«الفقيرات» فن نسوي يستمد روحه من الطرق الصوفية
قالت مّا عتيقة آخر فقيرات أسرة الشيخ بابا عبيد قارة بغلي الفنية، في لقاء جمعنا بها مؤخرا، بعد انتظار دام أكثر من شهرين، أن سنها(تشرف على 90سنة) و مرضها لم يعودا يسمحان لها بالحديث طويلا، فاكتفينا بحديث قصير عن الصحة والمرض، في بيتها بحي سيدي جليس وسط المدينة العتيقة، قبل أن تفوّض ابنها الفنان الأستاذ باجين بالحديث معنا بدلا عنها، باعتباره يعرف كل شيء عن مسارها الفني، و سر شعبة فن الفقيرات، أحد مكونات فن النغمة الاندلسية في عاصمة الشرق قسنطينة الذي يتكون إضافة إلى ذلك من نغمتي المالوف و البنوتات، المنتميين بدورهما إلى مدرسة اشبيليا.
محدثنا الذي اختار ميدان الكورات الحديدية في باب القنطرة، مكانا للحديث معه عن مسار فن والدته، قال بأن فن الفقيرات مستمد من الطرق الصوفية السبعة التي تنتشر في قسنطينة، ولكنها طريقة موجهة للفئة النسوية في فضائها الخاص و في المناسبات السارة، لكون المجتمع القسنطيني مجتمع محافظ و لم يكن يسمح بالاختلاط، إضافة إلى أن كل ما تردده نسوة الفرقة، عبارة عن مديح وثناء على سيد الخلق، وكذا ثناء على الأولياء الصالحين.
و أوضح بأن فرقة الفقيرات عموما، تتكون من خمس نسوة وتعتمد على إيقاع الطار و البندير، حيث تسند مهمة العزف على الطار إلى رئيسة الفرقة على طريقة الخوان، أين يكون عازف الطار نفسه قائد الجوق في إلقاء القصائد، وكن يحيين حفلاتهن في أجواء نسوية محضة، مع شروط عديدة تخص اللباس و حسن انتقاء الأغاني كلمة و أداء و ذلك مقابل أجر مادي محترم ومعقول.

الفقيرات متصوفات

و يظهر التصوّف في حفلات الفقيرات في نهجهن طريقة «المبيتات» ، في تنشيط أفراح أصحاب المناسبات، أين تبدأ السهرة بالكلمة النظيفة و اعتماد الصوت الجميل، عند قراءة الفاتحة و أوراد فيها الصلاة على النبي وثناء عليه بطابع ديني طرقي محض، حيث يحرّم عليهن المحجوز أو الغزل، فكان لباسهن قندورة بالكمام تزينها حميلة (حزام حول الخصر)، و شبيكة تغطي الرأس.
و كان الفن محرّم على العواتق والشابات،  و هو ما حدث مع مّا عتيقة التي ولدت سنة 1926، حيث لم يسمح لها بالغناء وانشاء فرقة إلاّ سنة 1968.
 و من القصائد التي تصدح بها الفقيرات بعد فتح الجلسة بالفاتحة والدعاء و الأوراد.
يا شفيع الخلق يوم الزحام يـــا بن عبد الله
طاش عقلي ليك يا خير الأنام يا رسول الله
وفي آخر السهرة ومع طلوع الفجر يرددن:
هذا النجوم ضوات في الأفلاك تبات توقـد
على ضي الشمعات صلى الله على محمد
محدثنا أضاف أن الفقيرات يحظين في قسنطينة، بالمكانة الكبيرة و التبجيل وهذا تقديرا لهذا الفن، الذي تمتد جذوره إلى مئات السنين، حيث كن يحظين بإفراد جلسات خاصة بهن، وسط حريم العائلات ويتبوأن أحسن مجلس وشرب وطعام وهدايا، حسب ما أخبرته به والدته مّا عتيقة آخر «رايسات» فقيرات عائلة قارة بغلي الكرغلية بقسنطينة.
و تأسف باجين لعدم حظو هذا التراث بالتسجيل في إذاعة ولا تلفزة ، كما لم يقم باحث مهتم بذاكرة المدينة الثقافية بتسجيله، مؤكدا بأن الفقيرت ليس فنا فحسب بل طقوس وطريقة يغلب عليها الطابع الديني الذي يميز شخصية سكان قسنطينة المحافظين، فأغانيهم مدائح بعيدة عن الزجول والمحجوز، على طريقة لخوان وعيساوة والرحمانية فهي طريقة صوفية نسوية، تتكون من خمسة أعضاء في فرقة مّا عتيقة الرايسة التي تزرع، فيما تعتبر البقية "خمّاسة "، على طريقة بوخالفة في الزجول.
و لا يقتصر عمل الفقيرات على تنشيط الأعراس في المدينة فحسب، يقول باجين بل يتعداه إلى إحياء الوعدة و الزردة والنشرة وعلى رأسها زيارة ضريح سيدي محمد الغراب  التي تكون في مثل هذه الأيام من الربيع، أين ينتقل سكان المدينة إلى ضريح الولي الصالــــح بواسطة الخيل والبغال و الكاليش قبل ظهور السيارة، في مواكب يكون أولها في الغراب وآخرها في المدينة، لإقامة وعدة الولي الصالح، وذلك بمساهمة من أعيان قسنطينة الذين يحضّرون لهذا الموسم بجمع الأموال وتحضير الأطعمة بما ينحرونه من مواش للمناسبة.
و قد توارث الأبناء هذه العادة عن الأجداد و مارسوها طيلة عهود، مع الحرص على إحيائها في وقتها، وذلك بإطعام الفقراء والمساكين أين تحضر الأطعمة في «القازانات»، وهي آنية من نحاس يحضر فيها الوجبات بكميات كبيرة فــــي مختلف المناسبات، التي من بينها وعدتي  سيدي محمد الغراب ، وسيدي سليمان ، اللتين تدومان عدة أيام يحيي خلالها  الرجال سهرات خاصة بهم بتكوين فرق رجالية، بينما تحيي الفقيرات جلسات النساء في المساحة المخصصة لهن في أجواء أنثوية صافية ، فهذا الموسم يعتبر بالنسبة للقسنطيين نوعا من السياحة والترفيه بين أحضان الطبيعة في أجواء ريفية، بعد ليالي الشتاء الطويلة، ونظرا للعدد الكبير للزوار، أين  يتم إطعامهم جماعيا في آنية كبيرة، كما تكون ذات المناسبة إيذانا بانطلاق موسم الأفراح في المدينة، بعد تحسن الأجواء المناخية التي تبدأ في الاتجاه نحو الدفء والحرارة ، لتكون العودة من ذات الزردة دليلا على الدخول في مرحلة أخرى من الحياة داخل المدينة.

