قطعت

من أغرب ما نسمعه من قصص، و بركات زاوية الغراب، إحدى الإقامات المفضلة لصالح باي بن مصطفى، هي تلك النخلة المائلة باتجاه القبلة و التي يقال أن أحد أفراد عائلة بن جلول المالكة للمكان، حاول قطعها مرارا، لكنه كان يفشل في كل مرة، حيث كانت تستعيد شكلها الأول، كلما تركها ليكمل عملية القطع في اليوم الموالي، الشيء الذي جعله، يتراجع عن قراره و جعل لها فتحة خاصة، لا تمنع نموها و انتشارها خارج الجدار الذي بناه للفصل بين بنايتين تابعة لنفس العائلة.
و قالت مرافقتنا بأن لا أحد تجرأ على الاقترب من تلك النخلة أو حاول قطعها بعد رؤية شكلها و الوضعية المثيرة للدهشة التي تتواجد عليها هذه الشجرة.
و عن سر هوية سيدي محمد لغراب، تقول الروايات بأنه أحد شيوخ زاوية “الشطابة” كان يدعى محمد الزواوي الحنصالي، وكان على خلاف دائم مع صالح باي بايلك الشرق آنذاك، و بسبب مواقفه المناوئة للباي، أصدر هذا الأخير  قرارا بقطع رأسه بعد أن احتدم الخلاف بينهما و شعور الباي بخطر الزوايا  على حكمه.
لكن من الأساطير الأكثر تداولا بالمنطقة عن محمد لغراب، هو أن هذا الأخير، دعا على الباي و تمنى قطع رأسه أمام الملأ، قبل أن يتم تطبيق حكم الإعدام في حقه، حيث يقال أنه تحوّل إلى غراب و حط بإحدى إقامات الباي و بساتينه،كنذير شؤم، مما زرع الرعب في نفس صالح باي الذي أسرع إلى بناء ضريح له بالمكان المعروف اليوم باسم ضريح”سيدي لغراب”، غيرأن الباحثة و المؤرخة فاطمة الزهراء قشي، أكدت بأن الضريح كان موجودا قبل عهود من استلاء الباي على تلك البساتين و الأراضي بمنطقة كانت تعرف بالغراب قبل تولي الباي صالح للحكم.
و ولد صالح باي بن مصطفى سنة 1725 بمدينة أزمير، و جاء  إلى الجزائر و عمره لم يتجاوز السادسة عشر سنة، أين التحق بالجيش الإنكشاري، و ارتقى إلى مراتب مهمة بعد إثارته إعجاب و فخر مسؤوليه، بفضل شجاعته و قوته، قبل تنصيبه بايا على قسنطينة سنة 1771م حسب بعض المراجع التاريخية، غير أن ذكاءه و فطنته كانت مصدر خوف الداي حسين باشا الذي أمر بقتله شنقا بقصبة قسنطينة في أوائل سنة 1792 م ، واضعا بذلك نهاية لمغامرة باي استمر بمنصبه طيلة22سنة.
و كان الباي الذي تزوج من ابنة أحمد القلي الباي الذي سبقه على رأس بايلك قسنطينة بين سنتي 1756-1771 ومنحه فرصة الارتقاء إلى أعلى المناصب، يفضل قضاء أوقات فراغه بالريف، و يحب كثيرا منطقة الغراب، التي ملك فيها الكثير من البساتين و الأراضي و البيوت.
مريم/ب

الرجوع إلى الأعلى