موهبة بالتوارث  و مهددة بالإندثار

وعن بداياتها الفنية قال باجين أنها تعود إلى تقاليد العائلة التي توارثت الفن أبا عن جد، مع أم بابا عبيد نفسه المعروفة بالرايسة، لكونها كانت تقود جوق يسمى "بجوق الكحلة"  نسبة للون بشرتها الذي يميل إلى السمرة، ولما توفيت في أربعينيات القرن الماضي، أخذت المشعل، زوجة أخو بابا عبيد و اسمه محمد، وهي من عائلة بن معيزة و اسمها "مّا رماكي" حوالي سنة 1966 ، وبعد وفاتها هي الأخرى، عادت رئاسة فقيرات العائلة إلى "مّا فاطمة"  أخت بابا عبيد قارة بغلي ذات الأصول التركية وكانت معها "مّا عتيقة" التي ترعرعت في ذات الأجواء الفنية، و نهلت الطريقة من عمتها، وبعد أن وافى الأجل العمة، تولت عتيقة مهمتها سنة 1968، فأخذ الجوق اسم "جوق مّا عتيقة"  وكان والدها قد توفي سنة 1956 وهذا بإذن من زوجها الذي لم تكن له علاقة بالفن وهو من عائلة  "رقيق" من أبناء الرفاك.
ويذكر أن والدها في حياته كان يسمح لها بالعمل مع أمه الرايسة أين أخذت الطريقة سمعا وأجادت الأداء والحفظ ، ولم يسمح لها داخل العائلة بالعمل وتكوين فرقة إلا وقد بلغت من العمر عتيا، على طريقة القدماء ، لتعتزل بتقدم السن في عام 2000 دون أن يكون لها خلف من بناتها، وبذلك تكون "مّا عتيقة " آخر رايسات فقيرات عائلة قارة بغلي الفنية التي زرعت الفرحة بين عائلات المدينة التي لم تخرج عنها في عملها طوال مشوارها الفني الطويل جدا.
وعلى الرغم من تقدمها في السن الذي ناهز 90 سنة، إلاّ أنها تتمتّع بذاكرة جد قوية وتتذكر كل التفاصيل ،وإن أعجزها المرض في أوقات كثيرة عن التعبير عنها،  يضيف باجين  مؤكدا بأن والدته رغم كثرة الطلب عليها في الأعراس، وفقت في تربيتهم و تلبية حاجياتهم، و استطاعت أن تجمع بين المهمتين.
 و قال بأنه و إخوته كانوا يتفهمون عملها و اعتبروه عملا ككل الأعمال، لأنه يتم في أجواء نسوية محترمة جدا، وقد تراجع نشاطها ابتداء من سنة 1990 ،إلى أن توقفت نهائيا عام 2000، وعن أحب الأطعمة إليها ، يقول أنها تفضل المحوّر (كسكس) و الطبيخ و المشلوش و كلها أطباق قسنطينية تقليدية.
 وتفهما لرغبة العائلة تعذر علينا تصويرها، أو نشر صورتها ، و عرفنا من ابن الفنانة أن للفقيرات سر على طريقة الصوفية، لذا لا يمكن الإحاطة بالموضوع الذي يتطلب تقمص أجوائه لتوريثه، وهو ما يجعله مهددا بودره بالاندثار، فيأخذ رواده سره المهنة معهم، وهم بدورهم يتجهون نحو الزوال في غياب من يرث الطريقة التي توارثت عبر الأجيال عن طريق السماع و الحفظ، باعتباره تراثا شفويا لم يتم تدوينه ولم يجد من يهتم به، على الرغم من أنه من المقوّمات التي تميّز شخصية قسنطينة متعددة العادات والتقاليد والفنون المتوارثة على مدار عمرها الذي يتجاوز 2500 سنة حسب المؤرخين، وهي فترة زمنية أثرت الزخم الثقافي فيها والذي يحتاج إلى  تدوين قبل اندثاره.                               

ص. رضوان

الرجوع إلى الأعلى